مقالاتمقالات مختارة

مِنْ مَشاهِدِ الظالِمينَ فِي القِيامَة | الشيخ د. الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مِنْ مَشاهِدِ الظالِمينَ فِي القِيامَة | الشيخ د. الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

بسم الله الرحمن الرحيم

مشهدٌ مِن مشاهدِ القيامةِ، يصوره القرآنُ للظالمينَ، ذكره اللهُ في قوله: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)  يونس:54.

والمعنيون بالآية – كما ذكر أهل التفسير – هم مَن ماتَ مِن غير المسلمينَ مُطلقًا، ومَن ماتَ من المسلمينَ وفي عنقهِ مظلمةٌ واعتداءٌ على أحدٍ، في نفسٍ أو مالٍ أو عِرضٍ، وصَوّرت الآيةُ ما يلقونَه في مشهدٍ مفزعٍ مروّعٍ، تواجهُهُ كلّ نفسٍ ظَلَمتْ، فتعدّت على حُرماتِ الناسِ أو حرماتِ الدينِ، وماتتْ على ذلك الظّلم.

يتمنّى الظالمُ حين يرَى عذابَ النارِ وغمراتهِ، أنْ يفدِيَ نفسَه بمِلءِ الأرضِ ذهبًا لو استطاع، لِما يرى مِن شديدِ الكربِ وعظيمِ الهولِ، ممّا لا طاقةَ له بهِ، ولا صبر له عليه، يَهُونُ على الظالمِ في ذلك اليومِ مالُ الدنيا كلّها؛ ليفديَ نفسه مِن النارِ التي استوجبَها بالظلمِ، الذي أوقعَهُ الطمعُ في قليلٍ منه تافه، منصب أو جاه أو اختلاس ورشوة، أو حتى حفاظ على ملكٍ وسلطان، وكانَ أُريدَ منه لنجاتِهِ من العذابِ أهونُ مِن ذلك، أُريدَ منه ألَّا يَظلمَ، أَمَّا وقد ظلمَ واستكبرَ، فقد وجدَ ما عَمِلَ مُحضرًا، وتمنّى الفِداءَ بخزائنِ الأرضِ بأسرِها ممّا رأَى، وتمنِّيه في ذلكَ الوقتِ مِنْ تمنّي ما لا طَمعَ فيه، فلا تُقبلُ في القيامةِ مِن نفسٍ فديةٌ ولا شفاعةٌ! قال تعالى: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة:128] العدلُ الفِديةُ، والشفاعةُ معروفةٌ، ثم قال تعالى عن الظالمين: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) الندامةُ اللوعةُ والحسرةُ، والأسفُ الشديدُ عن شيءٍ حصلَ في الماضي، كانَ يمكنُ تداركُه وألَّا يَحصُل، ومعنى وأسروا الندامة: أنّهم لمّا رأوا فظاعةَ العذابِ وشدةَ الهولِ اُرْتِجَ عليهم وأصابهم كمدٌ، وذُهِلوا وبهتوا مِن الدهشةِ والحيرة، فحُبست ألسنتُهم، وأُغلق عليهم الكلامُ، حتى لم يستطيعوا صُراخًا ولا عويلًا.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) : فُصل في أمرهم، وحُكم بينَهم وبينَ مَن ظلموهم في الدنيا، بميزانِ القسطِ وحُكم العدلِ.

فويلٌ ثمّ ويلٌ مِن هذا اليومِ، لمن يستسهلونَ ظُلمَ الشعوبِ، ويُفسدونَ في الأرضِ، ويبغونَها عِوجا.

للّذينَ طغَوا في البلادِ، فأكثرُوا فيها الفسادَ، دمَّروا المدنَ، ونبشوا القبورَ، وقتلوا الدعاةَ والعلماءَ، وأعلنوا عداءَهم لشرعِ اللهِ.

ويلٌ لكلّ مسؤولٍ في سياسةٍ أو مالٍ، ممّن يقهرونَ شعوبَهم، ويمنعونَهم حقوقَهم، ويُطيلونَ أمَدَ معاناتِهم؛ وقوفًا عندَ ترتيباتِ أعدائِهم الأمنيةِ، ومخططاتِهم الشيطانية، يطيلونَ عناءَ مرضِ المريضِ، وفقر الفقيرِ، وحرمان المسكينِ، وحاجة الضعيفِ، وآلام ذوي العاهاتِ والمضطرين، يخذلونَ أمَّتَهم، ويُذلُّونَ أبناءَ وطنهمْ؛ طاعةً لأعدائِهم.

ويلٌ لمَن يستسهلونَ المداهماتِ والاعتقالاتِ، ويُلْبِسُونَ ضحاياهُم التُّهمَ كما يشتهونَ؛ خارجيّ داعشيّ، إخوانيّ متآمرٌ على الحكمِ، مقاتلة، مُعادي … إلخ، يُعذبونَهم بأبشعِ صنوفِ العذاب، يصلبونَهم ويعلقونَهم مكبّلِين، ويجلدُونَهم بالسياطِ الكهربائيةِ الحارقةِ، وفيهم الصُّوَّامُ والقوَّامُ والعُبادُ والعلماءُ وأهلُ القرآنِ والمصلحونَ وكِرامُ الناسِ، يُسيمُهمُ السفلةُ المخمورونَ والفجرةُ السابُّونَ للدِّينِ سوءَ العذابِ، لا يرعونَ فيهم حرمةً ولا ذمةً، ولا كرامةَ إنسان.

ولهؤلاءِ الجلادينَ شيوخُ سوءٍ، لا يقلُّونَ عنهم شرًّا، يستفتونَهم في ضحاياهُم، وهُم معلّقونَ، فيفتونَ بقتلِهم فيُقتَلون، فيَضلُّون ويُضلّون، ولآخرينَ في بلاد أخرى قضاةٌ مِن قُضاةِ النار، يَحكمونَ لهم بما يريدونَ.

ويلٌ لمَن ينهبونَ المال العام، ومَن يرشونَ لنهبِهِ ويرتَشونَ.

ويلٌ لِمن يُعطّلونَ القضاءَ، ولَا ينظُرونَ فيما رُفعَ إليهم مِن أحكامٍ، فلا يُقيمونَ العدلَ، ولا يحَكِّمونَ الشرعَ.

ويلٌ لمَن فرَّطوا في مقدّساتِ المسلمينَ، وخذلُوا المجاهدينَ، وسمّوهُم (إرهابيّينَ)، وتحوَّلَ حلفُهم ونصرَتُهم ومودّتُهم والإمدادُ بمئاتِ الملياراتِ مِن خزائنِ شعوبِهم إلى المحتلِّينَ، ومَن يقفُ وراءَهم مِن أعداءِ الدينِ، بدَلَ المجاهدينَ.

ويلٌ لمَن وأَدُوا حُلْمَ شعوبٍ تطلّعتْ للحريةِ؛ لتستردَّ حقوقَها المسلوبةَ لعشراتِ السنين، فجهّزُوا لها – بالتعاون مع الصهاينةِ – غرفةَ عملياتٍ في بلادهم، أمدُّوا مِن خلالِها عملاءَهم وأجهزةَ القمعِ وأعداءَ الشعوبِ بالمالِ الفاسدِ، وأسلحةِ الدمارِ والموتِ.

هؤلاءِ جميعًا وأمثالُهم، هم الذينَ يقولُ فيهم الباري سبحانَه في الآية السابقةِ فيما معناهُ: لو أنّ لأحدِهم ما في الأرضِ جميعًا من خزائنِ الدنيا، مِن أولها إلى آخرِها، ونفائسِها وجواهرِها، لَهانَ عليه أن يَفْديَ به نفسَه، مِن سوءِ ما يَرى مِن العذابِ يومَ القيامةِ، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فما نزلَ بهم هو ما يستحقونَه، فما ظُلِموا بالبأسِ الذي رَأوه، والعذابِ الذي لاقَوْه، ولكنْ أنفُسَهم كانُوا يظلمونَ.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى