موقف الشعوب وموقف الحكام والحكومات من التطبيع
بقلم حسن فاضلي أبو الفضل
من الثابت في واقعنا أن شعوبنا لا تعيش حالة من عدم الوفاق وعدم الرضا عن حكامها وحكوماتها وحسب، بل تعيش حالة من الخصومة والاشتباك والنزاع. شعوب ترفض تدبير حكامها وحكوماتها لشأنها الداخلي وترفض تمثيلها الخارجي، وحكام وحكومات تسعى بالقوة لإخضاع شعوبها واستتباع مواقفها لموقفها. حتى وإن كانت هاته المواقف تناقض إرادة الشعوب وتزيّف تاريخًا وتمسح ذاكرتها وتتنكر لهويتها وتهدد مصالحها العامة وتعرقل تنميتها الحقيقية.
ظهور الفكر الصهيوني في المغرب
تعود البدايات الأولى لظهور الفكر الصهيوني في الشمال الإفريقي عمومًا وفي المغرب خصوصًا، إلى أوائل القرن العشرين، حيث توجهت الحركة الصهيونية العالمية نحو يهود المغرب قصد الحصول على المساعدات المالية والتأييد المعنوي. ولم يكن لهؤلاء اليهود أية معرفة بالفكر الصهيوني وبأهدافه الاستيطانية وطابعه الاستغلالي، إلا ما كان يراودهم من انبعاث الشعب اليهودي وتحقق الحلم التوراتي!
وجاء انحياز اليهود المغاربة لمضامين المؤتمرات الصهيونية التي عقدت في بازل ولندن من منطلق العاطفة الدينية، وبعدها توسع النشاط الصهيوني في المدن والقرى، وتم تأسيس روابط، منها:
- رابطة “شعاري تسيون = أبواب صهيون” في موغادور (الصويرة حاليًا) سنة 1900، كان يرأسها تاجر مشهور يدعى “دافيد بوحبوط”، وهي أول من روج الشيكل(1) الصهيوني في الشمال الإفريقي.
- رابطة “شيفات تسيون = العودة إلى صهيون” في تطوان سنة 1900، وكان يرأسها الحاخام لجالية تطوان والمنطقة الإسبانية “ليئون خلفون”.
- رابطة “أهافت تسيون = حب صهيون” في أسفي سنة 1903، وكان يرأسها الحاخام “مائير برشيشات”، تركز نشاطها على جمع التبرعات والترويج للشيكل الصهيوني في أوساط الجاليات اليهودية في المغرب.
- رابطة “حيبت تسيون = محبة صهيون” في فاس سنة 1909، نشطت هذه الرابطة في فاس وصفرو ومكناس، وروجت للاستيطان اليهودي في أرض فلسطين… وغيرها من الروابط الصهيونية الكثيرة التي تأسست تباعًا إلى منتصف القرن العشرين.
كان ضعف التواصل بين الروابط الصهيونية المغربية وبين الحركة الصهيونية العالمية سببًا في عدم وضوح أفكار ومفاهيم وأراء وأهداف هاته الحركة، ولذلك تعذر عليهم في البداية الفهم العميق والصحيح للفكر الصهيوني. لقد كان أغلب هؤلاء من بسطاء اليهود وعوّامهم، قد كانت هذه الحركة تقدم نفسها على أنها تسعى للتقدم الإنساني اليهودي وتوحيد البيت الطائفي، وأن ذلك لا علاقة باحتلال أرض فلسطين وطرد أهلها وتشريد سكانها!
لقد كان هذا التمويه حيلة لكسب تعاطف اليهود المغاربة قبل إدماجهم في تحقيق خطة البرنامج الاستيطاني، ولم تكن حينها سياسة الحركة الصهيونية تهدف إلى تهجيرهم إلى أرض فلسطين، بل كانت أولويتها جمع التبرعات، وكان ذلك مقياس الإخلاص والوفاء للنشاط الصهيوني.
بعدها سعت الحركة الصهيونية العالمية في توسيع نشاطها في المغرب من خلال إيفاد مبعوثين تابعين للصناديق القومية الصهيونية، وعرض الأفلام والأشرطة السينمائية وإصدار الصحف ك: المستقبل المصور = L’avenir illustre’ الصادرة بالفرنسية، ونهضة إسرائيل = Renacimiento de israel الصادرة بالإسبانية، وغيرها من وسائل الدعاية.
في هذه الفترة قامت فرنسا بإعادة تنظيم الطوائف اليهودية، فأبعدت الحاخامات ودفعت بالمثقفين العلمانيين المخلصين للسلطة الفرنسية في المغرب إلى قيادة النشاط الصهيوني، وشرعت هذه الفئة في وضع أسس للأطر التنظيمية وصياغة برامج إيديولوجية للنشاط الصهيوني المحلي. نشط بعدها التعليم العبري وتدريس اللغة العبرية، وبدأت المحاضرات عن تاريخ الاستيطان والفكر الصهيوني، وبدأت الأمسيات الشعرية والحفلات الاجتماعية في فاس والدار البيضاء وغيرهما…
أدت الأحداث التي تعرض لها “اليهود” على يد “النازية” إلى إحداث نهضة قومية، وإعادة تنظيم النشاط الصهيوني وظهور الاتحادات والمراكز الثقافية العبرية. فبعد الحرب العالمية الثانية توسع النشاط الصهيوني في المغرب، ولم يعد الأمر يقتصر على جمع التبرعات والترويج للشيكل، بل اتجه نحو تأهيل اليهود وإعدادهم للهجرة. وكانت فكرة (الخلاص المسيحاني) تسيطر على معظم الفقراء منهم، ولذلك أدى الإعلان عن تأسيس إسرائيل إلى تدفقهم وتهجيرهم، امتثالًا للنص الديني التوراتي الذي يأمر بالعودة إلى أرض الميعاد!
هذا ما كان في الظاهر، بينما كان يحدوهم الأمل في الباطن لحياة أفضل ورغد العيش على أرض (مملكة الخلاص المسيحاني).(2)
يظهر أن العلاقة الصهيونية المغربية ليست وليدة اليوم، بل إنها تتجاوز قرنًا من الزمان، عرَفت هاته العلاقة خلاله مسارًا مرتبكًا، تارة تطفو على السطح لتظهر للعلن وتارة تختفي، غير أنها بقيت مستمرة سرًا إلى أن ظهرت مؤخرًا في شكلها الفظيع.
موقف الحكام والحكومات من التطبيع
ما التطبيع؟ التطبيع هو إضفاء صفة المشروعية على كيان غير مشروع وغير طبيعي، وسحب حقوقٍ من أهلها، استعطافًا لهذا الكيان وطلبًا لحمايته، وعشقًا للذات (الإسرائيلية) أو وشعورًا بالدونية أمامها.
ما المطبِّع؟ هو كل من سعى في رفع القدسية عن بيت المقدس، ومستعدّ لرفعها عن بيت الكعبة، وكل من بارك محتلًا على احتلاله، وشجّع مجرمًا على إجرامه، إرضاءً له، وتأثرًا بسياسته.
و(التطبيع) في معناه الحقيقي، هو إزالة الوصف الطبيعي عن الارتباط بالكيان الإسرائيلي، حتى لو أُقيمت علاقات معه في السرّ والعلن… والدول المطبّعة هي الدول التي ارتبطت بالكيان الإسرائيلي بعلاقات غير طبيعية. إذ لو كان هذا الكيان طبيعيًا، وكانت العلاقة طبيعية، لما احتاج الأمر إلى تطبيع. (3)
إذا كانت الصهيونية العالمية لا تتحكم فيها القيم الإنسانية، ولا تأبه بمبادئ العدالة، ولا تخضع للمطلقات المعرفية، ولا تُقدّر الحقائق التاريخية. فإنها في مقابل ذلك تتحكم فيها أفكار ومعتقدات وتصورات يتم توليدها من الداخل، ثم تتضخم شيئًا فشيئًا إلى أن تصبح واقعًا يجب الدفاع عنه بالقوة والسلاح والاقتصاد والسياسة والإعلام.
لقد أدركت الحركة الصهيونية العالمية أن المقاومات الشعبية المدافعة عن أرضها ومقدساتها وتاريخها وهويتها عبر التاريخ، لا يمكن إخضاعها كليًا، ولا يمكن إبادتها جميعها، ولا يمكن محاصرتها كاملة. ولذلك ركزت نشاطها على “الصهيونية الديبلوماسية” و”الصهيونية الثقافية” و”الصهيونية الاقتصادية“، وهذا يضمن استمرار إسرائيل على أرض فلسطين لبضع سنوات ويؤجل زوالها المحتوم.
وفي وقتنا الحاضر انحصرت كل جهود الصهيونية العالمية في غاية واحد، وهي إنقاذ إسرائيل من قضائها الذي تخشاه، ولا سبيل إلى ذلك في تقديرها، إلا بوسيلتين:
- الأولى: هي التطبيع مع العرب / المسلمين؛ فالتطبيع السياسي مع العرب يوفر لها ما يضفي عليها نسبة من الشرعية، والتطبيع الاقتصادي يضمن لها أسواقًا واسعة عند شعوب تعرف الاستهلاك فقط ولا تفكر في الإنتاج، والتطبيع الثقافي يسهل اختراق الحاجز النفسي واختفاء حالة الغضب والكراهة تجاه إسرائيل.
- والثانية: استبقاء نفوذها في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ من خلال السعي إلى الوصول دائمًا إلى مراكز القرار السياسي، أو وصول المتعاطفين معها، وضخ الأموال في مؤسسات الإعلام ودور النشر والصحافة والمراكز الثقافية والدعائية، وإغراء الأحزاب والمؤسسات التشريعية والقانونية بالمال. (4)
في هذا السياق بالتحديد، ترد علينا الأسئلة التالية: كيف استطاعت إسرائيل أن تفرض التطبيع على الدول العربية/الأمازيغية/ الإسلامية، بعد العداء الذي كان بينهما؟ وكيف استطاعت اختراق هؤلاء الحكام والحكومات والتحكم في قراراتهم تجاه فلسطين؟ ولماذا اكتفت الدول المطبعة بدور المفعول، بينما كانت إسرائيل فاعلة في هذا التطبيع؟
لقد أدركت إسرائيل منذ البداية أن هؤلاء الحكام والحكومات لا يمثلون شعوبهم ولا يكتسبون شرعية شعبية، ولا يعبرون عن آفاق شعوبهم في التحرر والنمو والازدهار، ولذلك تسللت إلى هذا الشرخ وقامت بتوظيفه للتلاعب بالحكام والحكومات العربية واستغلالها. ولأجل تحقيق ذلك نجدها سلكت مسلكين:
الأول: مسلك الترهيب والابتزاز والتهديد؛ لما وصل أغلب الحكام إلى الحكم عن طريق انقلابات عسكرية أو انتخابات مزورة أو عن طريق توارث السلطة، وهي أشكال لا تضفي شرعية دينية أو قانونية أو فلسفية أو منطقية أو أخلاقية على حكمهم. ولذلك كانت إسرائيل تعمد إلى تهديدهم بانقلابات على انقلابهم، أو بإثارة الشعوب ونشر الفوضى ضدهم، أو بتحريك الثورات وتوجيهها بما يؤدي إلى إزاحتهم عن عروشهم. والحكام العرب يدركون جيدًا أن إسرائيل لها قدرة على ذلك، وإن كانت هاته القدرة نسبية.
كما أن فضائحهم الجنسية والأخلاقية تعتبر نقط ضعفهم، وأن جرائهم ضد الإنسانية تُعدّ مصدر خوف وقلق من المحاكم الدولية، كما أن ثرواتهم غير المشروعة التي راكموها في البنوك الدولية وسيلة ناجعة للابتزاز. وإسرائيل عندها من المقاطع والمحادثات المتعلقة بفضائحهم الجنسية والأخلاقية، عندها ما يكفي من ذلك للتشهير بهم وإثارة السخرية منهم في العالم كله، وعندها من اليد الطولى في المحاكم الدولية ما يمكنها من تحريك المتابعات القانونية، بتهم الجرائم ضد الإنسانية، وعندها من السلطة والمِلكية على البنوك الدولية ما يكون مصدرًا للتهديد ومصادرة تلك الأموال بذرائع مختلفة.
وعرفت إسرائيل كيف تخترق المجموعات والأقليات العرقية واللسنية والدينية وتجعلها في صفها، وتُحركها لمصلحتها بما هي قوة بشرية ضاغطة داخل هذا البلد أو ذاك. فأصبحت هذه المجموعات والأقليات مادة استعمالية توظف للتهديد بالانفصال والضغط على الحكومات. ولذلك فإن الحاكم إذا لم يجد حلًا لقضاياه المصيرية في الداخل، فإنه يلجأ إلى استيراد حلول خارجية وإن كانت على حساب التاريخ والهوية والمصير نفسه.
ونظرًا لهشاشة أسس الحكم عندنا، واستعداد الشعوب للثورة والاحتجاج، فإن حكامنا أول من يستجيب لتأثير الدعاية الإسرائيلية ويخشى غضبها، وقد صرح المعلق السياسي الإسرائيلي يوئيل ماركوس في جريدة هآرتس (31 ديسمبر 1993) بأن كثيرًا من الدول تغازل إسرائيل وتخطب ودّها، نظرًا لأن حكام هذه الدول يؤمنون بأن البرتوكولات وثيقة صحيحة، وأن ما جاء فيها هو المخطط الذي يتحقق في العالم والذي سيؤدي إلى سيطرة اليهود، وأنهم يتحكمون بالفعل في رأس المال العالمي وفي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية! (5)
فبحسب هذا المعلق السياسي، تستطيع وثيقة لا تثُبت صحتها ولا تثبت نسبتها لِـ (حكماء صهيون) (6) أن تثير الرعب في قلوب حكامنا وتكون مصدر قلق، يخطبون معها ودّ إسرائيل ويرجون حمايتها.
إن أسس الفكر الصهيوني قائم على الاستغلال؛ استغلال النزاعات الداخلية للدول، واستغلال الاختلافات اللغوية والدينية للشعوب، واستغلال سوء تدبير الحكام لبلدانهم.
الثاني: مسلك الترغيب والتقريب والتحبيب؛ فالاستثمار وتأسيس الشركات والتعاون العلمي وتشجيع السياحة وغيرها، من أساليب الإغراء التي تنهجها إسرائيل مع حكامنا. ونظرًا لضعف الاستثمار وتعقيد مساطره القانونية، ونظرًا للتخلف الحاصل عندنا في مختلف التخصصات العلمية، يعتبر هؤلاء الحكام أن إغراءات إسرائيل مشروعًا لتنشيط الاستثمار وتنمية الاقتصاد وتطوير البحث العلمي، بما يفتح آفاق التقدم لبلدانهم ويساهم في تدفق العملة الصعبة.
يكفي أن تعد إسرائيل بتأسيس شركة أو بتصدير بعض المنتجات، أو أن تفتح قنصلية في منطقة متوترة، حتى يتنكر هؤلاء الحكام للذاكرة والتاريخ والهوية والذات والموضوع وغيره، فيباشروا تنفيذ ما تمليه عليهم. كما أن الدعم المالي المباشر من إسرائيل أو غير المباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، للدول التي تعاني من مشاكل اقتصادية من جرّاء سوء توزيع الموارد وسوء تدبيرها وفشل سياستها الداخلية، يُعدّ أداة جيدة للتقريب وللتطبيع، ولو كان ذلك على حساب القضية الفلسطينية العادلة والشعب الفلسطيني وثوابت الأمة… وإن كانت هذه الأموال في أصلها عربية، خرجت من خزائنها وصناديقها، ليتم تدويرها في الولايات المتحدة الأمريكية على شكل صفقات لشراء الأسلحة.
وتشكل المخاوف الأمنية هاجسًا كبيرًا لدى هؤلاء الحكام والحكومات، ولذلك نراهم يسارعون إلى شراء برامج الاختراق والتجسس. وإذا كانت إسرائيل متقدمة في الأمن الإلكتروني، فإن حكامنا سارعوا لشراء برامجها المصنعة المخصصة للاختراق والتجسس وتتبع النشاء الحقوقيين والمعارضين السياسيين وغيرهم في الداخل والخارج.
ويعد برنامج “بيغاسوس Pegasus” الذي طورته شركة (NSO) الأغلى والأكثر تعقيدًا، الأخطر والأقدر على اختراق الهواتف من دون آثار، جعلته الشركة الإسرائيلية -بعد موافقة وزارة الدفاع- في خدمة الحكومات لتتبع واستهداف هواتف الأشخاص والشركات والمؤسسات، مصدر الإزعاج أو الخطورة والتهديد.
وقد رصد الباحثون في مختبرات “سيتيزن لاب Citizen Lab” -التابعة لجامعة تورنتو الكندية- نشاط هذا البرنامج في العديد من الدول منها: السعودية والإمارات والمغرب ومصر وفلسطين. (7)
تبقى عبارة: (التطبيع من أجل مصلحة الوطن) عبارة غير صحيحة وخالية من مضمونها، ولا تُعبر عن حقيقة الخضوع للتطبيع والرضا بدور المفعول به في السياسة والاقتصاد وغيره. ولا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لتفسير وفهم دوافع هذا التطبيع، فقد يكفي أن يشعر الشخص في قرارات نفسه أنه صهيوني، ويجعل قبلته إسرائيل ليتقرّب إليها بالتطبيع!
موقف الشعوب من التطبيع
إذا كانت آهات المريض لا يشعر بها إلا من فتك بجسده المرض، وعذابات اليتيم لا يشعر بها إلا من ذاق مرارة اليتم، ومعاناة السجين لا يشعر بها إلا من حُرم حريته، وشعور المضطهد والمُهجّر والمظلوم لا يعرفه إلا من عاش ذلك، فإن هموم الشعب -أي شعب- لا يمكن أن يشعر بها إلا شعب مثله. ولذلك كانت شعوبنا -نظرًا لماضيها القريب مع الاحتلال- أخلص في التعبير عن التضامن مع بعضها، وأصدق في الدفاع عن بعضها، وأكثر استعدادًا لنصرة الحق والدفاع عن المظلوم.
وإن لم تكن كل شعوبنا تعيش بفطرتها وتاريخها وواقعها وآمالها مع مصيرها، فإن أكثرها كذلك؛ لازالت تسمع صوت الحق وتفهم معنى العدالة رغم ما طرأ على سلوكها وفكرها وفطرتها من التشويه المُمنهج والمتعمد.
ومن ههنا نجد تلك الفجوة العميقة بين مصالح الحكام والحكومات وبين آمال معظم شعوبنا، سواء تعلق الأمر بقضايا الداخل أو بقضايا الخارج. فهم بحكم -مصالحهم الشخصية- يثبتون ولاءهم للمعسكرات والقوى المعادية للحق وللعدالة، حماية لهم وضمانًا لاستمرار عروشهم. بينما شعوبنا التواقة للحرية والعدالة والحقوق، تجعل من نفسها نسخًا لأي شعب هُجّر من أرضه أو حُرم من وطنه، أو تعرض للتعذيب ومورس عليه الاضطهاد.
إن المبادئ المختلفة والآمال المختلفة والأهداف المختلفة والولاءات المختلفة، تقتضي أن تكون القضايا العادلة عند هؤلاء غير القضايا العادلة عند هؤلاء، وتكون المصالح الكبرى عند هؤلاء عكسها عند هؤلاء، فعلى سبيل المثال “تعد الثورة ضد نظام مستبد عملًا بطوليًا من منظور الثوار، لكنها تعد جريمة ضد أمن الدولة يعاقب عليها القانون من منظور القائمين على النظام، والعكس صحيح، فدعم نظام ظالم جريمة من منظور المدافعين عن العدالة، لكنه واجب وطني من منظور القائمين على النظام”(8).
ولذلك كان منظور الشعب للتطبيع يختلف تمامًا عن منظور الحكام والحكومات؛ فالشعوب ترى التطبيع تعدٍّ على حقوق شعب في أرضه وتشريد له بقوة السلاح وقوة السياسة والإعلام والاقتصاد، بينما الحكومات لا يهمها شأن هذا الشعب أو ذاك، ما دام القائم بأعمال التهجير والاستيطان والتنكيل والسجن والتعذيب يضمن شرعيتها ويساند استمرارها.
ولا يمكن أن يتطابق الموقفان حول (التطبيع) إلا إذا كان هؤلاء الحكام والحكومات يمثلون شعوبهم ويعبرون عن إرادتهم في الاختيار. فشعوبنا أو معظمها ترفض التطبيع وتستنكره بقلوبها وعقولها وكل جوارحها، وتعدُّه خيانة عظمى لمقدساتها وتاريخها وهويتها وقضيتها. بينما تتدخل في توجيه قرارات الساسة اعتبارات أخرى مفصولة كليًا عن كل المفاهيم الأخلاقية والحقوقية كالعدالة والحق والقانون.
لا يُفهم من ذلك أن شعبنا كله كان عصيًّا عن الاختراق الصهيوني، بل إن هناك فئة قليلة تم اختراقها وتطويعها وتحريكها، من خلال تكريس المصلحة الضيقة، وتقسيم المنطقة على أساس طوائف وأجناس وأصول قومية ومذاهب، يستمر بينها قدر من الصراع المعقول الذي يمكن التحكم فيه.
وقد كشفت دراسة صهيونية صدرت عن (مركز موشي دايان) التابع لجامعة تل الربيع، عن مخطط صهيوني لاختراق الحركة الأمازيغية واستثمارها لتسريع عملية التطبيع، وأن الاستراتيجية الصهيونية لمواجهة الحركات الإسلامية والقومية، هو اختراق وتطويع فاعل غير عربي، ومواجهة الخطاب الإسلامي بخطاب منافس. وكمُّ الاختراق الحاصل في صفوف هذه الفئة يبدو واضحًا ولا يحتاج إلى نقاش. غير أنها فئة تبقى قليلة ومحدودة تمثل داعميها ومُحركيها ولا تمثل الأمازيغ من قريب أو بعيد.
خاتمة
تقول إحدى الحكم: كما أنه يوجد ذئب مستعد لأن يفترس خراف من حوله، فكذلك يوجد قرد مستعد لأن يقلد من يضربه أو ينتصر عليه. وكذلك غفلة الأمم العربية وخيانتها لنفسها، مطلوبتان لاستمرار إسرائيل وتقليل متاعبها وتأجيل نهايتها، وهي في الوقت نفسه خيانة تظهر حقائق الأمور وتميّز الأبيض عن الأسود، ليتحقق وعد الله، وكان وعد الله مفعولًا، والله أعلم
(المصدر: موقع تبيان)