“مولانا”: صراع الإسلام والحداثة بين النص الروائي والرؤية السينمائيَّة 1 من 5
عرض وقراءة د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
صورة 1 – من فيلم مولانا-إشارة عين المراقبة (عين الأعور الدجَّال) الماسونيَّة
تناولت الدراسة عن مخطوطات البحر الميِّت وعقيدة بني إسرائيل الخفيَّة، مسألة محاربة الغرب القيود التي ترفضها السلطة الدينيَّة على عمل الدولة، مما يعطِّل مسيرتها، في تأييد ضمني لمفهوم العلمانيَّة وفصل الدين عن الدولة. ويفترض الخطاب العلماني الغربي، الموجَّه من خلال وسائل الإعلام والأعمال الفنيَّة، وجود تواطؤ بين السلطة التنفيذيَّة والسلطة الدينيَّة، تستمد من خلاله الأولى الشرعيَّة لحُكمها وأفعالها من الثانية، التي ينعم بذلك بحماية الأولى وعطاياها. وقد ضُرب المثل في ذلك برواية مولانا، الصادرة عام 2012 ميلاديًّا، والمقدَّمة في عمل سينمائي عُرض عام 2017، يختصر أحداثها، التي أُفردت لها أكثر من 550 صفحة، في طبعة دار بلومزبري، التابعة لمؤسسة قطر للنشر. ولعلَّ أكثر الموضوعات التي أثارتها الرواية جدلًا، وأعاد عرض الفيلم التذكير بها، دعوة الشخصيَّة الرئيسة في الأحداث-الشيخ حاتم-إلى التحرُّر من قيود السلطة الدينيَّة، المنسوبة إلى وزارة الأوقاف والأزهر الشريف، وبخاصَّة في دراسة الإرث الديني الإسلامي، وتحديدًا من خلال تقديم العقل على النقل، وإحياء فِكر المعتزلة، الذي صُرِّح بأنَّ الشيخ بنفسه يعتنقه، على لسان إحدى شخصيات الرواية (ص517):
ويستعرض هذا القسم من الدراسة أهمَّ ما جاء في الرواية من مواقف تشير إلى استهزاء العمل ببعض ممارسات مشايخ الأزهر، وتقديس صورة المتصوِّفين، وإظهار الصوفيَّة باعتبارها النهج القويم الذي تركه النبي لآل بيته ثمَّ استُبدل بمفاهيم جامدة لا تعتمد على التعقُّل يجسِّدها الفكر الوهَّابي في الزمن الحاضر، وبلورة اضطهاد المسيحيين من أهل مصر، وبخاصَّة الراغبين في التحوُّل إلى المسيحيَّة من أبناء المسلمين، والاستخفاف بتحوُّل بعض المسيحيين إلى الإسلام في مصر واعتبار أنَّه يرجع إلى أسباب اجتماعيَّة بحتة، والدعوة إلى إحياء فِكر المعتزلة وافتراض أنَّ ذلك الفكر هو سبيل النهوض. ولمزيد من الإيضاح، يتضمَّن التحليل لقطات من نصِّ الرواية (طبعة دار بلومزبري)، مع لقطات من العمل السينمائي تتناول النقاط المشتركة في العمل الروائي.
مشايخ الفضائيات و’’ تجارة العلم’’
تبدأ أحداث الرواية باستعداد الشيخ حاتم الشنَّاوي للظهور على الهواء في إحدى حلقات التوك شو، وتعلُّل الشيخ حاتم بوضع مساحيق التجميل قبل تصوير حلقة من أحد البرامج بأنَّ الرسول (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) كان يحنِّي شعره ويتكحَّل (ص7).
يبرز اهتمام الشيخ أكثر شيء بصورته على الشاشة وبتسلُّط الأضواء عليه، ومحاولة التغلب على سطوة المحاور الذي يريد أن يسرق منه الأضواء (ص15). تضاهي تصرفات الشيخ حاتم تصرفات الدعاة الجُدد في تصوير حلقات وسط الجماهير بدون محاور. ونجد كذلك وصف حاتم بالوقاحة وبالماديَّة في متطلباته، مما يشجع الناس على السماع إليه لأنه يتصرف مثلهم (ص8). ويعترف حاتم لأبيه في حوار معه بأنَّه “موظف بدرجة شيخ…تاجر علم” (ص11). يستعرض الروائي محدودية علم حاتم الديني، وعدم اطِّلاعه على الكتب في مجاله، وعدم حفظه حتَّى للقرآن الكريم كاملًا (ص15)؛ ويرسم صورة لشيخ كثير الهزار، لا يكف عن السخرية، ولا يمتنع عن استخدام عبارات فجَّة لا تليق بعالم أزهري (ص18). يتضمَّن الحوار تطاوُل على سيرة النبي من خلال الاستهزاء بسيرة السيدة مارية-زوج الرسول-قائلًا “قمر مصري من الأنفوشي وقَّف يثرب على رجل”، ويقصد أنَّ جمالها مارية القبطيَّة كان سبب ارتباط الرسول بها (ص28)؛ وكذلك ادعاء أنَّ الرسول ربَّما كتم آية من الوحي بشأن عتاب الله له في زواجه من زينب بنت جحش، رغم أنَّ الرسول تزوجها لتحريم التبني لأنَّ الرجل لا يتزوج زوجة ابنه (ص30). ونجد من الروائي بعض التدليس، بدمج الباطل بالحق كي لا ينفضح الباطل، واستخدام عبارات تؤكد المعنى السلبي بإظهاره بصفة الإيجابي (ص34).
يستعرض الجزء التالي للرواية مسيرة الشيخ قبل شهرته: مجرد إمام مسجد لا يملك قوته، يعمل في جريدة مفسرًا لأحلام تُنشر باسم شيخ آخر يقاسمه أجره، فبدأ بمحض الصدفة في تقديم برنامج لتحسين معيشته أتى إليه بفيض من المال (ص34). وتبدأ أحداث العمل السينمائي باستعراض بداية حاتم مع الشهرة، وتقدِّم أول لقطة تصويرًا بانوراميًّا لمحيط أحد أجزاء منطقة القاهرة القديمة، أو لتقل قاهرة المعز لدين الله، الحاكم الفاطمي العبيدي الشيعي على المذهب الإسماعيلي، الذي أسس الدولة الفاطميَّة في مصر في القرن العاشر الميلادي، وأسقطها صلاح الدين الأيوبي في الربع الأخير من القرن الثاني عشر (1171 ميلاديًّا)، تمهيدًا لتحرير بيت المقدس (1187 ميلاديًّا)؛ لمَّا تيقَّن من أنَّ تلك الدولة من أسباب نشر البدع التي أضلَّت المسلمين، ومهَّدت لسيطرة الصليبين على دار الإسلام. وتظهر في اللقطة أعلاه مآذن لمساجد أثريَّة تعود إلى العصر الفاطمي، ويعمل حاتم إمامًا لأحدها.
يفاجأ حاتم بقدوم وفد من كبار رجال الدولة إلى مسجده لأداء صلاة الجُمعة، وبإعداد وكيل وزارة الأوقاف لإلقاء خُطبة الجمعة. تتسَّلط الأحداث على تعذُّر صعود وكيل وزارة الأوقاف لمرض معوي واعتذاره لأنَّ القيء نقض وضوؤه، وإصرار ضابط الأمن قائلًا “لن يعرف أحد”، وإصرار وكيل وزارة الأوقاف على عدم قدرته؛ ليس لأنَّ الصلاة لا تجوز بلا وضوء، بل لخوفه من التقيؤ على المنبر. لعب الحظُّ دوره في دفع حاتم إلى بؤرة الضوء، بأن اضطر رجال الأمن إلى السماح له بإلقاء الخطبة.
نجد على لسان الروائي الاستخفاف بالعمامة الأزهريَّة وبسنوات إعداد الدعاة والأئمة في المعاهد الدينيَّة، حيث أنَّ ذلك المجال لا يوفر لأصحابه أي فرصة للكسب المادي مستقبلًا (ص36)، مع الإشارة إلى أنَّ حاتم كان يعشق العزف على العود، أسوةً بأشهر ملحني مصر في مطلع القرن العشرين ممن كانوا شيوخًا، ومراودة إحدى النساء له عن نفسه (ص37). صعد نجم الشيخ حاتم بعد ذلك، وأصبح من نجوم الفضائيَّات، وحقق مكاسب أهَّلته للزواج من فتاة من معجبيه. الشيخ حاتم يرتدي دبلة ذهبيَّة، برغم تحريم الذهب على الرجال، ناهيك عن أنَّ ارتداء الدبلة يُعتبر بدعة.
يتسلط الضوء على استخدام رجال الدين في حملات الأثرياء الانتخابيَّة، واعتراف حاتم بأنَّ أحدهم لا يأكل إلا من الحرام، ومع ذلك يحضر إحدى ولائمه (ص46)، مع اعتراف المشايخ بأنَّهم حضروا وليمة نائب برلماني نجح بالتزوير من أجل المحاباة (ص47)، واستعراض سلوكيات ذميمة لبعض مشايخ الفضائيات (إدمان الحشيش، تكرار الزواج من “قحبات”) (ص48).
صورة 6 – من فيلم مولانا
يصف حاتم المشايخ بالضلالية، الغارقين “في مغطسة اللحوم والدهن” (ص56). ومع استمرار مشهد تناول الطعام المقذذ (ص57)، يتطرَّق الشيخ إلى اقتران المال بالسلطة بعلاقة رجال الأعمال بالمسؤولين في الدولة (ص59). ونجد بعد ذلك الاستهزاء بالصحابي “عبد الرحمن بن عوف” في تزكية رجل الأعمال “آكل الحرام” عليه في معاملة العمال، ثم التنصل من ذلك بحيلة ساذجة توضح أن التفضيل في الكرم والإنفاق (ص60). يتلو ذلك اعتراف الشيخ بأنَّه عميل “لرجال الدولة ولبلده وحكومته” وبجبنه أمام هؤلاء (ص60).
صورة 7 – من فيلم مولانا
على النقيض من ذلك، يتعمَّد الروائي إظهار أنَّ الشيخ المتصوف مختار الحسيني، هو الوحيد الذي كان يحافظ على مظهر شيخ الإسلام المعتدل، على عكس كافة المشايخ الآخرين ممن تركوا زي الأزهر وارتدوا الزي الإفرنجي. هو صاحب ابتسامة وقورة ووجه طفولي وهو الوحيد الذي لا يتصف بالنهم (ص50).
يتحدَّث حاتم مع المتصوف وحده باحترام لتبرير محاباته لرجل الأعمال الفاسد الذي يصاحب الشيخ لتطهير اسمه “الوسخ” بأنَّ الأخير يحاربه في أكل عيشه، حيث لا مورد رزق له سوى ذاك البرنامج (ص61)، واعتبار المتصوف أنقى الحاضرين، وحاتم ينصحه بعدم تلويث نفسه بمصاحبة أمثال هؤلاء مجددًا (ص62). ويواصل الروائي التغزل في المتشيع الحسيني، وادعاء أنَّ شرف يعود إلى انتسابه إلى آل البيت، وإلى تصوُّفه، فهو محاط بهالة من الرفعة لا تفارقه، على عكس غيره من المشايخ ممن يفقدون مكانتهم سريعًا بسبب فلتات، مثل مسألة رضاع الكبير التي أنقصت من مكانة فتحي. يستهدف المشهد كله الإقلال من شأن متَّبعي المذهب السُّني، فشيوخه منافقون وموالون للسلطة ولا تهمهم سف المصالح وملئ البطون، ومن هنا لا يجد حاتم من يأخذ عنه الدين غير المتصوف شيخ الطريقة (ص80). مختار الحسيني، الذي ورث مشيخة الطريقة عن أبيه كما ورث اسمه (فاسمه الحقيقي محمود)، لم يستمد علمه من الكتاب والسنَّة، إنما “علمه في قلبه لا في عقله“، مثل أسلافه من أهل البيت، فهو صاحب بصيرة نافذة (ص83).
ويأتي مديح الشيخ الصوفي في خضمِّ انتقاد الروائي لمشايخ السُّنَّة من أهل “النقل”، متمثِّلين في شخصيَّة الشيخ فتحي، التي تُستغلُّ في تناوُل مداهنة رجال الدين السلطة، باتهام المداهنين-نموذجهم هنا الشيخ فتحي-بالتواطؤ بدافع من الحقد على المرفهين من الطلاب الذين لا يحملون همِّ المصروفات ممن ينظِّمون المظاهرات (ص65).
صورة 10 – من فيلم مولانا
(المصدر: رسالة بوست)