موقف الفكر الحداثي من السنة النبوية
بقلم عبد اللطيف المحيمد
سلك الحداثيون مع السنة النبوية مسلكهم مع القرآن الكريم ونزعوا عنها صفة القدسية، وقد استندوا في موقفهم هذا على الشبه التي تثار حول ظنية السنة النبوية وقلة المتواتر وكثرة الآحاد، واحتمالية الخطأ والرواية بالمعنى، والكذب والاختلاط الذي قد يطرأ على الرواة أثناء روايتهم للحديث الشريف، إضافة إلى الوضاعين والمتزندقين الذين أكثروا من الكذب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، متناسين الجهود الكبيرة التي وضعها أئمة السنة لحماية السنة من التحريف، والعلوم التي ابتكروها لضبط الرواية، كعلم المصطلح والرجال والعلل وغيرها.
يعرّف الحداثيون السنة عدة تعريفات، فمنها على سبيل المثال ما قاله حسن حنفي في كتابه “دراسات إسلامية” إن السنة هي “مجموعة من المواقف التفصيلية التي يتحدد فيها سلوك الإنسان، والذي تظهر فيه القدرة كمحك للسلوك، هي مواقف إنسانية مثالية، وتجارب بشرية نموذجية، يمكن الاحتذاء بها إذا أردنا مزيداً من التعيين والتحديد في الواقع” [ص 408].
وعرفها محمد شحرور في كتابه “الكتاب والقرآن” بأنها “منهج في تطبيق أحكام أم الكتاب بسهولة ويسر، دون الخروج عن حدود الله في أمور الحدود، أو وضع حدود عرفية مرحلية في بقية الأمور، مع الأخذ بعين الاعتبار عالم الحقيقة، الزمان والمكان، والشروط الموضوعية التي تطبق بها هذه الأحكام، معتمدين على قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج” [ص 549].
والمتأمل لهذين التعريفين يدرك كيف وُصفت السنة بأنها فعل إنساني محض، وهم يلمحون بذلك على أنها ليست وحياً من الله سبحانه وتعالى، أو ليست نصاً مقدساً لا يحتمل التأويل، وهذا التعريف والفهم مخالف لما فهمه علماء الأمة من السنة النبوية، الذين يرون أنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة على وجه التشريع.
فالحداثيون يرون أن السنة مجرد وصف للواقع المعاش لا أكثر، فكل نص فيهما جاز تأويله، إذ أنهما وجدا ليواكبا نشأة المجتمعات وتطوراتها، فلابد من تأويل أي نص يخالف واقع المجتمعات، فالنص عندهم يخدم المجتمع وينقاد له، وليس العكس.
يقول شحرور “ومن هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية، بأنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو أمر أو نهي أو إقرار”، ثم أوضح فكرته بقوله “هذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام” [الكتاب والقرآن، ص 548].
فالحداثيون يرون أن التزام الأمة بظاهر السنة النبوية، وظاهر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أدى إلى تشتت المسلمين، وإلى كارثة في الفقه والتشريع الإسلامي، وأدى إلى تحجير الإسلام وربطه بالبيئة البدوية والصحراوية التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جعله مجرد تراث موروث لا قيمة له واقعاً في حياة الناس، ولذلك لم يستطع المسلمون تحرير حاضرهم من ماضيهم.
وأما عن موقف الحداثيين من حجية السنة النبوية، فهم يرون أن السنة لا تصلح للمحاججة بأدلتها لكونها ظنية وليست قطعية، حيث قال حسن حنفي في مقال له في مجلة اليسار الإسلامي: “ولم أستعمل الحديث الشريف تأييداً للقرآن حتى لا يعترض أحد الأدعياء برواية الحديث وسنده ودرجة صحته، وتضيع القضية في مماحكات العنعنة، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد شيء في الحديث لا يوجد أصله في القرآن، والاعتماد على القرآن وحده هو الرجوع إلى الأصل أولاً، وهو أوعى وأشمل وأكمل”.
وهو بهذا النص يشبه إلى حد كبير أقاويل وشبه القرآنيين الذين يسعون وراء تنحية السنة النبوية، ومحاولة الاعتماد على القرآن الكريم لوحده دون غيره، ولا شك أن هذا المنهج بان فساده، وضعفت حجته، إذ لا يستقيم الأخذ بالكتاب لوحده، إذ السنة لطالما كانت وظائفها تتراوح بين تأكيد ما جاء في القرآن أو شرح مجمله أو المجيء بحكم تنفرد به دون القرآن الكريم، وقد بين العلماء ذلك بالتفصيل في كتب أصول الفقه.
مناقشة المغالطات
تدور مغالطات الحداثيين حول عدة أمور، منها:
1ـ مغالطتهم في المعنى اللغوي للسنة، حيث يخلطون بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي للسنة النبوية، ويحاولون سحب المعنى اللغوي على المعنى الشرعي، فهم يرون أن المعنى اللغوي لمادة: سسن، تدور حول الحركة والتغير والجريان، بينما في معناها الشرعي تدل على الثبات والسكون والجمود، وهذا استدلال عجيب، فالسنة لها معان كثيرة جداً في اللغة، وحصرها بهذا المعنى الذي يخدم أفكارهم خيانة علمية، وما زال علماء الأصول واللغة لا يفهمون منها معنى واحدا بل معان متعددة، أخذوا منها ما يناسب السنة النبوية.
2ـ رفضهم التعريف المتفق عليه بين علماء الأمة، وقد بنوا رفضهم هذا على مغالطتهم الأولى، فرأينا كيف رفض محمد شحرور وحنفي تعريف العلماء، واعتبروه أداة لتحنيط الإسلام وجموده، والصحيح أن السنة بخلاف ذلك تماماً، ففيها من المرونة ما يواكب جميع العصور، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ومع مرونتها حافظت على الأصالة الإسلامية.
3ـ انتقاصهم للسنة النبوية، وذلك بذريعة أنها أدت لتدهور الإسلام، وهذا يرد عليه كما قلنا في المغالطة الثانية، وبأن السنة شارحة ومبينة وموضحة لما جاء في القرآن الكريم.
4ـ قولهم بمرحلية السنة النبوية، وأن ما جاء فيها من أحكام خاص بتلك البيئة الصحراوية التي نزل فيها النبي، أما واقعنا فلا بد فيه من أحكام جديدة تناسب تطوره ومتغيراته اليومية، فالسنة حسب رأيهم تتغير وتتبدل ولا يجوز أخذ ظواهر الأحاديث وتطبيقها في كل مكان وزمان.
5ـ عدم اعترافهم بحجية السنة، معتمدين في ذلك على أنها لا تنهي خلافاً لكثرة الخلاف حول الأحاديث، وطرق ثبوتها، وصحتها وضعفها، وقد تبين ضعف هذه الشبهة بجهود العماء الكبيرة في تنقيح السنة، وبيان ضعيفها، والضوابط التي وضعوها للقبول والرفض والاستدلال والترجيح بين الأحاديث.
ولاشك أن كل ما سبق من تلاعباتهم بالألفاظ، فالقرآن لا يكتمل ويتضح إلا بالسنة، فلا مفاضلة بينهما إلا في حالة التعارض وتقديم الأدلة على بعضها، أما أن يتم رفض أحدهما كلياً فهذا غير وارد أبداً في الفكر الإسلامي، وغير مقبول.
وسبب رفضهم وموقفهم السلبي هذا من السنة أن السنة النبوية غالباً ما تكون واضحة، وليست كالقرآن الذي غالباً ما يحتمل وجوهاً عدة، لإجماله، ثم تأتي السنة الكريمة فتشرحه وتوضحه، وتفصل مجمله، ويدل على ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعث ابن عباس رضي الله عنهما لمحاججة الخوارج قال له: “اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين أنا اعلم منهم بكتاب الله، في بيوتنا نزل، قال صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا، فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة”.
وبذلك بين لنا سيدنا علي رضي الله عنه أن لا سبيل إلى إنكار السنة، أو إغفال شأنها بين مصادر التشريع الإسلامي، خاصة وان الله سبحانه وتعالى في القرآن ـوهو المصدر الذي يعتمد عليه الحداثيونـ أكد على مكانة السنة، فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92].
وبذلك يتضح لنا أن من أراد هدم الإسلام التجأ إلى هدم السنة وإنكارها، وهذا جزء من قراءة أهل الحداثة للتراث الإسلامي، وأن التناقض قد لحق منهجهم هذا ببيان القرآن الكريم بضرورة ولزوم اتباع السنة، ووجوب الأخذ بها.
______________________________
المصادر والمراجع
التلخيص في أصول الفقه، الجويني، تحقيق: عبد الله جولم النبالي وبشير أحمد العمري، دار البشائر الإسلامية، 1417هـ- 1996م، بيروت.
الاتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية، غازي الشمري، دار النوادر، بيروت، ط: 1، 1433هـ، 2012م.
الحداثة وموقفها من السنة النبوية، الحارث عبدالله، دار السلام، القاهرة، ط: 1، 2013م.
دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.
دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.
دفاع عن السنة، محمد محمد أبو شهبة، دار الجيل، بيروت، 1411هـ، 1991م.
منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.
مجلة اليسار الإسلامي، حسن حنفي، العدد الأول، 1401هـ.
(المصدر: موقع بصائر)