مواجهة الكفر والإلحاد من خلال نهي إبراهيم -عليه السلام- قومَه عن عبادة الأوثان
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تعدُّ سورة العنكبوت آخر السور المكيّة التي تحدثت عن إبراهيم عليه السّلام، وإليك شرح الآيات الكريمة المتعلقة بقصته – عليه السّلام – ونهي قومه عن عبادة الأوثان والشرك بالله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 17، 18]
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}:
{إِنَّمَا} أداة قصر، أي: أن كل ما تعبدون من دون الله هو وثن، والوثن لا ينفع ولا يضرّ، وهو ما وضع للتقديس من حجر، أياً كان نوعه، حجر جيري، أو جرانيت أو مرمر أو كان من معدن، ذهب أو فضة أو نحاس.. إلخ، أو من خشب، وقد كان البعض منهم يصنعه من “العجوة”، فإن جاع أكله وقد حَكَى هذا على سبيل التعجّب سيدنا عمر رضي الله عنه، وبأيِّ عقل أو منطق أنْ تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجراً فتنحته على صورة معينة، ثم تتخذه إلهاً تعبده من دون الله، وهو صَنْعة يدك، وإنْ أطاحتْ به الريح أقمتَه، وإنْ كسرته رُحْت تُصلح ما تكسَّر منه وتُرمِّمه، فأيُّ عقل يمكن أن يقبل هذا العمل؟. (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 18/11108)
{…وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}:
إنَّ كل ما تعبدونه من دون الله هي أوثان لا تنفع ولا تضرّ، وأما التعليلات والتفسيرات والتمهيدات والتحليلات، فهذه كلها كذب في كذب وإفك في إفك، والإفك هو تعمد الكذب الذي يقلب الحقائق. (تفسير النابلسي “تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة”، 9/201)
ويقول إبراهيم – عليه السّلام -: أنتم تتحدثون عن هذه الأصنام وكأنها شيء له فعل وعمل، يمنح ويمنع، يغضب ويرضى، وتحيطون هذه الأوثان بهالة من القدسية، وتوهمون الناس أنّها مقدسة وتفترون على الله تعالى الكذب، فهذا كلّه كلام لا أصل له، إنّه اختلاف وافتراء ليس له معنى، والواقع لا يؤكده إذ هذا الذي تعبدونه صنماً لا ينفع ولا يضرّ، وهذا الكلام الذي تتعللون به كلام كاذب، والدليل أن هذه الأصنام {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}. (تفسير النابلسي “تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة”، 9/201)
{…إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}
وفي موضع آخر بيّن لهم إبراهيم – عليه السّلام – أنهم يعبدون آلهة لا تضرُّ ولا تنفع، وهنا يذكر مسألة مهمة في استبقاء الحياة للإنسان بالقوت الذي نسميه الرزق، فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تملك لكم رزقاً، ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الأرض لمُتّم من الجوع. إذن: كان عليكم أن تتأملوا: من أين تأتي مقومات حياتكم، ومن صاحب الفضل فيها، فتتوجهون إليه بالعبادة والطاعة. (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 18/11109).
{…فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}:
والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان، ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة، لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس. (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2728)
فإبراهيم – عليه السّلام – بيّن لقومه بأن يلتمسوا من الله الرزق لا من عند أوثانهم، بذلك يصلون إلى الحقيقة، وقد دلهّم على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، فالرزق بيد الله تعالى، فهو مالكه ومقدّره وميسّر أسبابه، والخلق لا يملكون من ذلك شيئاً إلا بأمر الله تعالى، والله تعالى هو الذي بيده وحده توسعة الرزق وقسمته وفق مشيئته، وليس ذلك لأحد من الخلق، فطلب الرزق وابتغاؤه لا يكون إلا من عند الله تعالى؛ لأنَّه وحده القادر عليه وهو بيده سبحانه، فهو المستوجب للعبادة والشكر وإليه المرجع والمصير.
{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}:
{وَاعْبُدُوهُ}:
إنَّ عبادة الله تعالى – التي هي ثمرة معرفته وتوحيده- سبب واسع من أسباب الرزق بنص قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} ]الذاريات:56-58[، فالله جلّ جلاله لم يكلف خلقه رزق أنفسهم أو رزق غيرهم، ولكنه كلّفهم عبادته وتوحيده وهو سبحانه متكفل برزقهم.
وليس معنى العبادة فقط أداء شعائر الإسلام الظاهرة، ولكنه بالإضافة إلى ذلك تحقيق معنى العبودية الشامل لله تعالى في شتى مظاهر الحياة، إذ ليس في الكون كلّه إلا إله يُعبد وما سواه عبيد له، فيجب له كمال الذلّ والخضوع مع كمال الحبّ، ومن شأن ذلك أن يفجر في نفس العابد الطاقات والإمكانات المبدعة، فيتحرك نحو أهدافه بخطى ثابتة غير مضطربة، متلمساً أسباب الرزق مستعيناً بالله تعالى، وذلك مدعاة لتيسير الرزق بإذنه، فقد أمر الله سبحانه وتعالى العبد بأمر وضَمن له ضماناً، فإن قام بأمره بالنصح والصدق والإخلاص والاجتهاد، قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر، وقضاء الحوائج، فإنه سبحانه ضَمن الرزق لمن عبده، والنصر لمن توكل عليه واستنصر به، والكفاية لمن كان هو همّه ومراده. (الرزق في القرآن الكريم، د. سليمان الصادق البيرة، ص95)
{وَاشْكُرُوا لَهُ}:
اشكروا الله أن خلقكم وأعطاكم الأموال والبنين والزوجات، والأهل والبيت، وأعطاكم هذه الصَحة وأعطاكم الحواس، وأنعم عليكم بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد وسخر لكم ما في الكون جميعاً ومنحكم نعمة العقل، وفطركم فطرة عالية، وأعطاكم حرية الاختيار، ألا ينبغي أن تشكروه؟ (تفسير النابلسي “تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة”، 9/203)
إنَّ نعمة الرزق يجب أن تُقابل بالشكر لله تعالى واهب الرزق ومسخّره، وذلك يستلزم الإقرار له بالعبادة وحده لا شريك له. (الرزق في القرآن الكريم، سليمان الصادق البيرة، ص174)
والشكر اصطلاحاً: هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عباده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة وعلى جوارحه انقياداً وطاعة. (تهذيب مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، 2/611)
ومن تأمل في سيرة إبراهيم – عليه السّلام – يجد تفانيه في طاعة الله قولاً وعملاً، بغية إظهار شكره لنعم الله عليه، وكونه عزّ وجل قد اختصّه بالنبوّة والرسالة واصطفاه بالخلّة {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، والشكر لله من أسباب زيادة الرزق، فمن شكر فقد حرس النعمة عليه بالبقاء، وكسب به المزيد والنماء، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ]إبراهيم:7[.
والشكر بهذا باب الزيادة الواسع ومقام الشكر وشأنه عظيم عند الله عزّ وجل، ولذلك لما عرف إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجلِّ المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه، قال تعالى: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ]الأعراف:17[، ولعظم مقام الشكر، فقد أخبر الله تعالى أنه إنما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته، قال سبحانه وتعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ]البقرة:172[. (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ابن قيم الجوزية، ص 117)
وقابل القرآن الكريم بين الشكر والكفر، قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ]النمل:40[، وقال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ]الزمر:7[، ومما يشاهد في حياة الناس أن من كثُر شكره لله تعالى- مقالاً وحالاً وفعلاً- كثُر عطاء الله تعالى له، والشكر سبب المزيد، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ]إبراهيم:7[، ويسمّونه “الحافظ”؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب لأنّه يجلب النعم المفقودة.
{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}:
أي: يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله إن كان خيراً فعبد الله واتقاه وشكره، أو شراً …. بعبادتهم غير الله عزّ وجل وفي تحذير إبراهيم – عليه السّلام – لقومه في قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تحذيراً لهم ودعوة صادقة للاستعداد لتلك الرجعة إلى خالقهم للحساب والجزاء ومؤكداً لهم ما ذكره ربنا في كتابه وحتمية رجوع الناس إلى الله عزّ وجل.
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ]العنكبوت:18[:
قال إبراهيم – عليه السّلام – لقومه بعد أن بيَّن لهم بطلان ما هم عليه من الكفر وعبادة الأصنام: وأن تكذبوا فلستم بأول من كذب، ولكم عبرة بالذي حلّ بالمكذبين من قبلكم، فقد أهلكناهم ودمرناهم، كما صنعنا بقوم نوح وعاد وثمود، فانتظروا أن يحلّ بكم ما حلّ بهم، أما رسولنا صلّى الله عليه وسلّم فما عليه إلا أن يبلغكم ما آمر بتبليغه، يبلغكم إياه بلاغاً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، بلاغاً يبيّن لكم ما أنتم عليه باطل، وأن ما يدعوكم إليه الحق. (قصص الأنبياء، مصطفى العدوي، 2/120).
وتؤكد الآية الكريمة أموراً، نذكر منها:
- أ- تقرير حقيقة أن الإنسان تحت وطأة وسوسة الشيطان، يميل إلى تكذيب الحقّ والخروج عليه إلا من رحم الله تعالى، ومسيرة الإنسان عبر التاريخ تؤكد ذلك وتدعمه، ولذلك قال ربنا – تبارك وتعالى- على لسان عبده ونبيه إبراهيم – عليه السّلام – مخاطباً قومه مؤكداً هذا الواقع لهم بقوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
- ب- تأكيد حرية الإنسان في اختيار الدين الذي يدين به نفسه لخالقه؛ لأنَّه على أساس من هذا الاختيار سيكون خلوده في الآخرة، إما في الجنة أبداً، وإما في النار أبداً، وجاء هذا التقرير في الآية الكريمة: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ]العنكبوت: 18[.
_______________________________________________________
المصادر والمراجع:
- إبراهيم – عليه السلام- أبو الأنبياء والمرسلين، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، ص 598-603.
- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م.
- تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، ابن كثير، تحقيق: يوسف علي بديوي، حسن سويدان، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط1، 1434ه، 2013م.
- تفسير النابلسي “تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة”، د. محمد راتب النابلسي، مؤسسة الفرسان، عمان، الأردن، ط1، 2017م- 1438ه..
- تهذيب مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، ط1، 1997م، (2/611).
- الرزق في القرآن الكريم، د. سليمان الصادق البيرة، مكتبة الملك فهد الوطنية، المملكة العربية السعودية، ط1، ١٤٢٦ هـ، ٢٠٠٥م.
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ابن قيم الجوزية، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ومكتبة دار التراث، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط3، 1409هـ، 1989م، ص 117.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م.
- قصص الأنبياء، مصطفى العدوي، مكتبة مكة، طنطا، مصر، الطبعة الأولى، 1436ه، 2015م.