مقالاتمقالات المنتدى

مواقف إيمانية من تخيير النبي ﷺ لزوجاته وظهور فضل عائشة رضي الله عنها

مواقف إيمانية من تخيير النبي ﷺ لزوجاته وظهور فضل عائشة رضي الله عنها

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ۝ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 28 – 29].

وقد دلَّت الأحاديث الصَّحيحة على أن نزول هاتين الايتين كان بعد اعتزال النَّبيِّ(ﷺ) لنسائه، بعد أن أقسم ألاَّ يدخل عليهنَّ شهراً، فاعتزلهن في مَشْرُبَةٍ له، وهي القصَّة المعروفة بقصَّة إيلائه من نسائه، وكان تاريخ نزول هذه الآيات في العام التاسع للهجرة. (قضايا نساء النَّبيِّ والمؤمنات، ص 68)

وأمَّا سبب نزولها، فهو طلب زوجاته(ﷺ) التَّوسعة عليهنَّ في النَّفقة، فقد أخرج مسلمٌ عن جابرٍ رضي الله عنه قال: «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله(ﷺ) فوجد الناس جلوساً ببابه، لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأُذِن لأبي بكرٍ فدخل، ثمَّ أقبل عمر، فاستأذن، فأُذِن له، فوجد النَّبيَّ(ﷺ) جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، قال: فقال: لأقولنَّ شيئاً أُضحك النَّبيَّ(ﷺ) ، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنتَ خارجةَ سألتني النَّفقة فقمتُ إليها، فوجأت عنقَها، فضحك رسول الله(ﷺ) وقال: «هنَّ حولي كما ترى يسألنني النَّفقة». فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها، كلاهما يقول: أتسألن رسول الله(ﷺ) ما ليس عنده، فقلن: والله! لا نسأل رسول الله(ﷺ) شيئاً أبداً ليس عنده، ثمَّ اعتزلهن شهراً، أو تسعاً وعشرين، ثمَّ نزلت عليه هذه الآية» [مسلم (1478)، وأحمد (3/328)].

كانت الحياة المعيشية في بيوت رسول الله(ﷺ) تجري على وتيرةٍ واحدةٍ، بالرَّغم من إمكانية التَّوسُّع في بعض الأحيان، ونساء الرَّسول(ﷺ) من البشر، يرغبن ما يرغب فيه النَّاس، ويشتهين ما يشتهيه النَّاس (من معين السِّيرة ، ص 465) فقد كانت مساكنهنَّ متواضعةً بسيطةً غاية البساطة، فقد وصفها الدُّكتور أبو شهبة فقال: إنَّ الرَّسول(ﷺ) بنى حُجَراً حول مسجده الشَّريف؛ لتكون مساكن له، ولأهله، ولم تكن الحُجَرُ كبيوت الملوك، والأكاسرة، والقياصرة، بل كانت بيوت مَنْ ترفَّع عن الدُّنيا، وزخرفها، وابتغى الدَّار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنيةً من اللَّبِن، والطِّين، وبعض الحجارة، وسقوفها من جذوع النَّخل والجريد، قريبة الفناء، قصيرة البناء، ينالها الغلام الفارع بيده.

قال الحسن البصريُّ – وكان غلاماً مع أمِّه خيرة مولاة أمِّ سلمة -: قد كنت أنالُ أطولَ سقف في حُجَرِ النَّبيِّ(ﷺ) بيدي، وكان لكلِّ حُجْرَةٍ بابان: خارجيٌّ، وداخليٌّ من المسجد؛ ليسهلَ دخولُ النَّبيِّ(ﷺ) إليه.

وأمَّا الإضاءة: فلم يكن هناك مصباحٌ يستضاء به، يدل على ذلك ما رواه البخاريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله(ﷺ) ورجلاي في قبلته، فإذا سجد؛ غمزني، فقبضت رجليَّ، فإذا قام؛ بسطتُهما، قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح. [البخاري (382)، ومسلم (512/272)].

أمَّا الفراش – الَّذي يأوي إليه هذا النَّبيُّ عليه أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم – فهو عبارة عن رُمالِ حصيرٍ، ليس بينه وبينـه فراشٌ، قد أثر الرُّمال بجنبه، متكئ على وسادةٍ مِنْ أَدَمٍ، حشوها ليفٌ. [البخاري (6456)، ومسلم (2082)]. فقد كانت معيشته(ﷺ) تدلُّ على الشـدَّة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أعلم النَّبيَّ(ﷺ) رأى رغيفاً مرقَّقاً حتَّى لحق بالله، ولا رأى شاةً سميطاً بعينه قطُّ. [البخاري (6457)].

وعن عائشة؛ قالت: إنْ كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلَّةٍ في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله(ﷺ) نارٌ، فقال لها عروة بن الزُّبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التَّمر، والماء. [البخاري (6459)].

هذا؛ وقد فتح الله على المسلمين بعد خيبر، وفتح مكَّة، وغزوة تبوك، وقد قرأت زوجات النَّبي(ﷺ) آيات في كتاب الله تبيح التَّمتُّع بنعم الله دون إسراف، فرغبن أن ينالهنّ حظٌّ من ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].

وحضَّ على أكل الطَّيبات من الرِّزق، قال سبحانه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].

ودعا إلى التوسُّط في الإنفاق، والاعتدال فيه، فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، إلا أنَّ هناك جانباً اخر يتعلَّق به(ﷺ) ، ونمطاً من المعيشة اختاره بتوجيهٍ من ربِّه عزَّ وجلَّ، فلم يلتفت لشيءٍ من هذا، كما أدَّبه ربه – سبحانه وتعالى – بقوله: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88].

وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131].

ولذلك جاءت آيات التَّخيير، فوقفت زوجاتُه(ﷺ) من قضيَّة التَّخيير موقفاً حاسماً لا تردَّد فيه، فإنَّهنَّ اخترن الله ورسولَه، والدَّار الآخرة، فقد كنَّ يطلبن منه(ﷺ) التَّوسعة في النَّفقة، وكن يدافعن عن ذلك ما استطعن، فلـمَّا وصل الأمر إلى وضعهنَّ أمام خيارين: الحياة الدُّنيا، وزينتها، أو الله، ورسوله، والدَّار الآخرة؛ لم يتردَّدن لحظـةً واحدةً في سلوك الخيار الثَّاني بل قلن جميعهنَّ بصـوتٍ واحد: نريد الله، ورسولَه والدَّار الآخرة. (المؤمنات في سورة الأحزاب، ص 77)

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا أمر رسول الله(ﷺ) بتخيير أزواجه؛ بدأ بي، فقال: «إنِّي ذاكرٌ لكِ أمراً، فلا عليك ألاَّ تعجلي حتَّى تستأمري أبويك»، قالت: وقد علم أنَّ أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثمَّ قال: «إنَّ الله جلَّ ثناؤه قال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ۝ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28 – 29] قالت: فقلت: ففي أيِّ هذا أستأمر أبويَّ؟ فإنِّي أريد الله ورسولَه والدَّار الآخرة، قالت: ثمَّ فعل أزواجُ رسول الله(ﷺ) مثلَ ما فعلتُ. [البخاري (4786)، ومسلم (1457)].

وهكذا تتجلَّى في موقفهنَّ رضي الله عنهنَّ صورةٌ ناصعةٌ لقوَّة الإيمان، واختبارٌ حقيقيٌّ للإخلاص، والصِّدق مع الله تعالى، فإنَّ قوله تعالى في الآية الأولى من ايتي التَّخيير: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ﴾، كالوعد بحصولهن على مبتغاهنَّ في الحياة الدُّنيا وزينتها – إن اخترن ذلك – ولكنَّهنَّ رفضن هذا، واخترن الله، ورسولَه، والدَّار الآخرة. وفي قوله تعالى في الآية الثانية: إشارةٌ إلى أنَّ ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ يَنَلْنَه من الأجر سببه كونهنَّ محسناتٍ، ومن ذلك اختيارهنَّ الله، ورسوله، والدَّار الآخرة؛ إذ لا يكفي لحصولهنَّ على هذا الأجر كونهنَّ زوجاتٍ للرَّسول(ﷺ).

وتنكير الأجر، ثمَّ وَصْفُه بأنه عظيم فيه ترغيبٌ لهنَّ بالكفِّ عن التطلُّع إلى الحياة الدُّنيا وزينتها، فهذا الأجر لا يقدِّر قدره إلا الله، وهو شاملٌ لخيري الدُّنيا والآخرة. (تفسير السَّعدي (4/148)

ولقد اعتبر الخلفاء الرَّاشدون قصَّة التَّخيير تلك مَعْلَماً من معالم الإسلام، ومنهجاً نبويّاً كريماً ينبغي أن يسلكه بيت القيادة في الأمَّة.

وإنَّ النَّظرة الفاحصة في التاريخ لَـتُـبَـيِّنُ: أنَّ هذا الجانب يعدُّ معياراً دقيقاً به يُعرف القرب من الاستقامة، أو البعدُ عنها، وقد فهم قادة الأمَّة المؤمنون – حينما وُجدوا – على امتداد تاريخ الإسلام، أهمِّية هذا الجانب، فرعَوْه حقَّ رعايته، وإنَّ الأمثلة العمليَّة من تاريخ الخلافة الرَّاشدة هي من الوفرة، والكثرة بمكانٍ، بحيث لا تُتْعِبُ الباحث في التَّفتيش عنها. (البداية والنِّهاية (7/136)

إنَّ قيادة الأمَّة تكليفٌ، ومَغْرمٌ، وليست مغنماً، ولابدَّ لِلَّذين يتولَّونها أن يحسبوا أهمية التَّعالي على حطام الدُّنيا، والشَّوق إلى الله، والدَّار الآخرة. (من معين السِّيرة ، ص 475)

ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: “السيرة النبوية”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • قضايا نساء النَّبي(ﷺ) والمؤمنات، حفصة بنت عثمان الخليفي، دار المسلم الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.
  • مِنْ معين السِّيرة لصالح أحمد الشَّامي، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413 هـ 1992م.
  • تفسير السَّعدي المسمَّى تيسير الكريم الرَّحمن في تفسير كلام المنَّان لعبد الرَّحمن ناصر السَّعدي، المؤسَّسة السَّعدية بالرِّياض، 1977 م.
  • السيرة النبوية، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2004م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى