مواقف العلماء والدّعاة وصناعة الإلحاد
بقلم محمد خير موسى
مَا إنْ انطلقت ثورات الرّبيع العربيّ حتّى بدأت أَعين الثّائرين تتلفّت ذات اليمين وذات الشّمال علّها تجدُ عالـمًا يَجمع شتات أمرهم، ويرشّد وثبتهم، ويقود سيلهم العارم إلى حيثُ تولّي ثورتهم وجهتها،لكنّ البصر ارتدّ إليهم خائبًا وهو حسير.
المرجعيّات وخيبةُ الخذلان:
في الأزمات الطارئة، والنّوازل الدّاهمة، والخطوب الفادحة، والظّلمات الحالكة، يهرع النّاس إلى مَن يظنّون أنَّ الحلّ عندهم، فالنّاس في الأزمات تظهرُ بجلاءٍ حاجتهم إلى المرجعيّاتِ، أشخاصا كانوا أم مؤسّسات.
وأوّلُ من يظنّ النّاس في الأزمات أنَّ الحلّ عندهم هم علماء الشّريعة، فهم ورثة الأنبياء وحمَلُةُ الوحي والموقّعونَ عن ربّ العالمين.
وتكون الكارثة عندما يقع النّاس في حيصَ بيص، فيهرعونَ إلى علمائهم فلا يجدون الكثيرَ منهم. يرونَهم بينهم ومعهم، ولكنّهم لا يجدونهم، بل يجدونهم قد تلفّعوا بالصّمت العميل.
وجد الشّباب أنفسهم في الميدان الثّوريّ وحدهم، بلا مرجعيّات ولا موجّهين، لكنّهم في المقابل لم ينتظروا أحدًا، ولم يستأذنوا عالمـًا أو شيخًا في إقدامهم على الثّورة التي رأوا فيها حياتهم التي لم يتنسّموا عبيرها من قبل.
كانَ كثيرٌ من علماء الصفّ الأوّل في حالة حيرةٍ واضطراب، وتردّدٍ في الإقدام يغلبُه الإحجام تحت عناوين التّعقّل والتروّي.
وكلّ هذا لم يُقنع الشّباب الذي سالت دماؤه في الطرقات والميادين، وكانوا يتعطّشون لموقفٍ واضحٍ لا لبسَ فيه من مساندة المظلوم في وجه الظّالم.
وهنا عاش الشّباب خذلان العلماء لهم بصورةٍ جليّة، وهذا الكلام وإن كان لا ينطبق على جميع العلماء غير أنَّ علماء الصّف الأول من بلاد الثّورات في غالبهم تأخروا عن الشّباب الثّائر وتركوه وحيدًا في وسط معمعةٍ لم يعهدها من قبل ولم يخبر آليّات التعامل معها.
وعندها تقدّم إلى ساحة التّأثير شخصيّات دعويّة لم يكن لها حضورٌ اجتماعيّ ومكانةٌ مرجعيّة مثل الكثيرين سواهم.
في الشّهر السّادس من عام 2011م كنتُ في زيارة لمنزل أحد الدّعاة المرموقين في مدينة دمشق، فسألني: برأيكَ لماذا حقّق الشّيخ عدنان العرعور هذه المكانة والقبول عند عموم شباب الثّورة السّورية، فالعرعور -الذي خبا وأفل نجمه وانتهى دوره لاحقًا-كان يطلب من النّاس مطالب يحقّقها عامّة النّاس بطريقةٍ لافتةٍ من تكبير على الأسطحة في أوقات محددة أو قرع على الأواني المنزلية في ساعات محددة.
فقلت له: لأنّه تقدّم وأنتم تراجعتم، ولأنّه حضر وأنتم غِبتم، ولأنه قال وأنتم صمتّم، ولأنّه اتّخذ موقفًا واضحًا وأنتم ما زلتم تائهين في حسابات الرّبح والخسارة.
فالذي يصنع المرجعيَّةَ في الأزماتِ والمحن هو الموقفُ لا العلمُ الغزير، والنَّاسُ في الأزماتِ والمحن تبرزُ حاجتُها بشكلٍ أكبر إلى المرجعِ الذي تلتفُّ حولَه وتصدرُ عن رأيه، ولكنَّها لا تختارُ مرجعيَّتها بناءً على غزارةِ العلم وسعةِ المعرفة، وإنَّما بناءً على المواقف الرِّياديّة.
وهذا ما يفسِّرُ تهدَّمَ كثيرٍ من المرجعيَّاتِ التي التفَّ حولَها النَّاسُ زمنَ الاستقرارِ لعلوِّ كعبها في العلم فتحطَّمت إذ غابت عن ساحةِ المواقف، وبروزَ مرجعيَّاتٍ لا تحملُ من العلم معشارَ ما عندَ غيرها إلَّا أنَّها ملأت الفراغَ الذي صنعَهُ الغائبونَ المُفتَقدون.
هذا الخذلان من المرجعيّات العلمائيّة في بلاد الثّورات إبّان اشتعالها انسحب عند شريحة من الشّباب على الدّين نفسه، وذلك لعدم الفصل بين الرمز والفكرة التي يحملها،فرأوا أنّ الذي خذلهم في مواجهتهم للطغيان هو الدّين نفسه،فأعلنوا رفضهم للفكرة بسبب خيبتهم من الشّخص الذي يحملها.
والنّجم إذا هوى!
وكانت الطّامة الكبرى عقب اندلاع الثّورات في تهاوي الدّعاة النّجوم الذين صدّرتهم الفضائيّات وصنعت منهم رموزًا يرى النّاس الإسلام من خلالها.
أو سقوط رموز العلماء من الصّف الأوّل والثّاني، وفشلهم في اختبار الثّورات وانحيازهم الصّارخ للطاغية المستبدّ ووقوفهم في وجه الشّعب الذي كان يرى فيهم ممثّلين عن الدّين وسفراء للإسلام وورّاثًا للنبوّة.
فالدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي العالم البارز الذي كان عنوانًا بارزًا للعلماء في سوريّة وله حضوره في الواقع الاجتماعي والمسجدي والأكاديمي الشّرعي السّوري، وكان خطيبًا لجامع بني أميّة الكبير بدمشق، سارع لمساندة نظام بشّار الأسد ووصفَ الشّباب الثّائر الذي كان كثيرٌ منهم من محلبّيه بأنّ جباههم لا تعرف السّجود وبأنّهم ينتعلون المساجد!!
وليوغل بعد ذلك في مساندة النّظام في كلّ ما يقوم به ويدعمه بطريقةٍ صادمةٍ لعموم الشّباب، طريقةٍ فجّرت في أنفس الشّباب أسئلة عن الإسلام كلّه وعن الإيمان بهذا الدّين الذي يدفع عالمًا كبيرًا مثل الدّكتور البوطي إلى مساندة النّظام الذي لم يترك جريمة يندى لها جبين الإنسانيّة إلّا فعلها.
وهكذا كان الحال في مصر حيث وصل الأمر بمفتي مصر السّابق علي جمعة إلى مطالبة جيش مصر الذي ارتكب الانقلاب والمجازر التي كان أشهرها وأبشعها مجزرة رابعة بأن يقتل المتظاهرين العزل بلا هوادة بعبارته الشّهيرة: “اضرب في المليان”.
كما سقط عمرو خالد الذي ساند الانقلاب في مصر ووقف في صفّ الظلم والطّغيان ومثله فعل الحبيب علي الجفري وهما من شريحة الدّعاة الجدد الذين صنعت منهم الشّاشات نجومًا في سماء الدّعوة.
وهناك نجومٌ هوت بسبب صمتها المريع على الباطل، فالصّمت حيث يجب الموقف موقف، والسّكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، ومثال ذلك الشّيخ محمد حسّان الذي كان يخطب بقسوة ويرفع عقيرته على الرّئيس المنتخب محمد مرسي تحت عنوان قول الحقّ والنّصح للحاكم حتّى إذا وقع الانقلاب من عبد الفتاح السيسي وارتكبت المجازر البشعة لاذ بالصّمت المطبق!!
وهذه الشخصيّات ما هي إلّا نماذج لرموز من مدارس دعويّة مختلفة وتيارات فكرية متنوعة فشلت في اختبار الثّورات وسقطت من أعين النّاس وقلوبهم بمواقفها المساندة للطغيان والاستبداد والقمع والإجرام.
والنّاسُ عامّةُ النّاس لا يفرّقون بين الرّمز والفكر الذي يحمله، فيكون حكمهم على الرّمز حكمًا على الفكرِ بالضّرورة.
وهذا السّقوط في اختبار الثّورات من كثيرٍ من الرّموز الذين صنعهم الإعلام في ظلّ تغييب ممنهجٍ لمن ينبغي أن يكونوا رموزًا حقيقيين لأنّ الإعلام بيد من لا يريد لهم الظهور والبروز، أدّى إلى إسقاط الدّين كلّه من نفوس شريحة من هؤلاء الشّباب.
لا أنسى ذلك اليوم عندما جلس إليّ شابٌ عشرينيّ مجازُ بالقران الكريم حفظًا وتجويدًا ليقول بصدمة باكيًا غاضبًا: لقد اكتشفت أنّ القران الذي أحفظه هو مجرّد كذبة!! وكلّ الدّين ليس أكثر من كذبة، فالمشايخ كانوا يكذبون علينا في كلّ شيءٍ كلّ شيء!!
وكان مشايخه ممن وقفوا على جانب النّظام الذي ثار عليه فكانت هذه لحظة المفاصلة،لكنّها لم تكن لحظة مفاصلة بينه وبينهم بل بينه وبين الدّين الذي تلقّاه منهم.
وشابٌّ آخر قال لي بكلّ انكسار: المشايخ هم من ساندوا حافظ الأسد في مجازره وهاهم اليوم يساندون بشار الأسد، هم الذين يضعون أحذية الطّغاة على رقابنا، فلو كان الدّين حقًّا لما فعلوا ذلك!!
وهكذا كانت مواقف العلماء والدّعاة المساندة للظلم والطّغيان أو الصّامتة عنه الخاذلة للناس الذين رفعوا سقف توقعاتهم من هؤلاء العلماء الذين طالما حدّثوهم عن سير العلماء الصادقين مع الحكام، وحدّثوهم عن بطولة المؤمنين في مواجهة الباطل،من الأسباب الواضحة على بروز ظاهرة إلحاد ما بعد الثّورات.
فالانفصام بين الفكرة والسّلوك، والتّناقض الظّاهر بين الدّين والدّاعي له، والبون الشّاسع بين العالم والحقّ أحدث ردّة فعل عنيفة لا تجاه سقوط المرجعيّات فحسب بل تجاه رفض الدّين كلّه.
مناقشةٌ هادئة:
بعد هذا التوصيف لا بدّ أن المرء يتساءل عن آليّة التعامل والمعالجة، فهذه نقاطٌ منهجية على طريق المعالجة:
معضلة التعميم:
من الطّبيعيّ أن تثور ثائرة الشّباب بسبب الخيبة وخذلان شريحةٍ واسعةٍ من العلماء والدعاة لتوقّعاتهم.
لكنّ ردّة الفعل العنيفة تفقد الشباب القدرة على المنطقيّة في الطرح في أحيان عديدة مما يدفعهم إلى التّعميم والانطلاق من تعميم الحكم على الأفراد إلى تعميم الحكم على الفكرة.
فالعبارة السّائدة بأن العلماء خذلوا الثّورات أو وقفوا في صفّ الطّغاة غير صحيحة من جهة التعميم.
فكلّنا يعلم أنّ هناك رموزًا كبيرةً وقفت في وجه الطّغاة وساندت الشّعوب في ثوراتها، ومن هؤلاء العلّامة يوسف القرضاوي الذي كان الشّباب يهتفون باسمه في ساحات سورية، وكان هو خطيب الجمعة في ميدان التحرير عقب خلع مبارك وهو الذي حضرت الثّورات كلّها في حديثه وخطبه دعمًا وتأييدًا وحشدًا وتأصيلًا.
ومن هؤلاء العلّامة الليبي الصّادق الغرياني الذي أعلن من قلب طرابلس الغرب وهي تحت سطوة القذافي وجوب الثّورة على هذا الطّاغية.
وإذا أردنا أن ننظر قليلًا إلى السّجون التي تمتلئ بالثّائرين والواقفين في وجه انقلاب السّيسي فإننا نرى ثلّةً من كبار العلماء والدّعاة الذين كانوا مع الشباب في الميادين بل تقدّموا صفوف التّضحية والفداء ومن هؤلاء صفوت حجازي وصلاح سلطان وعبد الرّحمن البرّ.
وفي سورية كان بين الذين قتلوا تحت التعذيب عددٌ من أساتذة كلية الشريعة وخطباء وأئمة المساجد.
وهذا يعني أنّ العلماء والدّعاة انقسموا إلى أصناف ثلاثة كما بقيّة شرائح المجتمع، فمنهم من ساند الطّغاة وعادى الثّورات، ومنهم من خذل الثّورات بصمته، ومنهم من ساند الثّورات فذاق القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير.
وهذا يجعل الحكم على الدين بناء على الموقف هو تحكّم وانحياز إلى صنف دون غيره، وهنا تظهر بشكل جلي ضرورة الفصل بين الفكرة والسّلوك،سواء في خطاب الدعاة والعلماء أو في نظرة الشباب ومنهجية تفكيرهم.
العالم والدّاعية المتخيّل:
كما أنّ تخيّل الشباب بأنّ العلماء جميعهم سيكونون العزّ بن عبدالسلام في جراته أو ابن تيمية في جهاده أو أحمد بن حنبل في ثباته.
لكنّ هذا تخيّل غير دقيق نابع من تخيّل ملائكيّ للمجتمع الدينيّ، فحتى في العصور الأولى لم يكن الأمر على هذه الشّاكلة،فكم عالمًا كان مثل العزّ بن عبد السّلام وابن حنبل؟!
إنّ مجتمعَ المشايخ والدّعاة هو كسائر مجتمعات الشرائح الأخرى، فيه المخلص والمجاهد والمضحي، وفيه الجبان والمنافق والمتزلّف والعميل والنّذل، وفيه الجامد والمتخشّب والمرن، وفيه الذكي والغبي، وهو يخضع لقانون التمايز في الأزمات والمحن، فمن حق الشباب التفتيش فيه عن الزّيف المخاتل وعن الخالص الصادق.
بينَ التّقديس والانتقاد:
المشايخ والدعاة والعلماء ليسوا كائناتٍ مقدّسة غير قابلة للانتقاد أو النّصح أو التوجيه.
وإنّ واجب الشباب احترامُ الدّعاة والعلماء كما هو الحال الواجبُ مع كلّ أصحاب التّخصّصات المختلفة، ولكنّ الاحترام لا يتنافى مطلقًا مع الانتقاد مهما كان هذا الانتقاد قاسيًا ما دام في دائرة توصيف الحال والتّطلع إلى المأمول من هؤلاء الدعاة والعلماء، وسوءُ الأدب مرفوضٌ من الشباب في مخاطبة الدّعاة كما أنه مرفوضٌ من الدّعاة في مخاطبة الشباب والهجوم عليهم.
وعلى الشباب أن يعتادوا قول “لا” حيث يجب قولها سواء في ذلك قولها للدّعاة أو السياسيين أو غيرهم.
الفصل بين الشّخص والفكرة:
المشكلة عندَ بعضِ المشايخ تكمنُ في عدم تصوّرهم الفصلَ بين المشايخ والدّعاة وبينَ الإسلام، وبينَ المدارس الشرعية وبين الإسلام، فيصبحُ أيّ انتقاد لآليَّاتِ العملِ أو وسائل التّربية انتقادًا للإسلام نفسه.
رغم أنّهم يؤكّدون على الفصل نظريًّا إلّا أن التّطبيق العمليّ يُثبت القداسةَ غير المقبولةِ التي يتعاملون بها مع أنفسِهم ومدارسهم وجماعاتِهِم.
هذه القداسة التي استقرت في أعماق الشّباب فكفروا بالفكرة عندما كفروا بالشّخص يتحمّل المشايخ والدّعاة أنفسهم نسبةً كبيرةً من مسؤوليّة تكريسها وترسيخها.
وهنا لا بدّ من إيجاد خطابٍ جديدٍ في توصيف العلماء واحترامهم بعيدًا عن حالة القداسة التي لم تستطع حمايتهم من السقوط وكانت في الوقت نفسه وبالًا على الدّين كلّه.
بين عمامتين:
وختامًا لا بدّ من التأكيد على أنَّ من تصدّى لأمانة العلم عليه أن يؤدّي هذه الأمانة بحقّها ومن أهم صور أدائها أن لا يدنّس العلم بالتزلف لطاغية أو يداهن باطلا أو يساند مجرمًا أو يخذل حقًّا عند تعيّن نصرته.
وإنَّ الزّعامة التي طالما تحدّث عنها العلماء طالبين من النّاس أن ينزلوا العلماء منزلتهم لا يمكن نيلها إلّا بالمواقف الواضحة، والتّضحية الصريحة، فالعلماء هم من يضعون أنفسهم في موضعها رفعًا وخفضًا بسلوكهم ومواقفهم لا بما حصّلوه من إجازات علميّة وشهادات جامعية ونجوميّة فضائية وسمعةٍ في ساعة الرّخاء.
فشتّان شتّان بين عمامةٍ تكون تاجَ بطولةٍ مضمّخًا بدم الشهادةِ وعطر الرجولة، وبين عمامةٍ تكون تاج مهانةٍ به تُلعَقُ صحونُ السّلاطين وعتبات الطغاة.
وقد صدق الشّاعر فؤاد الخطيب القول في عمامة العالم المجاهد الشهيد عزّالدين القسّام ابن جبلة الذي روّى أرض فلسطين بدمه حيث رثاه:
أولت عمامتك العمائم كلّها *** شرفاً تَقَاصَرُ دونَه التيجانُ
إنَّ الزعامةَ والطريقُ مَخوفَةٌ *** غير الزعامة والطريقُ أمانُ
(المصدر: موقع “على بصيرة”)