مقالاتمقالات مختارة

مِحْنَةُ العـالِـمِ مع أهـل زمانه

مِحْنَةُ العـالِـمِ مع أهـل زمانه

بقلم ماجد الدرويش

من هو العالم؟ 

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: «ليس العالم: من كَـوَّرَ عِمامته، وعرَّضَ لحيته، وأطال سبَّحَته. بل العالم: من قرأ كثيرًا، وفهم ما قرأ، وعقَل ما فهِم، وعمِل بما فهم».

ثم يقول رحمه الله تعالى: «ومن صفات العالم: احتمالُ النقد، وردُّ الحجة بمثلها، والبعدُ عن السَّفَهِ، والتنزُّهُ عن التزلُّفِ إلى العامّةِ بالحشْويات، والأمراءِ بالنفاق».

هذا هو العالم الذي نتكلم عن محنته مع أهل زمانه. ولا يَفهمنَّ أحدٌ من العنوان أن كل الناس عندهم مشكلة مع علماء عصرهم، بل الأعم الأغلب يحترمون العالم ويقدرونه، إنما تبقى هناك بقيةٌ يغلب عليها الحسدُ والبغيُ اللذين تدفع إليهما المعاصرةُ والقصورُ عن بلوغ المعالي.

فإذا قدَّمَ الله تعالى عالـِما على أهل زمانه، وجعل له جاهًا ومكانة، انبرَتْ هذه الفئةُ القليلة، وانتهجت سبيل الافتراء المبني على إلزاماتٍ لا تمت إلى الحقيقة بصلة، والدافعُ الأساسُ إلى ذلك في الأغلب هو الحسدُ والمنافسة، وفي بعض الأحيان (تبييض الوجه على حساب الدين والحقائق).

والحسد هو تمني زوالَ النعمة عن المحسود وانتقالهَا إلى الحاسد، وهذا نجده عند البعض من أصحاب المهن المتشاكلة، ومنها مهنة (المشيخة)، إذ هي اليوم أقربُ إلى مهنةٍ مبنيةٍ على تخصص علمي (شهاده)، مثلُها مثلُ سائر الاختصاصات، وهذا شيءٌ غيرُ العلم، فإنك تجد العالمَ الفذَّ الـمُقَدَّمَ وليس بالضرورةِ أن يكون شيخًا حاملا للشهادة الشرعية. وتجد الشيخَ الحامل للشهادة الشرعية الـمُقدَّمَ في قومه وليس بالضرورة أن يكون عالما.

وتجد الشيخَ العالمَ الذي جمعَ الله تعالى له الأمرين، فهذا في غالب أحيانه يعيش محسودًا، وبالأخص إذا آتاه الله تعالى مالا وجاها، فيتوجه الحسدُ إليه من شركائه في التخصص، ومن المقدَّمين في المجتمع، وغالبُهم من الساسة، فكل فريق يجد أن هذا العالـِمَ الشيخَ ذا الجاهِ والكلمةِ المسموعةِ، والمكانةِ المرموقةِ، قد سدَّ عليه طريق التقدُّم والوصول، وهذا الظنُّ هو إلى الاعتراضِ على أقدار الله تعالى و قِسمتِه الأرزاقَ والأخلاقَ بين الناس أقربُ منه إلى الحسد..

بل ربما أُلبِس التهجُّم على العالِـم لباس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هو على الحقيقة إلا «حبُّ الرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء» على ما قاله الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام ابن حزم من كتابه (سير أعلام النبلاء) رحمهما الله تعالى.

ويوم شقَّ الإمام أبو حنيفةَ طريقَ الفقه، وفتح بابه بعد أن كان قِـفْلًا، نالته سهامُ بعض علماء عصره الذين لم يدركوا قيمة ما جاء به، والذين كانوا يركنون إلى الأخبار التي تأتيهم من بعض طَلَبَةِ العلم الذين يفترون على الإمام أبي حنيفة، فكان هؤلاء العلماء ينالون منه غيابيًا دون معرفة مباشرة، ودون التثبت مما وصلهم من اتهامات باطلة في حقه، حتى إذا قُدِّرَ لهم التعرفُ به، والكلامُ معه، اعترفوا بأنهم كانوا مخطئين في حقه، وهذا ما حصل مع الإمامين الأوزاعيِّ ومالكٍ، رحمهما الله تعالى، وأخبار ذلك مشهورةٌ، حتى إن إمامًا مثل عبد الله بن المبارك، وهو من تلاميذ أبي حنيفة والأوزاعي، كان يقول: «اذا سمعتهم ينالون من أبي حنيفة خشيتُ عليهم المقتَ من الله»، وما ذلك إلا من شدَّةِ ما كان يقال في حقه من افتراء.

وكل ذلك لأنه جاء أهلَ زمانه من العلماء بما لا قِـبَـل لهم به، جاءهم بمنهجٍ في الفقه يقوم على دراسة النصوص الحديثية الظنيةِ على ضَوْءِ عرضها على عمومات القرآن الكريم القطعيه، مُظهرًا عن عقلٍ، وفهمٍ، وإدراكٍ قَـلَّ نظيره، حتى قال الشافعي- وهو من هو -: «كلنا في الفقه عيال على أبي حنيفه».

هذا أنموذج عن محنة العالم الذي جاء وصفه في كلام الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى مع بعض أهل عصره، ومنهم العلماء، فما بالكم عندما يكون المتقولون عوامَّ جُهلاء؟ حينها نردد مع الإمام محمد بن الحسن الشيباني: «العامّةُ عمى، ولو أنَّ العامّةَ عبيدي لأعتقتهم وتبرَّأتُ من ولائهم».

ورحم الله تعالى القائل:

وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ……….. طُوِيَتْ، أتاح لها لسان حسودِ

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ .. ما كان يُعرف طيب عَرْفِ العودِ.

 

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى