مقالاتمقالات مختارة

موقفي من مطبّع

بقلم هبة عدنان الجندي

يُفضّل أغلب الأشخاص إبداء اهتمامهم بمجال الفنّ والرّياضة على أن يقحموا أنفسهم في المجال السّياسي ويشغلوا أوقاتهم بتوابعه، فالسّياسة -في نظر الكثيرين- مضمارٌ شائك ومبهم، لا مكان فيه لمتعة الفنّ والرّياضة. لكنّني لا أعتقد أنّهم سينجحون في الفصل بين الفنّ والرّياضة من جهة والسّاسة من جهة ثانية، خاصّة إذا تعلّق الأمر بالانتماء والقضايا الهامّة في حياة الإنسان.
ولعلّ النّقاش حول هذا الأمر يزداد كلّما تصدّر مخرج أو رسّام أو لاعب أو ممثّل عناوين الأخبار ومواقع التّواصل الاجتماعي، ويُرفق مع الخبر ما يدلّ على علاقته بـ”إسرائيل”، بل إنّ النقاش سرعان ما يتحوّل إلى معركة إلكترونيّة أحد طرفيها معلّقون رافضون للجمع بين الفنّ والسّياسة منتصرون لضرورة الفصل بينهما، في ما يؤكّد الطّرف الثّاني على العلاقة التي تربط بين المجالين، فيطالب المعلقون بالمقاطعة انتصارا للقضيّة الفلسطينيّة الصّامدة منذ أكثر من سبعين عامًا.

ولا يخفى في هذا السّياق أنّ “إسرائيل” تسعى دوما لاستغلال مثل هذه الأحداث والاستفادة منها بكلّ الطّرق الممكنة، فهي ترى في الأمر فرصةً سانحةً لتعزيز وجودها في كافّة المجالات، بل إنّها تبدو كمن يخاطب المعادين لها بالقول ألّا مفرّ من الاعتراف والقبول بها مثلما يفعل مشاهير التّلفاز والسّينما والإعلام والرّياضة.

ولعلّها قد نجحت إلى حدّ ما في ذلك المسعى باعتبار أنّنا قد صرنا نسمع ونرى بين الحين والآخر من يجاهر -وهو العربي المسلم- بالتّطبيع مع “إسرائيل”، بل ويدعو إلى التّعايش والتّآخي مع الكيان المُحتلّ، وهو ما كان محرّما على امتداد عدّة عقود خاصّة في المستوى الشّعبي والأكاديمي العربي، وإنّ تعالي هذه الأصوات وتعدّدها ليعني بالضّرورة أنّ الكيان المحتلّ قد تمكّن من تقويض بعض الثّوابت والمسلّمات.

فكيف يمكننا أن نتقبّل لاعبًا أو ممثّلًا استغلّ نجاحه للإساءة لقضيّتنا؟! ألا يستثمر آشتون كوتشر وسكارليت جوهانسن ولوناردو دي كابريو وجاستن بيبر وغيرهم المبالغ الضّخمة في شركات إسرائيليّة تساهم في دفع عجلة الاقتصاد الإسرائيلي وتشكيل آلة الحرب الموجّهة إلى أبناء الشّعب الفلسطيني؟ وإن كنّا لا نجد حرجًا من التصريح بالوقوف معهم بحجّة الفصل بين الفنّ والسّياسة، فلماذا لا يجدون هم حرجًا من خلط الأمرين ببعضهما؟ تمامًا كما تفعل الممثلة غال غادوت، وبطل فيلم “الوغل” وكلاهما مجنّد إسرائيلي يفاخر بعدد قتلاه من الفلسطينيين وينادي بضرورة إبادتهم؟!

ولئن لم يبلغ الممثّلون والفنّانون العرب ما وصل إليه مشاهير الغرب في علاقتهم بإسرائيل فإنّنا لا نستطيع إلا استنكار ما يقوم به بعض بني جلدتنا من تجاوز مجرّد التّعاطف إلى الانسلاخ التّام عن القضيّة، كما فعل المخرج اللبناني زياد الدويري عام 2012 الذي سافر إلى فلسطين المحتلّة وتعاون مع الإسرائيليّين على امتداد ما يقارب العام الكامل لتصوير مشاهد من فيلمه الصّدمة، وهو الفيلم الذي مُنع عرضه في مهرجان قرطاج بعد ضغط من حركات المقاطعة الشّعبية.

إنّه لمن المعيب أن نتخلّى عن قضيّتنا بهذا الشكل وننسلخ عنها لنساهم في إنجاح مخطّطات الاحتلال الرّامية إلى تجهيل الشّعوب وضرب انتمائها القومي في الصّميم، وكأنّ “إسرائيل” التي باتت تعلم أنّ معركة السّلاح والمقاومة ليست سهلة، راحت تراهن على خطّة التّعايش السّلمي الذي يسري كما الماء تحت أقدام المُغيّبين منّا دون دراية.

ولعلّ من المهم أيضًا أن نتساءل في إطار الردّ على مطلب الفصل بين السّياسة والفن، لماذا قامت المغنّية الأمريكيّة كساندرا ويلسون بإلغاء حفلها في “تل أبيب” بعد أن اطّلعت على معاناة الشّعب الفلسطيني؟ ولماذا حذا حذوها روجر ووترز نجم فرقة موسيقيّة معروف؟ ولماذا ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك مثلما فعل المخرج البريطاني كين لوتش والمخرج الفرنسي جان لوك غوادار اللذين دعما القضية الفلسطينية بالمال والصورة وكأنهما يخوضان معركة خاصة، بل إن المخرج لوتش قام بتقديم اعتراض حادّ على عرض فيلمه “آي دانييل بليك” في “إسرائيل” دون موافقته داعيًا إلى ضرورة مقاطعة الكيان المحتل بشتى الوسائل، وغيرهم من الأسماء المعروفة مثل ميغ رايان وادواردو غاليانو وجودث بتلر؟

إنّ من يقف مع القضية الفلسطينية يقف لإيمانه المطلق بعدالتها، دون أن يتحسّس هويّته في جيبه وما كُتب عليها في خانة الجنسيّة، ودونما اهتمام لموقعه على خارطة العالم، لأنّ الإنسان السّاعي إلى صون مبادئه لا يتعلّل بحجج واهية وأعذار، وإنّما يقدم على فعل ذلك وإن كان لوحده، ففي الوقت الذي تظن فيه أنك مجرد نسمة على كوكب كبير لا تسمن ولا تغني فإنّك تكون قد أضعَفتَ الكلّ، أمّا حين تدرك أهمّية حفاظك على صوتك ورأيك وأفكارك وحمايتها والدّفاع عنها باستبسال… فإنّك حتما ستنهض بالكلّ.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى