ميزان الاعتدال في تعامل العلماء مع الحكام
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
في تراثنا السياسي الإسلامي وفي عصور الخلافة المتتالية نجد تحذيرا واضحا من الدخول على السلاطين والحكام، وأن من دخل عليهم افتتن، وباع دينه بدنياه حتى يبيع دينه بدنيا غيره.. وانتشرت هذه المقولة في تراثنا السياسي الإسلامي لتكون قضية مسلمة وحكمًا عامًّا في حرمة الدخول على الحكام حتى ألف السيوطي رحمه الله تعالى كتابا أسماه: “ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين” أورد فيه مقولات تقطع بمنع دخول العلماء على الحكام! حتى قال بعدما أورده من أدلة: (ذهب جمهور العلماء من السلف، وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها سواء دعوه إلى المجيء إليهم -أي السلاطين- أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها. قال سفيان الثوري: «إن دعوك لتقرأ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تأتهم» رواه البيهقي ..) ا.هـ. [تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ويليه ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين: 184. دار الكتب العلمية].
ونحن لا نسلم بهذه المقولة على إطلاقها، ولا نأخذها على عواهنها، فينبغي حمل هذا المنع على ظروف خاصة، وحالات بعينها، لا تمثل حكمًا مطردا، ولا نهيا عاما يحرم تعامل العلماء مع الحكام، ويحصر تعاملهم معهم عن بعد وفي نهيهم والإنكار عليهم.
صحيح أن الحكام في كل عصر استخدموا علماء الدين في تمرير ما يريدون، وفي تسويغ ما يفعلون، وفي إضفاء غطاء شرعي على جرائمهم ومخالفاتهم في تعطيل مصالح الخلق ومخالفة الحق، لكن هذا لا يكون مسوغًا لإعطاء حكم عام انطلاقاً من وقائع بعينها في عصور بعينها وحالات بعينها وحكام بأعيانهم؛ إذ عندنا في تاريخنا صور مشرفة لتعامل العلماء مع الحكام واستقامتهم بهم وتقويمهم بنصائحهم تعدل النماذج الأخرى الفاسدة الفاجرة!
السلطان الحق من نعم الحق على الخلق
والسلطان الحق نعمة من نعم الله تعالى على عباده، ولهذا فإنه إذا تولى بحق فلا غنى له عن نصيحة العلماء وتوجيههم ومشورتهم حتى قال ابن عطية: “والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه”. [المحرر الوجيز: 1/534. دار الكتب العلمية].
والسلطان الحق تقوم به حدود الله، ويُحرَس به الدين، وتساس الدنيا به وفق الدين؛ ولهذا فإن الله يزع به ما لا يزع بالقرآن، ويمحو به ما يشاء ويثبت بما لا يمحوه بشيء آخر، ولا ننسى حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله”، وذكر منها: “إمام عادل” [رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة]؛ ولهذا وجب التفريق عند الحديث عن هذه القضية بين سلاطين العدل وسلاطين الجور، وبين علماء السلطان وعلماء القرآن.
وجوب التفرقة بين سلاطين العدل والجور وبين علماء السلطان والقرآن
فنحن مع سلاطين العدل لا يمكن أن نقول بحرمة الدخول عليهم بل يجب تقديم العون والمشورة لهم والنصيحة الصادقة في كل أمر يحزبهم وينزل بهم، وهذا لا يكون إلا من علماء الحق والصدق.
أما علماء السلاطين فهؤلاء ربما يضلون الحكام، ويزينون لهم السوء، ويوشون عندهم بالعلماء الصادقين والدعاة الربانيين كما تواترت بذلك قصص ومواقف في التاريخ القديم والحديث سواء؛ ولهذا يجب تحذير هؤلاء الحكام من إدخال علماء السلاطين والنفاق عليهم!.
أما حكام السوء وسلاطين الظلام والضلال والقتل والإفساد في الأرض فهؤلاء لا يدخل عليهم العالم إلا منكرًا، ناهيًا لهم عن مسلكهم، ومحذرًا لهم من مغبة أفعالهم، وهذا لا يكون إلا من علماء القرآن العاملين الصادقين.
أما علماء السلاطين فيزينون لهم أفعالهم ليروها حسنة، ويشرعنون لهم القتل والفساد والإفساد والجرئم التي يقومون بها، بل يقومون بتحريض هؤلاء الحكام الطغاة على علماء الحق ودعاة الصدق ليفتكون بهم وينزلون عليهم غضبهم وسخطهم وعقابهم حين يتلقى علماء الحق ذلك حسبة لله في رضاء واحتساب غير مبالين بغضب الحكام وسخطهم، وإنما يسعون لرضا الله وفضله، شعارهم قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: “إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي”!.
خطأ تنزيل نصوص طاعة السلطان وفضله على سلاطين الجور
ومن الخطأ البين أن ننزل النصوص الشرعية الآمرة بطاعة الحكام ما داموا يطيعون الله ورسوله على أمراء السوء وسلاطين الفُجر والفساد، فهذا خطأ في مناط النصوص حمل كثيرا من العلماء قديما وحديثا على التحذير من الدخول على الحكام والنهي عن ذلك.
ولهذا قال الإمام الجمال يوسف بن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله تعالى (ت:909هـ) بعد سرده لأحاديث فضل السلطان، وطاعته: “العجب من بعض المُتفقِّهة الفجَرة! يذكرون هذه الأحاديث لكثيرٍ من الظلَمة، ممن انغمس في الظلم، وعامَ فيه وسبَح، وأخذ أموال الناس من غير حِلِّها، وقتل النفسَ الحرامَ أكثر من ألفِ مرة بغير حقّ، واستحلَّ أموال الناس، ودماءَهم وأعراضهم، ويُزيِّن له أنه عادل، ولولا أنت ولولا أنت! ليتوجَّه بذلك عنده، ويُنفق سوقَه، فلا كثَّر الله في المسلمين مِن أمثالهم”. [إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة لابن عبد الهادي: 123. دار النوادر. سوريا. 1432هـ].
وقال أيضًا : “فالعجبُ كلَّ العجب من كلب نجس لا دين له ولا عقل، ومع ذلك يزعم أنه فقيه، ويدخل على الظلمة الفجَرة في القرن التاسع والعاشر، ويُزيِّن لهم، ويُحسِّن لهم أنهم على العدل، وأنهم من العادلين! مع قتل النفس المُحرمة، وعدم توقِّي دماءَ المسلمين وأموالَهم وأعراضهم، ومع ذلك منهم مَن يُزين لهم ذلك، وأنه خير، وأن بعض أئمة الإسلام أباح قتل الثُّلثين في صلاح الثُّلث، ونحو ذلك..! وكلُّ ذلك زورٌ وبهتان، وافتراءٌ على الأئمة، لا حقيقة له ولا أصل، ومَن عنده إيمانٌ ومعرفة؛ يعلم أنه لا يَحِلُّ قتلُ أدنى أدنى نفسٍ مُسلمة لصلاح أحد، كائنًا من كان، ولو اجتمع أهلُ الأرض على قتْل نفسٍ مسلمة بغير حق أكبَّهم الله به في نارِ جهنم”. [إيضاح طرق الاستقامة: 127].
هؤلاء الحكام الظلمة واجب العلماء نحوهم هو الإنكار وليس المداهنات في دين الله أو المجاملات على حساب شريعته، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنها ستكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن لا إيمان بعده”. [رواه البزار في مسند 1896].
إذ المجاملات والمداهنات تعمل على توسيع مساحات الطغيان وتمكين دوائر الفساد؛ ولهذا ربط أبو حامد الغزالي بين فساد الحكام وفساد العلماء فقال: “إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم”. [إحياء علوم الدين: 2/ 150. دار المعرفة].
نماذج مشرفة من التاريخ
وقد حفظ لنا التاريخ نماذج مشرفة من العلماء الأحرار ضد سلاطين الجور، ومن ذلك ما أورده الإمام الذهبي من قصة إنكار الأوزاعي على السفاح قال: حدثنا الأوزاعي، قال: بعث عبد الله بن علي إلي، فاشتد ذلك علي، وقدمت، فدخلت، والناس سماطان فقال: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قلت: أصلح الله الأمير! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة. قال: لتخبرني. فتفكرت، ثم قلت: لأصدقنه، واستبسلت للموت، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال وبيده قضيب ينكت به، ثم قال: يا عبد الرحمن: ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان، عن مطرف بن الشخير، عن عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث . . .” . فقال: أخبرني عن الخلافة، وصية لنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ترك علي -رضي الله عنه- أحدا يتقدمه. قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالا، فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراما، فهي عليك أحرم. فأمرني، فأخرجت.
قلت –يعني الذهبي- قد كان عبد الله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا -قاتلهم الله- أو “يسكتون مع القدرة على بيان الحق”). [سير أعلام النبلاء: 1497-1498. تحقيق شعيب الأرناؤوط والعرقسوسي. مؤسسة الرسالة].
ولما علم الإمام أحمد بإدخاله على المأمون جثى على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: (سيدي غرّ حلمُك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم إن يكن القرآنُ كلامَك غيرَ مخلوق فاكفنا مؤنته) فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل. قال الإمام أحمد: (ففرحنا) [البداية والنهاية: 10/366. دار إحياء التراث العربي].
أما سلطان العلماء العز بن عبد السلام فله مواقف مشرفة في هذا المقام تذكر فتشكر، من ذلك:
**حين أنكر على حاكم دمشق “الصالح إسماعيل” تحالفه مع الصليبيين وتنازله لهم عن بعض المواقع، وسماحه للناس ببيع السلاح للإفرنج، فأفتى الشيخ بتحريم ذلك كله، وأعلن موقفه على المنبر، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: “والله ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً عن أن أقبّل يده. يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به“. فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لي أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم.
**ومن ذلك أيضا بيعه لأمراء المماليك الذين كان يستعملهم الملك نجم الدين في خدمته وجيشه وتصريف أمور الدولة، فقد أبطل “العز” تصرفاتهم، لأن المملوك لا ينفُذُ تصرُّفُه شرعاً. وقد ضايقهم ذلك، وعطّل مصالحهم، فراجعوه فقال: لابد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتُباعوا فيه، ويردَّ ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي… فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض؟.
وثار نائب السلطان وذهب في جماعة من الأمراء إلى بيت الشيخ يريدون قتله، فلما رآهم ابنه فزع وخاف على أبيه، فما اكترث الشيخ، بل قال: “يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله” أي إن من يُقتَل في سبيل الله يكون على مرتبة عالية عند الله، لم أَبْلُغْها!. وغضب الملك نجم الدين أيوب من هذه الفتوى وقال: ليس هذا من اختصاص الشيخ، وليس له به شأن!. فلما علم “العز” بذلك عزل نفسه عن القضاء، وقرر العودة إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان. وجاء من هَمَس في أذن الملك: متى ذهب الشيخ ذهب مُلكُك. فخرج الملك مسرعاً ولحق بالشيخ، وأدركه في الطريق وترضّاه، ووعده أن ينفّذ حكم الله في المماليك كما أفتى الشيخ. فرجع العز ونفّذ الحكم!.
وموقف ثالث لسلطان العلماء؛ حيث كان مع الملك نجم الدين أيوب نفسه. ذكر السبكيّ في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، إلى القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه! فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى ذلك؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات! فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون؟! وقد أمر السلطان بإقفال الحانة فوراً. ثم سأل الشيخَ أحدُ تلامذته: أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا؟! فقال الشيخ: استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ!”. [راجع هذه المواقف وغيرها في كتاب د. محمد الزحيلي: ” العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك الداعية المصلح القاضي الفقيه الأصولي المفسر”. ضمن سلسلة أعلام المسلمين رقم 39. دار القلم دمشق]
***
والخلاصة أن هذا يبين لنا بجلاء أن المقولة التي شاعت في تراثنا السياسي حتى استقرت بحرمة الدخول على الحكام هي مقولة غير مسلمة، ولا يمكن الأخذ بها باطراد، فيجب التفريق بين حكام الحق والصدق والعدل الذين يجب عونهم وتقديم المشورة الحقة والنصيحة المخلصة لهم، والذين وردت النصوص بفضلهم ومكانتهم، ويجب على هؤلاء الحكام ألا يُدخلوا علماء النفاق عليهم .. أما علماء الجور فهؤلاء لا يمنع الدخول عليهم كذلك، بل إذا أتيح فهي فرصة للعلماء الربانيين للإنكار عليهم والنصح لهم – والدين النصيحة – وإقامة الحجة عليهم، أما علماء السلاطين فهؤلاء يقومون بدور ” التيس المستعار” للحكام: ينافقونهم، ويبررون لهم انحرافهم، ويشرعنون لهم جرائمهم .. ومن رحمة الله تعالى أنه لم يُعدم تاريخنا من نماذج مشرفة قدمت النصح لحكام الجور، وصدعت بالحق وقالت الصدق، وما أحوجنا لهم في عصرنا وفي كل عصر، وهم لا يخلو منهم جيل ولا مكان بحمد الله ولطفه، وما أصدق قول الشاعر:
إن الذي خلق الحقيقة علقمًا ** لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا
(المصدر: موقع البصائر)