نحو ثقافة دينية رشيدة في زمن الفتن (1-2)
بقلم أسامة شحادة
شهدنا، في شهر ربيع أول، موقفين واضحين وصريحين تجاه ترسيخ ثوابت الإسلام وأحكامه وأدلّته الشرعية وإبطال المحاولات المتكررة لتحريف الدين والإسلام والتلاعب بأدلته ومصادره وأحكامه وتشريعاته من قبل السلطات الرسمية أو قوى في المعارضة، انطلاقاً من أرضية علمانية، وشاركهم في ذلك عدد من الشخصيات المحسوبة على العلم الشرعي الإسلامي ولكنها معروفة بشذوذها وانحرافها وسعيها خلف أهوائها ومصالحها الشخصية بالحصول على منصب أو سمعة أو دعم مادي أو معنوي كالدكتور سعد الدين الهلالي، فضلاً عن البعض الذي تحول من مسار العنف والتطرف الديني والغلو إلى مسار الانبطاح والتحلل والتطرف العلماني المضاد كأبي حفص المغربي!
وكان الموقف الأول لشيخ الأزهر د. أحمد الطيب، الذي بيّن وأصّل لمركزية السنة النبوية في التشريع الإسلامي وأن كل الدسائس ضد السنة النبوية هي -في حقيقتها- تهدف إلى هدم الإسلام، وأن جذور تلك المحاولات قديمة، وتعود لأكثر من قرن في الهند إبان هيمنة الاحتلال البريطاني عليها.
أما الموقف الثاني فهو الاستنكار الإسلامي العالمي لمساعي الرئيس التونسي لتبديل أحكام الشريعة الإسلامية في المواريث، ومن أبرز المستنكرين لهذا التحريف لقطعيات الإسلام الأزهر وجامعة الأزهر ودائرة الإفتاء المصرية، وكان في العام الماضي قد استنكر عدد كبير من علماء وشيوخ تونس هذا الموقف المصادم لقطعيات الإسلام وثوابته القرآنية.
وتكشف هذه المحاولات المتكررة والدائمة والمتغيرة الشكل والأدوات والمبررات أن مزاعم أعداء الإسلام بأن هدفهم تجديد الخطاب الديني ومحاربة التطرف والغلو وأنهم لا يسعون لتبديل الدين أو الاعتراض على الثوابت والقطعيات كلها مزاعم كاذبة وشعارات مضللة، فهاهم يسعون لضرب الإسلام وتفريغه من محتواه كما بيّن شيخ الأزهر بنفي حجية السنة النبوية التشريعية مما يعطل الإسلام، وضرَب مثالاً لذلك بالصلاة، وهي من أركان الإسلام القطعية، إذ أن نفي حجية السنة النبوية التشريعية والاقتصار على مرجعية القرآن الكريم يجعل من الصلاة أمراً مبهماً لا تُعرف حقيقته ولا كيفيته، والتي تكفلت ببيانها وتفصيلها السنة النبوية! والأعجب من هذا كله هو الحل الذي قدمه هؤلاء المحرفون للدين والإسلام لمعضلة كيفية الصلاة عند نفي السنة النبوية التي هي المصدر الثاني في دين الإسلام، حيث قال أحدهم إن كيفية الصلاة تتغير بتغير الزمان، ويضعها رئيس البلاد بمشورة مستشاريه! ولا أظن أن هناك تلاعبا بالدين يفوق هذا التلاعب من جهة وهيمنة وتدخل للسياسة في الدين من جهة أخرى، برغم مزاعم العلمانيين وأضرابهم بفصل الدين عن السياسة!
وكشفت دعوى الرئيس التونسي بتبديل قطعيات الإسلام أن القرآن الكريم وقطعيات الإسلام ليست مقدسة ومحصنة من الأهواء، وأن القوم ماضون في مصادم الدين لأبعد مدى.
إن مما يحتاجه المسلمون والمسلمات في هذا الزمان هو الحرص على امتلاك ثقافة دينية شرعية رشيدة من مصادر مأمونة تحصّنهم من مزالق تحريفات الغلو والتطرف الديني والعلماني للإسلام وأحكامه، وأيضاً تحصّنهم من مزالق التمييع للدين وتبديل أحكامه من قِبل أصحاب الأهواء والأغراض من أدعياء العلم والتدين وأصحاب الدعوات الهدامة واللادينية.
ومن أهم ركائز امتلاك هذه الثقافة الدينية الشرعية الرشيدة فهْم واستيعاب أن الإسلام بشريعته وعقيدته له حقيقة واضحة بيّنة كاملة رضيها الله عز وجل الخالق لعباده “اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً” (المائدة: 3)، ولذلك فأي دعوى بنسبية الحقيقة بشكل عام هي دعوى باطلة، أو أن الدين مسألة ذوق كالفن والأدب وليس له منهج علمي أو معايير موضوعية هي سفسطة خبيثة مقصودة وتهدف إلى نسف مكانة الدين ومرجعيته في حياة البشر، وأي دعوى أن هناك أشياء في الدين غير مكتملة أو أن العصر الحديث يتطلب تبديلا في الدين بخلاف ما كان في عصور سابقة تعتبر تكذيبا صريحا للقرآن الكريم.
وبعد استيعاب هذه الحقيقة يلزم إدراك أن حقيقة الدين يُتوصل لها من خلال ثلاثة مصادر كما يقول الأستاذ بسطامي سعيد في كتابه المتميز (مفهوم تجديد الدين): “إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك”.
ومن أدرك الخطوط العريضة لهذه المصادر الثلاثة لفهم حقيقة الدين والشريعة الإسلامية فإنه يكون قد حاز ثقافة دينية شرعية رشيدة تقِيه الشبهات والفتن، وتنير له الدرب للترقي في التدين السليم الذي يحقق له السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة، ويجلب للمجتمعات الوئام والنهضة ويجنّبها مسالك التطرف والغلو الديني والعلماني وكوارثه العنيفة، ويجنبها مهالك التهاون والتمييع التي تجتذب أمراض الترف والرفاهية المؤذنة بزوال العمران والمُلك.
وفي المقالات التالية سنتناول هذه المصادر الثلاثة (النصوص الموحاة وهي القرآن الكريم والسنة النبوية، ومعاني هذه النصوص، وآلية الاستنباط من النصوص) بنوع من التفصيل والشرح، والله الموفق.
وبعد أن تبيّن لنا أن الثقافة الدينية الشرعية الرشيدة التي تحصّن المسلم والمسلمة من كافة الشبهات الفكرية العصرية، أو ذات الجذور القديمة، تقوم على إدراك حقيقة دين الإسلام، والتي يُتوصل إليها بثلاثة أشياء، بحسب الأستاذ بسطامي سعيد في كتابه المتميز (مفهوم تجديد الدين): “إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك”.
نشرع في تفصيلٍ مختصرٍ للمصدر الأول لحقائق الدين والإسلام وهو: موثوقية نصوص الوحي التي يقوم الدين عليها.
إذ الدين والإسلام، والذي هو دين كل الأنبياء في تاريخ البشرية، يقوم على تلقي الوحي الرباني من قبل الرسل والأنبياء وتبليغه للناس “إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا” (النساء: 163).
ولذلك كان من أعظم الظلم والجرائم الكذب على الله عز وجل وادّعاء بعض الدجالين النبوة وتلقي الوحي، قال تعالى: “ومَن أظلمُ ممّن افترى على الله كذباً أو قال أوحِي إليّ ولم يوحَ إليه شيء” (الأنعام: 93).
ولما كان الإسلام والرسالة المحمدية خاتمة الرسالات فقد تكفل الرحمن بحفظها وحفظ وحيها، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى: “إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون” (الحجر: 9)، ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن السنة النبوية من الذكر الذي نزل من عند الله عز وجل وأنها مشمولة بالحفظ الرباني، قال الآمدى في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام): “والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن”.
والكلام في موثوقية وضبط النص القرآني كلام طويل لا يكفيه مقالات مطولة بل كتب ضخمة، ولذلك سأكتفي بإشارات تكفي المنصف وترشد المستكثر لمزيد من البحث والمطالعة، وقد سبق أن كتبتُ عدة مقالات بعنوان “قصة جمع القرآن الكريم” بيّنت فيها تفاصيل تكوين لجنة علمية لعملية جمع القرآن الكريم في مصحف واحد بعد أن كانت صحفا متفرقة مكتوبة على أشياء مختلفة من الجلد والعظم وعسب النخل والخشب وغيرها، وأن هذه اللجنة كان لها منهج علمي في غاية الدقة والموضوعية في مقارنة المكتوب من القرآن الكريم مع المحفوظ في الصدور، علماً أن الحفظ والثقافة الشفوية هما الأصل في ثقافة العرب وغيرهم من الأمم في ذلك العصر.
والتركيز على وثوقية ضبط القرآن الكريم كان منهجا سائدا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه رضوان الله عليهم، فهذا عمر الفاروق حين سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة “الفرقان”بخلاف ما حفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، أمسك به من ثيابه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمعت هذا يقرأ سورة “الفرقان” على غير ما أقرأتنيها! فقال رسول الله: “أرسله، اقرأ” فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ; فقال رسول الله: “هكذا أنزلت” ثم قال لي: “اقرأ” فقرأت فقال: “هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه”. متفق عليه.
وقد تطورت مع الزمن كثير من العلوم المساعدة لتوثيق وسلامة النص القرآني فظهر إعجام الحروف بالتنقيط حتى لا تختلط على غير العرب ثم ظهر التشكيل للحرف، ثم نما علم الرسم العثماني للقرآن الكريم وتقسيم القرآن الكريم لأجزاء وأحزاب، وهكذا.
وكانت نتيجة ذلك اعتراف العلماء المنصفين من كل ملة ودين بسلامة القرآن الكريم من النقص والزيادة أو التحريف والتبديل، بخلاف الكتب السماوية السابقة التي يعترف أهلها بوقوع التبديل والتحريف والنقص والزيادة فيها والتناقض، وهناك كتب وأبحاث عديدة تفصل دقائق هذا المنهج العلمي الفريد الذي أكرم الله عز وجل به المسلمين.
أما السنة النبوية فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بعلم الإسناد والتراجم بما يميزهم عن كل الأمم والشعوب، وبهذه العلوم وما تفرع عنها تمكّن المسلمون من حفظ السنة النبوية وحملها للبشرية جمعاء ليوم الدين، من خلال عقلية عبقرية إبداعية فصلتُ شيئا منها في مقالات سابقة بعنوان “عبقرية علماء الحديث”.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو من أرسى منهج الدقة والتثبت والإتقان في تلقي السنة النبوية بين أصحابه، فحين كان البراء بن عازب يتعلم من النبي الله صلى الله عليه وسلم دعاء ما قبل النوم أخذ يردده حتى يحفظه فأخطأ في كلمة بسيطة فجعل محل كلمة نبيك كلمة رسولك، فردّه النبي وأصلحها له! يقول البراء: قال عليه الصلاة والسلام:”إذا أخذتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك، فإن متّ من ليلتك متّ وأنت على الفطرة”، قال البراء: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال عليه الصلاة والسلام: قل:”آمنت بنبيّك الذي أرسلت” رواه مسلم.
ومن مظاهر توثيق السنة النبوية بمنهج علمي أن الرحلة والسفر لطلب تعلم السنة النبوية والتوثق من صحتها بدأ من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا جابر بن عبد الله يسافر على ناقته في الصحراء مسيرة شهر ليسمع حديثاً واحداً من عبدالله بن أنيس لم يكن سمعه جابر من النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر!
وروي عن أبي بكر الصديق أنه أول من تثبت في ضبط الاخبار حين حدّثه المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة سدس الميراث، فقال له الصدّيق: “هل معك غيرك” فشهد معه محمد بن مسلمة.
ومن نهج الصحابة والسلف كانت انطلاقة العلوم الشرعية المختصة بالتوثق من الروايات النبوية وفحْص سلامتها وطرح الدخيل عليها أو تصحيح الخطأ والوهم المختلط بها.
وقد بلغت علوم توثيق السنة النبوية حد تفريق العلماء بين روايات الراوي الواحد بحسب عمره فيَقبلون حديثه في مرحلة عمرية معينة ويرفضون حديثه في مرحلة أخرى! وقد يَقبلون حديثه إذا حدث عن كتاب ويرفضون حديثه من ذاكرته لسوء حفظه أو تغيره من السن! وقد يقبلون حديثه عن شيخ أو راوٍ معين ويرفضون حديثه عن غيره من الشيوخ أو الرواة لعدم طول اللقاء به والتثبت عنه!
في الختام؛ هذه إشارات في بيان الدقة البالغة في توثيق نصوص الوحي الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي حقيقة ساطعة يحق للمسلمين الافتخار بها على كل أمم الدنيا، ويلزم أن تكون هذه قناعة وثقافة دينية شرعية أصيلة لا تقبل أي تشكيك أو طعن، ويلزم أن تتوسع وتنتشر بكثافة الأبحاث والمقالات والكتب التي تقرب هذه الحقيقة لعامة المسلمين بكل وسائل التعليم ونشر الأفكار وبكافة اللغات لسد الطريق على طوفان الشبهات والافتراءات على الإسلام والشريعة الغراء.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)