بقلم د. حجازي عبد المنعم سليمان
كثر الجدَل واللَّغط في الفترة الأخيرة حولَ كثير مِن الرموز التاريخيَّة، وفي صدارتهم صلاح الدِّين الأيوبي؛ بحيث استُبيحتْ حُرمتُه، وغيره مِن القامات التي بات لوجودها أثَر كبير في تشكيل وَعيِنا وثقافتِنا على مرِّ القرون الماضية، ولست هنا بصدد الدِّفاع عن صلاح الدين أو غيره؛ لأنَّنا لا نُقدِّس الرموزَ لأنَّهم بشَر، ووقوع الخطأ مِن قِبَلهم أمرٌ وارد، فضلًا عن أنَّ مهنتي كباحث في التاريخ لا تُلزمني بالدِّفاع عن أحد، وإنَّما تُلزمني بدراسة مُحايدة فيها مِن الإنصاف والموضوعيَّة ما يكفل عرضَ الحقيقة التي توصَّلتُ إليها وَفق منهج محدَّد وواضح.
وقد نُسب إلى صلاح الدين قيامُه بحبس بقايا الأُسرة الفاطميَّة من الذكور والإناث بعد إسقاط خلافتهم عام 567هـ/ 1171م، وأنَّه فصَل بين الذكور والإناث في حبسهم، وأنَّه كان يهدف مِن وراء ذلك إلى القضاء على نَسْلهم، وقد اتَّهم بعضهم صلاحَ الدين نتيجة لذلك الموقف وسواه بأنَّه أحقر شخصيَّة في التاريخ، وبغضِّ النظر عن هذا الاتِّهام – الذي يحمل مِن الذاتيَّة الكثيرَ، ولا يليق بمنهج البحث التاريخي، علاوة على ما فيه مِن التعميم ما يُشكِّك في مصداقيَّة ذلك الحكم العام؛ وذلك لاستحالة دراسة تاريخ البشريَّة بالكامل ليَخرج أحدهم باستنتاج مَفاده أنَّ فلانًا بمثابة أحقر قادة ذلك التاريخ – فإنَّ ما قام به صلاح الدين في هذا الصَّدد يُعدُّ أرحم ممَّا قام به الخلفاء الفاطميِّين مع خصومهم في أحداث الرمق الأخير مِن دولتهم، حينما كانوا يُطالبون الوزراءَ الجدد الذين استولوا على الوزارة برؤوس الوزراء المخلوعين على ما جاء في قول ابن تغري بردي: “… وهذا شأن أرباب المناصب، إذا عُزل أحدهم بآخَر، أراد هلاكَه ولو هَلَك العالم معه، وهذا البلاء مِن تلك الأيام إلى يومنا هذا”، وحرص الخلفاء الفاطميُّون على مكافأة الوزراء الجُدد على تلك الفعلة بالذَّهب والفضة والخلع والبيوتات والقصور… إلخ، ويزخر كتاب عمارة اليمني – وكان محسوبًا على الفاطميين، ومُحبًّا لهم، وحزن لزوال دولتهم – المسمَّى “النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية” بكثير مِن تفاصيل الصِّراعات الدامية التي وقعت في الفترة الأخيرة من حكم الفاطميِّين لمصر.
ولكي لا نتجنَّى على الفاطميِّين، فإنَّ مِن المنصف الإشارة إلى أنَّه ليس مِن روح ذلك العصر التغاضي عن الخصوم ومسامحتهم بعد خلعهم مِن مناصبهم – وبخاصَّة مَن اعتلوا منصبَ الوزارة للفاطميين – وإنما كان يُستباح دَمُهم ويُقتلون، أو يتم اعتقالهم على أقل تقدير، وبخاصَّة أنَّ الوزير الفاطميَّ كان قد بلَغ مكانةً قدَّمتْه على الخليفة ذاته في المسؤوليَّة في نهاية العصر الفاطمي، وقد استغرق الوصول إلى التسامح مع الخصوم من تاريخ البشريَّة قرونًا كثيرة وحروبًا فكريَّة حتى تمَّ تجاوز تلك الإشكالية، ولم ينسلخ عصرُ صلاح الدين الذي وقعت فيه تلك الأحداث عن ذلك الواقع.
وبالرغم من ذلك فلم يُعامِل صلاحُ الدين بقايا الأُسرة الفاطميَّة بهذا المبدأ – أي: باستباحة دمائهم – ولكنَّه في الوقت عينِه رغب في أن يأمن غدرَهم، ويدرأ شرَّهم، إذا ما فكَّروا في الاستعانة بأعوانهم لإحياء خلافتهم، فيتسبَّبون له في مشكلات هو في غِنى عنها، وكان لدى صلاح الدين مِن التجارب الكافية ليُدرك أنَّ أعوان الشيعة والمتعيشين عليهم لن يدَعوه يَهنأ بما صار إليه وضعه في مصر، سواء قبل إسقاط اسم الخليفة الفاطميِّ من الخلافة عام 567هـ/ 1171م أم بعد ذلك؛ حيث واجه عدَّةَ تمرُّدات قام بها بعضُ المنتفعين من النِّظام الفاطميِّ ومَن لهم مصلحة في بقائه، على ما قام به جوهر مؤتمن الخِلافة الذي خان مصرَ ووزيرَها وخليفتَها بالاتصال بأعداء الدولة من الصليبيين، وحثَّهم على مهاجمة مصر في الفترة التي سبقت إسقاط اسم الخليفة العاضد مِن الخلافة، وأما بعد إسقاط الخلافة عام 567هـ/ 1171م، فقد كثرت تلك المحاولات التي هدَفتْ إلى التمرُّد على صلاح الدين والتآمر مع الأعداء ضده، ولعلَّ أبرز نموذج على ذلك الشاعر عمارة اليمني الذي اتَّصل بالصليبيين والبابوية وبعضِ ملوك أوربا وملك صقلية؛ الْتماسًا لعونهم ضد صلاح الدين، وسعيًا لإعادة إحياء الخلافة الفاطميَّة عام 569هـ/ 1174م، ولكن فشل تمرُّده وقُبِض عليه وصُلب بعد فتوى العلماء في حقِّه.
وقد استوجبَتْ هذه التصرُّفات وغيرها – وهي مِن لَبِنات ذلك العصر وإفرازاته على ما أوضحتُ مسبقًا – ضرورةَ استعمال القوَّة في مقاومتها، وبالرغم من ذلك فقد أحجم صلاحُ الدين عن قتل بقايا الأسرة الفاطميَّة الحاكمة، واكتفى بنوع آخر مِن العقاب، مُمثلًا في حبسهم، وقد أشار المؤرخ السنِّي المُعاصر ابنُ الأثير (ت: 630هـ/ 1235م) – الذي كان ناقمًا على صلاح الدِّين وقتها، واتَّهمه بالتقاعس عن إسقاط الخِلافة الفاطميَّة، وبالتواطؤ مع الفاطميِّين ليكونوا سنده في مواجهة نور الدين – إلى ذلك بقوله: “… ونقل أهل العاضد إلى موضع مِن القصر، ووكل بهم مَن يحفظهم، وأخرج جميعَ مَن فيه من أَمَة وعبد، فباع البعضَ وأَعتق البعضَ…”[1]، وقد نقل أبو شامة – الذي اتَّصل بهؤلاء في محبسهم فيما بعد – هذه الرواية بتصرُّف، بحيث جاء في ما نقله: “… ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بحفظهم، وجعل أولادَه وعمومته وأبناءهم في الإيوان، وجعل عندهم مَن يحفظهم…”[2]، دون الإشارة إلى مَوضوع عزل الرِّجال عن النساء، وما ترتَّب عليه من القضاء على نَسْل الفاطميين.
ولا أظنُّ أنَّ المؤرخين السنَّة امتنعوا عن الإشارة إلى قيام صلاح الدِّين بعزل النِّساء عن الرجال للقضاء على نَسْلهم وقطع دابرهم، وبخاصَّة أنَّ بعضهم انتقد الفاطميين وأخرجوهم من الملَّة الإسلاميَّة، ونسبهم بعضُهم إلى المجوس تارة، وإلى اليهود تارة ثانية، وإلى الملاحدة تارة ثالثة[3]، ومن ثَمَّ فإنَّهم لن يجدوا في قيام صلاح الدين بذلك التصرُّف أمرًا مشينًا يجعلهم يمتنعون عن رصده وتسجيله، ولو امتنع عن تَسجيله غالبيَّةُ المؤرِّخين السنَّة فأعتقد أنَّ ابن الأثير تحديدًا لن يتورَّع عن ذلك؛ لأنَّه نسَب لصلاح الدين أمورًا أشدَّ خطورة، وانتقده نقدًا لاذعًا في كثير مِن سياساته ومواقفه.
ولكن قبل مناقشة الفِكرة الأخيرة، فإنَّه ينبغي أن ندرك أنَّه لم توجد سجون مشتركة للنِّساء والرجال آنذاك، ولم أقف في مصادر هذا العصر على وجود هذا النَّوع مِن السجون المشتركة، ومن الطبيعيِّ حينما يحتاط صلاحُ الدين على بقايا الفاطميين ويحبسهم أن يَفصل بين الرجال والنِّساء؛ لأنَّه لم يَخرج بهم في نُزهة، وإنَّما حبسهم حبسًا أشبه بالإقامة الجبريَّة في العصر الحالي، بدلًا مِن قَتْلهم على ما جرت العادة في ذلك الوقت، حقًّا تخلص صلاح الدين مِن كافَّة مَن عارضه وتمرَّد عليه تشيعًا منهم للفاطميِّين بعد اتِّهامهم بالخيانة لاستعانتهم بالصليبيِّين للتخلُّص مِن صلاح الدين، ولكنه في الوقت عينِه لم يتخلَّص من بقايا الفاطميين أنفسهم؛ وهذا في حدِّ ذاته من الأمور المُلغزة والمحيِّرة، ولكن حينما ندرك أنَّ بقايا الأسرة الفاطمية لم يكن لهم حولٌ ولا قوَّة، ولم يكونوا طرفًا في أي مِن التمرُّدات ومحاولات الاتصال بالصليبيين، ناهيك عن صغر سنِّ أغلبهم؛ لأنَّ العاضد ذاته مات صغيرًا وهو في نهاية عقده الثاني (1151 – 1171م)، سيبدو لنا أنَّ صلاح الدين كان يخشى مِن إراقة دمائهم بلا جريرة، وبخاصَّة أنَّ ما سنعرفه عن مواقفه مع الصليبيين بعد دخول بيت المقدس عام 583هـ/ 1187م وتسامحه وكرمه معهم – تجعلنا نَذهب إلى أنَّه لم يكن مُحبًّا لسَفْك الدِّماء، ولم يكن القتل الانتقاميُّ مِن صفاته.
ومن هنا فإنَّه آثَر الإبقاءَ على بقايا الفاطميين، وتَحفَّظ عليهم رجالًا ونساءً، وظلَّ هذا التحفُّظ قائمًا فيما بعد حتى عصر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (ت: 1277م)، بمعنى أنَّ ثمَّة سياسة معيَّنة وسرًّا ما – ولكن لم يُطلعنا عليه المؤرِّخون – جعل السلاطين اللَّاحقين يحتفظون ببقايا الأُسرة الفاطميَّة في الحبس، وتوارثه المماليك عن الأيوبيِّين، ولم يكن الأمر كما يُصوِّره بعضُ المؤرِّخين بأنَّ صلاح الدين عزلهم عن الجميع؛ لأن أبا شامة المقدسي أشار إلى مقابلته لابن العاضد في محبسه، والأمر كذلك، فلا ريب أنَّهم الْتَقوا بغيره مِن الشخصيَّات التي اعتادت التردُّدَ على القصر الحاكم ثم القلعة حينما نُقلوا إليها، علاوة على أنهم كانوا يَلتقون بالمشرِفين على أملاكهم بالخارج ليحصلوا على عوائدها ويتابعوا أحوالها على ما جاء في رواية المقريزي بقوله: “… وفيها مات داود بن العاضد، ولم يزل بقيُّتهم مُعتقلين بالقلعة إلى أن استبدَّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، ثم أمر بيبرس بالإشهاد على كمال الدين إسماعيل بن العاضد وعماد الدين أبي القاسم ابن الأمير أبي الفتوح بن العاضد وبدر الدين عبدالوهاب بن إبراهيم بن العاضد، على أن تَؤول بعضُ أملاكهم – منها مواضع جنوب القصر الكبير، وموضع التربة والجباسة، وخزائن السلاح والقصر الغربي، ودار القنطرة ودار الضيافة بحارة برجوان، ودار الذهب بظاهر القاهرة والموضع المعروف باللؤلؤة، وغيرها الكثير – إلى بيت المال مِن وجهٍ صحيح شرعي لا رجعة فيه ولا لواحد منهم في ذلك، فأشهدوا عليهم بذلك وورَّخوا الإشهادَ بالثالث عشر مِن جمادى الأولى سنة ستين وستمائة”[4].
ويغلب على ظنِّي أنَّ تلك الممتلكات كانت تدرُّ عليهم عائدًا ثابتًا، بدليل رواية المقريزي عن وكلاء هؤلاء في الخارج، وكأنَّهم يُشرفون على ممتلكاتهم ويديرونها، وربَّما يبيعون منها؛ وذلك للإنفاق على أبناء البيت الفاطمي في محبسهم، ومن ثمَّ فإن حبسهم لم يكن حبسًا بالمعنى المتعارف عليه لقضاء عقوبة لفترةٍ طالت أو قصرت، وإنَّما أشبه في عصرنا الحديث بالإقامة الجبريَّة في قصرٍ كبير أولًا، ثم في القلعة حينما انتقل إليها الحُكم الأيوبي في عصر الملك الكامل، وكان الهدف مِن هذا الإجراء أن يكونوا تحت أَعيُن الأيوبيين دَرْءًا لخطرهم بالخارج، وتحاشيًا لقتلهم.
وهنا يظهر لنا استفسار آخر سعيًا لتفسير كافَّة ملابسات هذه الإشكاليَّة، يمكن بلورته في الطرح التالي:
• لِمَ حبَس صلاح الدين بقايا الفاطميين من الإناث؟
إنَّ حبس الرِّجال من الأمور التي جرَتِ العادةُ بها عبرَ عصور التاريخ، وبخاصة مع تصريح المصادر بها، أمَّا حبس النِّساء بعامة، فقد كان مِن الأمور الغامضة؛ نتيجة لعدم بوح المصادر التاريخيَّة بمادة عن تلك القضيَّة، أما حينما تكون تلك المرأة فاطمية شيعيَّة إسماعيلية، فربَّما يكون للأمر بُعدٌ آخر؛ نظرًا للمكانة الكبيرة التي منحها الفقهُ الشيعي الإسماعيلي للمرأة الفاطميَّة بصفتها حاملة لكروموسوم الإمامة والخِلافة، وهو أمرٌ مِن شأنه أن يُقلق صلاح الدِّين وخُلفاءه مِن الأيوبيين والمماليك، ومن ثمَّ فإن التحفُّظ على النِّساء الفاطميات لم يكن سوى سعيًا لوَأْد أيِّ مؤامرة مستقبليَّة في مهدها قد تنجم عن إطلاق سراح النساء الفاطميات.
ومن هنا؛ فإنَّ فكرة حبس الرجال دون النساء مِن بقايا الفاطميين – لن تُحقِّق الغرض الذي جعل صلاح الدين يقوم بحبسهم؛ بحيث ستظلُّ الخطورة قائمة ما ظلَّت المرأةُ الفاطمية طليقة، أمَّا حبسها فإنه كَفيل بمنع تلك الخطورة حاليًّا ومستقبلًا، هذا بخلاف الدور الذي قامت به المرأة الفاطمية في معترك الحياة السياسيَّة طوال النِّصف الثاني من عمر الدولة الفاطمية؛ بتدخُّلها في مجريات الحياة السياسية في الداخل والخارج، وهو أمرٌ ليس بخافٍ على ساسة ذلك العصر؛ ولذا تضافرَتْ تلك العوامل فيما أرى لتجعل مِن حبس الرجال والنِّساء ضرورةً أمنيَّة وسياسية أكثر إنسانية من القتل.
أما ما نُسب إلى صلاح الدين مِن العزل بين الفاطميِّين من الرجال والنِّساء بهدف القضاء على جنسهم، فقد كان ابن أبي طي الحلبي الشيعي (ولد عام 575هـ/ 1180م) من أوائل المتحدِّثين عنها على ما جاء في قوله: “واحتاط السُّلطان على أهل العاضد وأولاده في موضع في خارج القصر، جعله برسمهم على الانفراد، وقرَّر لهم ما يَكفيهم، وجعل أمرَهم إلى قراقوش الخادم، وفرَّق بين النِّساء والرجال؛ ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم…”[5]، والأمر كذلك فإنَّني أرى – ومِن واقع الجملة الأخيرة مِن رواية ابن أبي طي – أنَّ فِكرة العزل لم تزد عن كونها استنتاج مِن بنات ابن أبي طي؛ لقوله: “… ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم”؛ وفي ذلك تقرير منه وتفسيرٌ لوضعٍ بات ابن أبي طي على علم بحدوثه، وبمثابة استنباط جاء بناء على مقدِّمات غدَتْ نتائجها ماثلةً في عصره بعد مرور ما يقرب من خمسين عامًا تقريبًا على حدوثها، وهي المدَّة الواقعة بين ما قام به صلاح الدِّين مع بقايا الأسرة الفاطميَّة وعصر ابن أبي طي؛ حيث اتَّضح لبعض المؤرِّخين وقتها أنَّ سياسة العزل تلك نجم عنها انقِراض السُّلالة الفاطميَّة، فنَسبوا فكرةَ العزل إلى صلاح الدين مقرونةً بالقضاء على السُّلالة الفاطميَّة؛ بمعنى أنَّ الربط بين فِكرة العَزل بين الإناث والذُّكور وبين نتيجتها في انقراض نَسْل الفاطميين – لم يتم صياغتها سوى في عَصرٍ لاحِقٍ حينما تحدَّث عنها بعضُ مؤرِّخي القرون اللَّاحقة على صلاح الدين.
ولعلَّ ما يدفعني إلى ترجيح هذه الفرضيَّة أن فكرة العزل لم تُطرَح في عصر صلاح الدين، ولم يُشِر إليها أحدُ مؤرِّخي تلك الحقبة مِن أهل السنَّة، وهو أمرٌ يسهل رصده لو علموا به؛ لأنَّه لم يكن ثمَّة محظورات على الكتابة عن الفاطميِّين أيًّا كانت، وقد جاء لدى ابن الأثير أنَّه احتاط عليهم بما يعني أنَّه حبسهم دون الإشارة إلى فكرة العزل تلك، وعلى دَربه أشار الأصفهانيُّ إلى أنهم “… الآن محصورون محسورون لم يظهروا…”، أمَّا الذهبيُّ فأشار إلى حبسهم بقوله: “… وتسلَّم صلاح الدين القصرَ بما حوى مِن النفائس والأموال، وقبض – أيضًا – على أولاد العاضد وآله، فسجنهم في بيتٍ مِن القصر…”[6].
ويُعدُّ المقريزي – الذي وضع روايته بعد عصر صلاح الدين بحوالي ثلاثة قرون ونصف تقريبًا – من أبرز المؤرِّخين المتأخِّرين الذين أشاروا إلى فِكرة العزل تلك بقوله: “ولما مات العاضد غسَّله ابنُه داود وصلَّى عليه…، وقبض – أي صلاح الدين – عليه وعلى بقية أولاد العاضد وأقاربه في سادس شعبان سنة تسع وستين وخمسمائة، ونقله وجميع أقاربه إلى دار المظفر مِن حارة برجوان في العشر الأخير من شهر رمضان، ووكل عليهم وعلى جميع ذخائر القَصر، وفرَّق بين الرجال والنساء؛ حتى لا يحصل منهم نسل… ونُقلوا إلى قلعة الجبل وهم ثلاثة وستون نفرًا في يوم الخميس ثاني عشري رمضان سنة ثمان وستمائة، فمات منهم إلى ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة ثلاثة وعشرون…”[7]، وسواء طُرحتْ فكرةُ العزل بين الذُّكور والإناث في عصر صلاح الدين، أم تمَّ استقراؤها فيما بعد، فإنَّ حبس الرِّجال مع النساء لم يكن مِن الأمور المعروفة آنذاك، والأمر هكذا فسوف ينقرض نَسْل الفاطميين بطبيعة الحال نتيجة لعزلهم.
وأمَّا عن المعاملة التي تلقَّاها بقايا الأسرة الفاطمية الحاكمة في محبسهم، فقد أشار ابنُ أبي طي الحلبي الشيعي إلى حُسن مُعاملة صلاح الدين وكرمه معهم، وأكَّد أبو شامة ذلك بقوله: “اجتمعتُ بأبي الفتوح بن العاضد وهو مسجون مُقيَّد، فحكى لي أنَّ أباه في مرضه طلب صلاح الدين، فجاء وأحضرنا ونحن صغار، فأوصاه بنا؛ فالتزم إكرامنا واحترامنا”، وأشار ابنُ كثير في هذا الصدد إلى كرم صلاح الدين معهم بقوله: “… ولمَّا مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهلَ العاضد إلى دارٍ أفردها لهم، وأجرى عليهم الأرزاقَ والنفقات الهنية، والعيشة الرضيَّة، عوضًا عمَّا فاتهم مِن الخلافة…”، وتُشير روايةُ المقريزي في الخطط إلى بقاء أبناء العاضد المعتقلين وأفراد أسرته في الحبس في دار المظفر وغيرها، إلى أن نقلهم الكامل مِن دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد وإخوته وأولاد عمِّه واعتقلهم بها، حتى عصر الظاهر بيبرس.
(المصدر: شبكة الألوكة)