بقلم عصام تليمة
قضية ميراث المرأة يطرحها بين الحين والآخر البعض تحت دعوى: الدفاع عن قضية المرأة، والحرص عليها، مصدرين للناس أن الإسلام ظلمها بإعطائها نصف الرجل، وهو أمر ينطلق عن جهل كبير بالإسلام وتشريعه ونظامه. فالميراث في الإسلام محور من محاور باب النفقات المالية في الأسرة، يدرس في جزء كبير مستقل في كليات الشريعة والحقوق، يختزله البعض في حالة واحدة من الميراث، وهو نظام مالي في النفقات كاملا، ينتزع منه على هوى من يتكلم في الموضوع.
وللإسلام فلسفة مهمة في الميراث، تبين أن نصيب الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة، يقول الدكتور محمد عمارة: (إن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات – في فلسفة الميراث الإسلامي – إنما تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجة القرابة بين الوارث – ذكرا أو أنثى – وبين المُوَرَّث – المتوفى – فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين.
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من الأجيال التي تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها – عادة – مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه – وكلتاهما أنثى – بل وترث البنت أكثر من الأب! حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التي للابن، والتي تتفرد البنت بنصفها! وكذلك يرث الابن أكثر من الأب، وكلاهما من الذكور!
وفي هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حكم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين! وهي معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق.
وثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى. لكنه تفاوت لا يفضي إلى ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها. بل ربما العكس هو الصحيح!
ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة، واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال – مثل أولا المتوفَّى، ذكورا وإناثا – يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في تفاوت أنصبة الميراث). انظر: التحرير الإسلامي للمرأة للدكتور محمد عمارة ص: 68،67.
إن المتأمل لأحكام المواريث بالنسبة للمرأة، سيجد لها حالات متعددة في الشرع الإسلامي، فتارة ترث المرأة نصف الرجل، وتارة أخرى ترث مثل الرجل تماما، وتارة ثالثة ترث ضعف الرجل، وتارة رابعة ترث المرأة ولا يرث الرجل. ونفس الكلام يقال عن شهادة المرأة وأنها نصف الرجل، فهو كلام ليس على إطلاقه، فهناك حالة تكون شهادة المرأة نصف الرجل، وهناك حالات تكون شهادتها مساوية تماما لشهادة الرجل، وحالات تقبل شهادة المرأة وترفض شهادة الرجل، وهكذا سنجد أن القضية يتناولها من لا يفقه الشرع، ولا يلم بتفاصيله من زاوية واحدة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: العقل الأعور، وهو الذي يرى زاوية واحدة من القضية مغفلا بقية الزوايا والتي بها تتكامل الرؤية وتتضح.
والدليل على ذلك أن الآية التي يستشهد بها من يزعم أن الإسلام ظلم المرأة، وأعطاها نصف الرجل، هي نفسها التي بينت أنها تتساوى مع الرجل في حالات أخرى، دلالة على أننا أحيانا تلقى إلينا الشبهة عن الإسلام، فنستسلم لها، دون إعمال للفكر، والعقل، بميزان الشرع.
وقد أبدع في بيان هذه الحالات المختلفة للمرأة في ميراثها العالم الجليل دكتور صلاح سلطان فك الله أسره، فقد كتب دراسة رائعة بعنوان: (امتياز المرأة على الرجل في الميراث والنفقة) وكان بيانه لهذه الحالات الأربع التي ذكرتها عن حالات ميراث المرأة مع الرجل كما يلي ملخصا:
1ـ حالات يأخذ فيها الذكر ضعف الأنثى: هناك حالة يأخذ فيه الرجل ضعف المرأة، وهي كما هو واضح ومبين عندما يتوفى رجل ويترك أولادا ذكورا وإناثا، فنصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، كما في قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) النساء: 11.
2ـ حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل: وهناك حالات تتساوى فيه المرأة مع الرجل في الميراث، والعجيب في الأمر وهو ما يدل على جهل من يهاجمون الإسلام في اتهامه بإجحاف المرأة في الميراث، أن هذه الحالة التي تتساوى فيها المرأة بالرجل في الميراث في نفس الآية التي يستشهدون بها، يقول تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس) النساء: 11. فهذه حالة من الحالات التي تتساوى فيها المرأة بالرجل، وهي إذا ما مات إنسان وترك أبا وأما، فالأب والأم هنا يتساويان تماما في التركة، وهما رجل وامرأة في نفس درجة القرابة للميت، فكل منهما يرث سدس التركة.
والحالة الثانية التي تتساوى فيها المرأة بالرجل في الميراث، إذا ما مات إنسان ولم يكن له أبناء، ولا أب أو أم، وترك أخا وأختا، أو إخوة وأخوات، فعندئذ يتساوى الإخوة والأخوات رجالا ونساء في الإرث، يقول الله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك هم شركاء في الثلث) النساء: 12.
3ـ حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل: وهناك حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، فمثلا لو ماتت امرأة وتركت: زوجا وأبوين وبنتين، يكون توزيع التركة كتالي: الزوج (وهو رجل) الربع، والأب السدس (وهو رجل) والأم السدس، وللبنتين الثلثان، أي أن نصيب كل بنت من البنتين أكثر من نصيب الأب وهو رجل، وأكبر من نصيب الجد وهو رجل. ولو كانت البنتان هنا بنتا واحدة، لأخذت النصف، ولأخذت بالطبع ضعف الأب وهو رجل، وأكثر من الجد وهو رجل.
4ـ حالات ترث المرأة ولا يرث الرجل: وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل وهما متساويان في درجة القرابة للميت، وهي في حالات وجود جدة لأب مع جد لأم مع وجود وارثين آخرين، ترث الجدة لأب وهي امرأة، ولا يرث الجد لأم وهو رجل. ولمزيد من النماذج والتفاصيل يرجع لرسالة الدكتور صلاح سلطان فك الله أسره التي أشرنا إليها.
هذه حالات مختصرة، ولم أرد الإسهاب في النقل، وذلك للشرح والتقريب فقط، فلو أضفنا كل ما سبق إلى أن الإسلام ترك أمر النفقة في البيت، فالقوامة التي ذكرها القرآن الكريم هي النفقة، فقد قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) النساء: 34، وكذلك الرجل مطالب شرعا عند زواجه بالمرأة بأن يدفع إليها المهر قال تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) النساء: 4، وتكاليف الحياة للرجل، وكلفه بها، فعندئذ سنجد الإسلام كان مميزا للمرأة ولم يكن متحاملا عليها، كما يشيع المغرضون، وهو مجال سبق به الإسلام كل التشريعات، ويحتاج إلى أن نفرده بمقال وحده.
قد يقول قائل: أنتم تحدثوننا عن النفقة، لكن المرأة الآن تعمل، ولا ينفق عليها زوجها، أو أخوها عند الاحتياج، فهل هنا يتغير الحكم؟ الإجابة: لا، لا يتغير الحكم الشرعي، لأن ما ينتج عن عملها من مال فهو ملك خاص بها، لا يستطيع الزوج أن يجبرها ولا يوجب عليها الشرع أن تنفق منه على البيت، أو على الزوج، بل تفعله اختيارا منها إن شاءت، ولذا جعل الشرع امتناع الزوج عن النفقة على الزوجة ولو كانت غنية، من الأسباب التي يحق لها أن تطلب الطلاق عند القاضي، ولا يحتج الزوج بغنى الزوجة، فغناها لنفسها فقط، وذمتها المالية لها هي فقط، وليس معنى تغير وفساد ذمم الناس، أن نغير الحكم الشرعي، الواجب علينا إلزام الناس بالشرع، فإذا كان الميراث في بلادنا ينفذ طبقا للشرع، فعلى القانون أن ينفذه، وذلك بوضع مواد تمنع حرمان الإناث من الميراث، وذلك عن طريق معرفة هل باع الأب لأبنائه الذكور ممتلكاته قبل وفاته بيعا صوريا، وهل بالعادة يبيع الأب لابنه؟ كل هذه وسائل تمنع فساد ذمم الآباء والأبناء الذكور لحرمان الإناث، وقد قام المشايخ والعلماء بجهد كبير في ذلك كنت أراه في بلادنا في الريف المصري، خطب كثيرة قاموا بها عن حرمة منع الإناث من الميراث.
فالإسلام حين وضع تشريعاته بوجوب النفقة على الرجل لا المرأة، وضع ضوابط تضمن تنفيذ ذلك، بل وضع الإسلام ما هو أكبر من ذلك، فقد نظم الإسلام باب النفقة على الرجل على كل من يلزمه نفقته، حتى ينتهي إلى النفقة على الحيوان في بيته، فنجد قول الفقهاء: (من ملك بهيمة، لزمه القيام بعلفها، ولا يجوز أن يحمل عليها ما لا تطيق، لأنه إضرار بها، فمنع منه، كترك الإنفاق. ولا يحلب منها، إلا ما فضل عن ولدها، لأنه غذاء للولد، فلم يملك منعه منه. فإن امتنع من الإنفاق عليها، أجبر على بيعها، فإن أبى اكتريت، وأنفق عليها، فإن أمكن وإلا بيعت)، وكل هذه الإجراءات عند إخلال صاحب الحيوان بها، يقوم القاضي عندئذ بإجباره، بل أمر الإسلام جيران من لا ينفق على الحيوانات التي في بيته، أن يقوم بإبلاغ ذلك للقاضي، فهذا عن حق الحيوان في النفقة، فما بالنا بالوسائل التي وضعها الإسلام لإجبار الرجل على الإنفاق على المرأة وهو حقها المشروع، فادعاء أن الزمن تغير والناس لا تعطي البنات حقها، ولا تنفق عليهن، فهو كلام ينتج عن مخالفة الشرع، وليس عن الالتزام به.
والسؤال الأهم هنا: هل المطلوب في العلاقة بين الرجل والمرأة، العدل بينهما، أم المساواة التامة؟ إن المطلوب هو العدل، فالمساواة التامة ظلم للطرفين، وهل لو طبقنا مبدأ المساواة في المال مع المرأة سيطلب الرجل بإجازة كإجازة المرأة للوضع، فهو موظف مثلها، وهي تتقاضى راتبها مثله، عندئذ هل يكون العدل أولى أم المساواة التامة؟ فالعدل هنا يكون مبنيا على الرحمة، ومراعاة أهل الضعف، بغض النظر عن جنسه ذكرا كان أم أنثى، لكنه لو بني على المساواة فسيكون فيه إهدار لجانب الرحمة والإنسانية، وهو أمر معتبر شرعا وخلقا. وما يقال عن حالات المرأة في وضعها وحملها وما يكفله لها الشرع والخلق في عملها وتعاملها، يقال عن بقية ما يترتب من أوضاع قدم فيها الإسلام العدل من باب حماية المرأة، وهل طلب الرجل المساواة بالمرأة تلغى أحكام المرأة في التشريع الخاصة بها؟ الذين يريدون إلغاء الفوارق الطبيعية بين الجنسين يريدون محو الطبيعة من الحياة، ومحو رحمة الإسلام بالمرأة في قضايا لا حصر لها، راعى فيها الإسلام تحقيق العدل والرحمة والتيسير على كل من يحتاج ذلك، والتعامي عن هذا أمر يدل على خبل، أو عدم دراية بما سيترتب على رغبتهم من فساد الدنيا والدين.
هذه بعض نظرات في هذه القضية التي تثار كلما أراد البعض الذهاب إلى النضال الميسور، والابتعاد عن النضال المعسور، فأسهل نضال هو ما كان ضد المشايخ، أو ضد ثوابت الدين، لأن الدين لا سلطان له يدافع عنه حاليا، بينما النضال ضد الحكام الظلمة يحسب له المناضلون ألف حساب، فكلمة حق عند سلطان جائر أصعب بكثير، من كلمة حق أو باطل عند شيوخ الدين. وهو ما نراه من كثيرين، فأسهل عنده أن ينتقد من في القبور، لكنه لا يجرؤ على انتقاد من في القصور من الحكام وأهل السلطة!
(المصدر: الجزيرة)