موقف عزيز مصر من محنة الصدّيق يوسف عليه السلام
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
عرضت لنا سورة يوسف محنَ الصدّيق يوسف (عليه السلام) بداية من تفريط إخوته به وظلمهم له إلى الجبّ ثم شرائِه بثمن بخس في سوق العبيد، ثم بلائِه العظيم مع امرأة العزيز التي راودته عن نفسه والتي بسببها دخل السجن بضع السنين، وكان مشهد العزيز زوج المرأة حاضراً بوضوح في السرد القرآني حول القصة، وناقش أهل التفسير موقف العزيز تجاه ما جرى فمنهم من يرى أنّ عزيز مصر قد تصرّف مع امرأته بعد ثبوت إدانتها ومراودته ليوسف تصرّفاً بارداً لا يتناسب مع فعلتها الآثمة؛ حيث إنّه لم يؤخذها بأكثر من العِظة. وكان عليه أنْ ينزل بها العقاب الرادع، وأن يقوم بإبعاد يوسف عن القصر، ولكنّه لم يفعل هذا ولا ذاك، مما يدل على ضعفه ودناءته وقلة غيرته، حتّى إن بعضه قد وصفهم بـــ (الديوث)، الّذي لا يغار على أهله ولا يخجل من ارتكابهم الفاحشة. وحين ننظر في الآيات الكريمة الّتي تتحدث عن العزيز نجدها تتحدث عنه كشخصية حكيمة وقورة، فالآية الواحدة والعشرين من السّورة تطلعنا على العزيز وهو يقول لامرأته بشأن يوسف u:﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [يوسف: 21]. يقول الدكتور حسن محمّد باجودة: يبدو لنا العزيز من هذه الآية رجلاً نبيلاً طيب القلب رحيماً بعيد النظر ألمعيّاً، فقد تبيّن في الغلام يوسف – بفراسته وألمعيته – أنّه من معدن متميز، ولهذا خصه دون سواه بهذا الاهتمام الفائق، وهو رجل متزن، لذا فهو يقدم فعل الرجاء: (عسى) بين يدي قوله: ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾، إنّه يرجو أن يكون واقع هذا الغلام مستقبلاً موافقاً لفراسته فيه، وواضح أنّ الرجل منطقيّ في رجائه، ولا ننسى قول أهل التأويل في العزيز “إنه من أصدق النّاس فراسة”، كما مرّ معنا في تفسير الآية الكريم: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾، وهنا نجد أنّ العزيز فوجئ بالحادثة المفجعة له بين زوجه ويوسف u ولا شكّ أنّه اعتبرها نكبة من أفدح النكبات الّتي حلت به وبأسرته وبأسرة زوجه أيضاً، ومع هذا فلم تخرجه هذه الحادثة عن عقله واتّزانه وعدالته ليرتكب حماقة من الحماقات في حق يوسف وامرأته، بل صمت وصبر وتماسك، ثمّ استشار أحد الحكماء الفطناء من أهل المرأة واقتنع ورضي بحكمه، ورأيناه يتحرّى العدالة بكلّ دقّة، حتى إنّه جعل يوسف وامرأته أمامه سواء فلمّا تبيّن له صدق يوسف وبراءته أعلن ذلك وأمر يوسف بكتمان الأمر ونسيانه كأنّه لم يكن، ثمّ عزّر امرأته بما يليق بمكانتها وهي من أرباب البيوتات الكبيرة، فوبّخها وسمّى فعلتها الشنيعة كيداً ومكراً عظيماً، ثمّ زاد فواجهها بالحكم عليها أنها مذنبة ومخطئة وأنّ عليها أن تستغفر الله وتتوب إليه مما فعلت، ولو كان أمر العزيز كما اتهموه لما اهتمّ بموضوع المراودة، ولترك الحبل على الغارب (كما يقولون) وهذا من أقوى الأدلة على عدالته. (يوسف وقصته العجيبة، ص 198)
وقد أبقى العزيز يوسف u في القصر مع وجود المرأة فيه لعدّة أسباب:
– ظهور كمال براءته u وهو ما كان يعتقد فيه دائماً.
– علمه أنّه u على درجة عالية من الكمال الخلقي فلا تؤثّر فيه دواعي المحرمات، ولا خوف منه أبداً على شرفه وعرضه.
– لا يوجد أفضل منه u يطمئنّ إليه بغيبته ويأتمنه على أهله.
– الستر على الفضيحة باستمرار بقائه u في القصر، إذ لو أخرجه منه لأدّى ذلك إلى تساؤلات النّاس عن السبب، وقد يصلون إلى معرفة ما وقع. وهذا أشدّ وأقسى ما يخافه العزيز وهو على ما هو عليه من مكانة عالية، وجاه عريض بين النّاس.
– ليس من السهل على العزيز أن يتخلص من يوسف بهذه البساطة، بعد أن ثبتت براءته، فبين يديه من الأعمال الهامة ما لديه، سواء بالنسبة للدولة، أو العزيز نفسه، يقوم بها يوسف u بطريقة فريدة غاية في الحكمة والسّداد بتوفيق الله وإلهام منه إليه.
– كان على العزيز أن ينتظر الوقت الكافي حتّى تمرّ تلك الحادثة بسلام، أو تظلّ في الخفاء والكتمان ثمّ يقرر قراره بعد ذلك، في المكان الّذي يجب أنْ يكون فيه يوسف، بعيداً عن زوجه دون أن يبخسه حقّه أو يقلل من شأنه. (يوسف وقصته العجيبة، ص 200)
إلّا أن هناك من العلماء كان نقدهم لشخصية العزيز لاذع وشديد، منهم:
– د. صلاح الدين الخالدي رحمه الله: لكنّ العزيز المسؤول الأول في مصر، الّذي يمثل ما يسمونه بالطبقة الراقية الحاكمة، تفاعل مع الموضوع بأعصاب متجمدة ودم بارد فلا قيمة عنده للعرض والشرف ولهذا خاطب زوجه بعتاب بارد: ﴿إنّه مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾. هذه الجملة الباردة الصادرة عن إنسان بارد ديوث يتأكد من وجود الفاحشة في زوجته، فمنحها ما يشبه الوسام ويقدم لها الثناء، ويشهد لها بأنّها امرأة فاتنة ماكرة، تقدر على الإغواء والفتنة والكيد والتآمر. (القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، 2/127)
– وقال الدكتور على محي الدين القره داغي: ولكن تصرف العزيز كان تصرفاً ضعيفاً نابعاً من قلّة الغيرة، وضعفه أمامها، ومن مجتمع الفسق والفجور ورفاهية القصور. (يوسف عليه السلام، علي القره داغي، ص 76)
– وقال الشيخ عبد الحميد محمود طهماز: وتعطينا الآيات صورة لما يحدث في المجتمعات الغنية المترفة المنحلّة البعيدة عن الإيمان بالله تعالى، فالانهماك في السرف والترف قد جمّد مشاعرهم البشرية، وأضعف الإحساس الفطري الطبيعي في غيرتهم على أعراضهم وشرفهم وهذا ما نشاهده في القصر الحاضر في المجتمعات المادية الغريبة من تبلد في المشاعر، يصل في كثير من الحالات إلى حدّ الدياثة. (التفسير الموضوعي، 4/167)
ويقول الدكتور عبد السلام المجيدي: إنّ عزيز مصر يغلب على شخصيته الرّياء، وستر الظاهر، وفيه تتمثل كلّ خصائص بيئته المنتكسة الفطرة. (يوسف في بيت العزيز، ص 92)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وذلك أنّ زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها وكان يحبّ امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطّلع على مراودتها قال: ﴿يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين﴾، فلم يعاقبها ولم يفرق بينها وبين يوسف حتّى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف ألّا يذكر ما جرى لأحد محبّة منه لامرأته، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة. (مجموع الفتاوى، 15/119)
وقال الدكتور أحمد نوفل: وقد يجمع إنسان في شخصية واحدة عقلاً واتّزان وحبّاً للنّاس ورحمة وإكراماً للآخرين، ولكن من الضّعف في الشخصية بحيث يعجز عن اتّخاذ الإجراء اللازم والعلاج الحاسم للمشكلات لعدم القدرة على المواجهة والتّحدّي، وهذا الّذي كان من العزيز. (سورة يوسف، د. أحمد نوفل، ص 215)
وقال الشيخ الشعراوي – رحمه الله -: هذا وبعد أن كان المشهد رباعياً: فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثمّ الشاهد الّذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة المجتمع الّذي وقعتْ فيه القضية. يدل على أن القصور لا أسرار لها؛ لأن لأسرار القصور عيوناً تتعسس عليها، وألسنة تتكلم بها؛ حتّى لا يظن ظان أنّه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لأن هناك مَنْ سوف يكشفها مهما بلغتْ قدرة صاحبها على التستُّر والكتمان. وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النّسوة. (تفسير الشعراوي،11/2926).
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من مسودة كتاب: ” النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- يوسف وقصته العجيبة، عليش متولي، شركة مكتبة المعارف المتحدة، الكويت، الطبعة الأولى، 2015م.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح بن عبد الفتاح الخالدي، الدار الشامية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007م، (2/127).
- يوسف عليه السلام، د. علي القره داغي، دار النداء، إستنبول – تركيا، الطبعة الأولى، 2018م.
- التفسير الموضوعي لسور القرآن، عبد الحميد محمود طهماز، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1435ه.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، مجمع الملك فهد للطباعة والنشر، السعودية، 1416ه/ 1995م.
- سورة يوسف دراسة تحليلية، أحمد نوفل، دار الفرقان، عمان- الأردن.
- مسودة كتاب: النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام، د. علي محمد الصلابي.