مُلَح لابن تيمية
بقلم عبد العزيز التميمي
ومن تلك الـمُلَح والشوارد أنَّه – رحمه الله – ينبِّه في الأمور الجليلة والمعاني الرفيعة والأحوال الشريفة إلى عجز العقول عن الإحاطة بها، وقصور العبارة عن الإفصاح بها
قال القاضي صدر الدين الحنفي (ت 728هـ) لبعض أصحابه: «أتحب ابن تيمية؟ قال: نعم! قال: والله! لقد أحببت شيئاً مليحاً»[1].
وها هنا مُلَح منثورة فيها تقييد شوارد وصيد علائق حرَّرها وحققها ابن تيمية ينتفع بها المبتدي والمقتصد، وقد يأنس بها المنتهي والمجتهد.
منها: أنَّ لابن تيمية مناظرات مشهورة، وصولات معلومة، أفحم فيها المخالف بالردِّ والنقض، أو على وجه التسليم والفرض، أظهر فيها الحق ورحم بها الخلق، فهابه مخالفون وخصوم، فولَّوا على أعقابهم مدبرين، كما في هذه الواقعة التي جرت لأبي العباس مع أحد رؤوس كيمياء الغش والخداع وأكل أموال الناس بالباطل، قال رحمه الله: «وقد قال لي رأس من رؤوسهم لما نهيته عنها، وبيَّنت له فسادها وتحريمها، ولما ظهرت عليه الحجة أخذ يستعفي عن المناظرة ويذكر أنه منقطع بالجدال…»[2].
ولما صدر مرسوم السلطان بمصر آنذاك سنة 707هـ بأن يحضر ابن تيمية ويناظر القضاة، فلم يحضر منهم أحد! قال ابن كثير: «طلبوا القضاة فاعتذروا بأعذارٍ، بعضهم بالمرض وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوٍ عليه من العلوم والأدلة، وأنَّ أحداً من الحاضرين لا يطيقه»[3].
ولما ترجم ابن كثير للبكري (ت 724هـ) وأنَّه أراد محاججة ابن تيمية ومناظرته قال: «وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كَدِرة لاطمت بحراً عظيماً صافياً، أو رملة أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاء عليه»[4].
ومن الـمُلَح الماتعـة والعجـائب الباهـرة لدى ابن تيمية درايتُه الفائقةُ بالوقائع والأحداث والأحوال، وأن موارد هذه الدراية الثاقبة أنه عرفها وسبرها وأحاط بها علماً عن طريق أعداد هائلة من الأشخاص، ومن رجال لا يُحصَون، ومن مختلف الملل والنحل، والطوائف والفرق؛ فكيف استطاع ابن تيمية استيعاب هذه (الماجريات) الكثيرة؟ بل كيف قدر على التواصل والمخاطبات واللقاءات مع أقوام هم على النقيض من منهجه؟ وأعجب من ذلك كله: كيف طوَّع هذه الأحداث في تقرير الحق ودحض الباطل؟ فتارة يقول: «وقد جرب أنَّ من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزُّلٌ شيطاني، وخطابٌ شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عدداً طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزُّل، فنزلت عليهم الشياطين… ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معيَّنة، وقوت معيَّن، ولهم تنزلات معروفة… وهي تنزلات شيطانية قد عرفتُها، وخبرت ذلك من وجوه متعددة»[5]، وقد قال في سياق ذلك مطوعاً لهذه المعرفة والتجربة في بيان الحق وردِّ الباطل: «وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين، واشتبهت عليهم الأحوال الرحمانية بالأحوال الشيطانية، وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة، وظنوا أنَّ ذلك من كرامات أولياء الله المتقين…»[6].
ويقول في موضع آخر هاتكاً مكايد الشيطان وزاجراً جهلة العبَّاد: «وأعرف من يقصد صيد الطير، فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء [أي: الصوفية]، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك… وأعرف من يخاطبه مخاطِب ويقول له: أنا من أمر الله، ويَعِدُه بأنَّه المهدي الذي بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم ويُظهِر له الخوارق… وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير»[7].
ومن ذلك أيضاً ما قاله رحمه الله: «أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به، وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له. هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية؛ فإنَّ كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنَّه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال؛ قال: هذا مَلَك صوَّره الله على صورتي»[8].
ولما تحدث – في موطن رابع – عن شرور الشياطين وغوايتهم، وأنَّ الآدميين إذا كتبوا أو قالوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم، قال عقب ذلك: «وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعيَّنة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته؛ فإنهم كثيرون جداً»[9].
وأخبر عن لقياه بالمنجمين فقال: «وهكذا المنجمون حتى إني خاطبتهم بدمشق، وحضر عندي رؤساؤهم، وبيَّنت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها، قال رئيس منهم: والله! إنَّا نكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة»[10].
وحكى ما جرى له مع الاتحادية الملاحدة، وأنَّ بعض أكابر شيوخهم حدَّثه أنَّ سعد الدين بن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلَّا فرقٌ لطيف، فأجابه ابن تيمية بقوله: «هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد»[11].
وقال في المنهاج[12]: «وكون أبي بكر كان موالياً للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره أمرٌ علمه المسلمون والكفار، والأبرار والفجار، حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون: إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وثالثهما عمر، لكن لم يكن عمر مطلعاً على سرِّهما كله…».
ومن تلك الـمُلَح والشوارد أنَّه – رحمه الله – ينبِّه في الأمور الجليلة والمعاني الرفيعة والأحوال الشريفة إلى عجز العقول عن الإحاطة بها، وقصور العبارة عن الإفصاح بها، ومن ذلك قوله عمَّا يختص به الله عز وجل: «ولكن نعلم أنَّ ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال»[13]. وقوله هذا نظير قول الطحاوي في (عقيدته): «لا تبلغه الأوهام، ولا تُدركه الأفهام»، ونظير مقالة الشريف أبي علي بن أبي موسى: «لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيَّته ببال»[14].
ولما تحدَّث عن فوائد الذِّكر ونتائجه وصفه بأنَّه: «لا يعبِّر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان»[15]، وقال عن سورة هود: «فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من المواعظ والحِكَم والترغيب والترهيب ما لا يقدر قدره إلا الله»[16].
ومن تقييد الأوابد ها هنا أن ابن تيمية آية في وصف الأشياء والأحوال بعلم راسخ وعدل ظاهر، فيتحدث عنها رأي العين، ويبني حكمه الشرعي وَفْقَ هذا الوصف الدقيق، كما في كلامه عن صاحب الشطرنج حيث قال: «ومن المعلوم أنَّ هذا [يعني صدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة] يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما، وإن لم يكن فيه عوض، فإنَّ أحدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه، وفيما يريد أن يفعل هو، وفي لوازم ذلك، ولوازم لوازمه، حتى لا يحسَّ بجوعه ولا عطشه، ولا بمن يسلِّم عليه، ولا بحال أهله، ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله، فضلاً أن يذكر ربه أو الصلاة. وهذا كما يحصل لشارب الخمر؛ بل كثير من الشرَّاب يكون عقله أصحى من كثير من أهل الشطرنج والنرد. واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها إلا بدست بعد دست، وتبقى آثارها في النفس بعد انقضائها أكثر من آثار شارب الخمر، حتى تعرِض له في الصلاة، والمرض، وعند ركوب الدابة، بل عند الموت، وأمثال ذلك من الأوقات التي يُطلب فيها ذكره لربه وتوجهه إليه، تعرض له تماثيلها، وذكر الشاه والرَّخ والفرزان ونحو ذلك»[17].
ومن مُلَح ابن تيمية بل من فتوحاته التي فتح الله بها عليه ومنهجيته العلمية التأصيلية أنَّه طالما قرَّر وكرَّر، وأبدى وأعاد تأملات كثيرة واستقراءات عديدة، وصدَّر قواعد جليلة من خلال تدبُّر عميـق وتتبُّع دقيق، نورد مثالاً واحداً عليها، قال – رحمه الله -: «ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنيَّة على قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: ٣]، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية – هي ترك واجب أو فعل محرم – لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغٍ ولا عادٍ…»[18].
ومن مُلَح ابن تيمية في آخر هذه الورقة أنَّ جود أبي العباس بالعلم يدهش الأسخياء، لكن يعكِّر على هذا الكرم والجود عجلة السائل أو ندرة الأوراق، كما حصل كثيراً لأبي العباس، كما في قوله: «وقد كتبت في أصول هذه المسائل قواعد متعددة وأصولاً كثيرة ولكن هذا الجواب كُتِب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة»[19]، وقوله: «لكن هذا الموضع فيه اشتباه وإشكال لا تحتمل تحريره هذه الفتوى؛ لأنَّ صاحبها مستوفز عجلان يريد أخذها»[20]، وقال أيضاً: «وهذه المسألة لها بسط لا تسعه هذه الورقة»[21]، وقال في موطن ثالث: «لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا»[22].
رحم الله أبا العباس ورفع درجته في المهديين قد جاد بعلمه – بل جاد بنفسه – في ذات الله، وما كان لشح أوراق أو عجلة سائلين أن يحول عن بسط علمه وظهور كتبه وقد بلغت ألف عنوان، وصارت شمساً للعارفين، وترياقاً مباركاً للمجرِّبين، وما كان بالله فإنَّه يكون، وما كان لله فإنَّه ينفع ويدوم.
[1] ينظر: البداية والنهاية لابن كثير، حوادث سنة 709هـ، (18/96).
[2] ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 375).
[3] ينظر: البداية والنهاية لابن كثير، حوادث سنة 707هـ، (18/74).
[4] البداية والنهاية، حوادث سنة 724هـ، (18/247).
[5] مجموع الفتاوى (10/395 – 403).
[6] مجموع الفتاوى (10/400).
[7] مجموع الفتاوى (11/300 – 301).
[8] مجموع الفتاوى (17/456).
[9] مجموع الفتاوى (19/35).
[10] مجموع الفتاوى (35/172).
[11] مجموع الفتاوى (2/196). وينظر: جامع المسائل (4/424 – 425).
[12] منهاج السنة النبوية (8/434 – 435).
[13] التدمرية ص43.
[14] ينظر: بيان تلبيس الجهمية (2/388).
[15] مجموع الفتاوى (22/511).
[16] مجموع الفتاوى (15/107).
[17] مجموع الفتاوى (32/227 – 228).
[18] القواعد النورانية، ص 143. وينظر: مجموع الفتاوى (19/213)، (29/207).
[19] مجموع الفتاوى (12/ 116).
[20] مجموع الفتاوى (12/416).
[21] مجموع الفتاوى (32/137). وينظر: (8/ 157)، (28/ 6)، (31/40).
[22] مجموع الفتاوى (35/144).
(المصدر: مجلة البيان)