بقلم د. مسلم اليوسف
أولَت الشريعة الإسلامية الأهمية الكبرى للأمن والأمان في المجتمع المسلم، وذلك من خلال الواقعية لأحكام وقواعد الشريعة الإسلامية التي تتفق مع الفطرة، والطبيعة البشرية السليمة.
كما أولت الشريعة الإسلامية من خلال عقوباتها الواقعية ظروف وطبيعة كل من يرتكب جريمة، فعقوبة الضعيف تكون أخف من عقوبة القوي شديد البأس، المعتاد على الإجرام والمعاصي، ذلك أن مواجهة الخطورة الإجرامية باتت الشغل الشاغل للأنظمة الحاكمة، والمختصين من القضاة والدعاة، وأمثالهم من أهل وطلاب العلم والاختصاص، لما يترتب على الجريمة من خوف ورعب على النفس والممتلكات، إضافة لما تستنزفه من مقدرات المجتمع المادية والبشرية.
فالخطورة الإجرامية ما هي إلا حالة تتوافر لدى الشخص، وتظهر مدى استعداده لارتكابه للجريمة مستقبلًا، والخطورة الإجرامية عادة تظهر من خلال ارتكاب المكلف للكبائر، والصغائر[1]، كما يمكن أن تتمثل أو تظهر بالعودة إلى فعل المعاصي، من خلال المداومة على ترك الواجبات، والإصرار على فعل المحرمات.
أما ترك الواجبات فمثالها ترك الصلاة والصيام، وغيرها من العبادات، أما الإصرار على فعل المحرمات، فيتمثل في الإصرار على فعل الكبائر والصغائر، وعمومًا فالإصرار على المعصية، ومعصية أخرى، والمصر على المعصية، فاسق مؤاخذ مستحق للعقوبة في الدارين، إن لم يتب توبة نصوحة وَفْق شروطها المعتبرة عند أهل العلم.
كما تتغلظ المعصية وعقوبتها بالإصرار، فهي تتغلظ أيضًا في الأيام المفضلة، والأمكنة المقدسة، ويترتب عليها العقاب على قدر ذلك المكان والزمان[2].
وقد حرَصت الشريعة الإسلامية على عدم التوسع قي مفهوم الخطورة الإجرامية؛ كونه يعني زيادة العقوبة كمًّا ونوعًا، ومع ذلك فإن من أصبح الإجرام سلوكًا له، ولم تردعه العقوبات المقررة، فقد تصل عقوبته في هذه الحالة إلى استئصاله من المجتمع متى اتضح أنه عضو فاسد، ويشكل خطرًا على المجتمع وأفراده[3].
فالمجرم يعاقب بالعقوبة التعزيرية المقررة للجريمة التي ارتكبها، فإن عاد شدد عليه العقاب، فإن أصبح الإجرام سلوكًا له والخطورة الإجرامية لصقت به وأصبحت ظاهرة للعيان ومهددة للمجتمع، فإنه يحبس حتى يصلح أو يموت في السجن أو يقتل تعزيرًا وفق الشروط الفقهية المعتبرة بالاعتماد على السياسة الشرعية.
قال ابن سهل [4] – عليه رحمة الله -: (فإن الإغلاظ على أهل الشر، والقمع والأخذ على أيديهم، مما يصلح الله به العباد والبلاد، ويقال: من لم يمنع الناس من الباطل، لم يحملهم على الحق)[5].
إن باب العقوبات التعزيرية يتسع لكل فعل إجرامي، لم يرد فيها عقوبة شرعية، وبهذا فهو يحتل مكانًا واسعًا من التشريع الجنائي الإسلامي، إذا علمنا أن رعاية المصالح الاجتماعية تزداد يومًا بعد يوم، وأن الظواهر الإجرامية في زيادة مستمرة، وتظهر أهمية تشديد العقوبات التعزيرية لردع ومعالجة أصحاب الخطورة الإجرامية، لذلك نجد أن فقهاء الشريعة الإسلامية قد أجازوا تشديد العقوبات التعزيرية، ابتداءً من التوبيخ والتأنيب والهجر والعبوس في وجه المذنب، وهذه تعازير قد تجدي مع المذنب صاحب المخالفات والمعاصي البسيطة، بيد أن هذه التعزير لا تفيد مع كبار المجرمين وقساة القلوب ممن يشكلون خطورة شديدة على المجتمع، فيجيء دور العقوبات التعزيرية الشديدة ذات الأثر الشديد، والوقع الرادع لأصحاب الخطورة الإجرامية، ومن هذه العقوبات زيادة مقدار العقوبة، مثل: زيادة الجلد، والحبس أو التغريب، وهناك طريقة أخرى لتشديد العقوبة، تتمثل في التشديد في آلة تنفيذ العقوبة، وكيفية التنفيذ.
أما عن علاقة العقوبات الزاجرة بالخطورة الإجرامية، فتتحقق بالأثر الذي تلحقه هذه العقوبة في المجرم صاحب الخطورة الإجرامية، ومن يتأثر بأفعاله الإجرامية، ويظهر ذلك في أمرين:
الأول: عدم العود إلى الجرائم الخطيرة؛ إذ إن أساس العقوبة الزاجرة قائم على زجر الفاعل، وزجر أمثاله بعدم الإقدام على أي فعل فيه خطورة إجرامية؛ خوفًا ورهبة من العقوبة الشديدة الزاجرة لأمثاله من المجرمين الخطرين.
ثانيًا: العقوبة، فكما تقرر أن الجناية بعد توفر الزاجر لها أغلظ، فتؤدي الخطورة الإجرامية في الزواجر إلى تغليظ العقوبة وتشديدها على كل من تثبت خطورته الإجرامية.
وقد جوز الفقهاء لمواجهة الخطورة الإجرامية للمجرم، اجتماع التعزير مع الحد، فعند السادة الحنفية يجوز أن يجمع بين التغريب والجلد في حد الزاني غير المحصن، إذا رأى في ذلك مصلحة[6].
وسوف نبين فيما يلي أمثلة تبين بعض العقوبات التعزيرية التي تواجه الخطورة الإجرامية في الشريعة الإسلامية، إذا كان في ذلك مصلحة وفائدة تعود على الفرد والمجتمع، لردع من استفحلت خطورته الإجرامية، ولم تجد فيهم العقوبات التعزيرية:
أولا – مواجهة الخطورة الإجرامية بحبس الجاني أو تغريبه:
يرى بعض فقهاء الشريعة الإسلامية أن من حق القاضي الشرعي مواجهة الخطورة الإجرامية، وذلك من خلال تشديد العقوبة التعزيرية بتعزير الجاني الخطر من خلال حبسه، ونفيه عن بلده ومحيطه لإبعاده عن بيئته المنحرفة وأصحاب السوء، فعسى أن تضعف نفسه الخطيرة، فيعود إلى صوابه، أو يقل خطره على مجتمعه ومحيطه.
فمن يتهم بقتل الناس والاعتداء عليهم، وعلى أموالهم، فإنه يعزر بحبسه حتى تظهر توبته ويُبَان صلاحه[7].
ومن لم ينصلح حاله واستقام سلوكه، بل ظهرت خطورته الإجرامية واستفحلت، فيحق للقاضي الشرعي عندئذ لمواجهة خطورته الإجرامية بالحكم عليه بالسجن المؤبد لمواجهة خطورته الإجرامية وشروره الشيطانية[8].
قال الإمام مالك – رحمه الله – في أصحاب الخطورة الإجرامية ما نصه: (إن الضرب ما ينكلهم، ولكن أرى أن يحبسهم السلطان في السجون ويثقلهم بالحديد، ولا يخرجهم منه أبدًا، فذلك خير لهم ولأهليهم وللمسلمين، حتى تظهر توبة أحدهم وتثبت عند السلطان، فإذا صلح وظهرت توبته أطلقه)[9].
وهذا هو المتفق مع روح الشريعة الإسلامية التي تواجه الجريمة والمجرمين، فالأصلح لأصحاب السلطان والمجرمين والناس، أن يواجهوا الخطورة والإجرامية بكل شدة، فإن تابوا وصلحت حالهم، وزالت عنهم نزعة الشر والعدوان، أُعيد إليهم اعتبارهم وأطلق سراحهم.
كذلك من حق القاضي أن يحكم بالتغريب على صاحب الخطورة الإجرامية الذي انتشر شره وعظم خطره، متى رأى القاضي في ذلك مصلحة، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة ما دام عندهما الخطورة الإجرامية.
ويأخذ القضاة في المملكة بالرأي[10] القائل بأن التغريب عقوبة تعزيرية يجوز الحكم بها لعقاب الجاني صاحب الخطورة الإجرامية الذي أصبح الفساد، والإفساد طبعه؛ حيث نرى كثيرًا من الأحكام في جرائم الزنا لا تخلوا من عقوبة التغريب تعزيرًا.
ثانيًا: مواجهة الخطورة الإجرامية بجلد الجاني:
إن عقوبة الجلد من العقوبات الأساسية في الشريعة الإسلامية، لأثرها الإيجابي في نفس الجاني العادي، أما من ظهرت خطورته الإجرامية، فيحق للقاضي الشرعي[11] زيادة كمية الجلد أو بزيادة الألم، وذلك في طريقة تنفيذ العقوبة؛ مثل: رفع يد من ينفذ الجلد، وتفريق الضربات على أجزاء الجسم، دون الوجه، والتنفيذ بآلة جلد ذات أثر موجع أكثر على هذا النوع من المجرمين الخطرين[12].
ثالثًا: مواجهة الخطورة الإجرامية بقتل الجاني تعزيرًا:
متى عظم وانتشر خطر الجاني، ولم تعد تردعه العقوبات التعزيرية مهما بلغت من حبس أو جلد، لذلك فإن استئصاله من المجتمع بقتله تعزيرًا، هو الحل الناجح في مواجهة خطورته الإجرامية للحفاظ على كِيان المجتمع ومصالحه المشروعة، ولعل من أشهر الحالات التي تطبق في مواجهة الخطورة الإجرامية، الإفساد في الأرض وممارسة الفواحش، ومن عاود فعل اللواط، والسارق العائد في المرة الرابعة، والخامسة، ومن تكرر منه الحرابة، فإن للإمام قتله تعزيرًا[13].
وقد رأى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله – أن من تكرر منه فعل الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على ذلك الفساد، ولا يندفع إلا بالقتل فيقتل[14].
أما جمهور الفقهاء فيرون أن من تكررت منه الجرائم، وظهرت خطورته الإجرامية على الناس، ولم ينزجر بالعقوبات المقررة يستدام حبسه حتى يتوب أو يموت [15].
والحقيقة التي لا بد من ذكرها أن العقوبة العادية في مواجهة أصحاب الخطورة الإجرامية أثبتت عدم نجاحها في تحقيق أهدافها، فقد اتضح أن أغلب أصحاب الخطورة الإجرامية لا تمر عليهم مدة طويلة على الانتهاء من العقوبة السابقة، حتى يعودوا إلى سابق عهدهم في الإجرام، وزرع الشر والفساد والرعب والهلع في المجتمع، لذلك أرى في الاعتماد على السياسة الشرعية[16] تقنين نصوص خاصة في مواجهة أمثال هؤلاء أصحاب الخطورة الإجرامية، حتى يتخلص المجتمع من شرورهم، وآثامهم بما يوافق المصلحة العامة للأفراد، والجماعة في المجتمع الإسلامي، والله أعلم.
——————————————-
[1] – تقسم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وهو قول جهور العلماء؛ انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر؛ ابن حجر الهيتمي، أحمد بن محمد، دار الفكر، بيروت لبنان، ج1/ 7.
[2] – انظر المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم، جمع وترتيب محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، سنة 1418 هـ، ج3/ 198، والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، لابن عبدالبر، يوسف عبدالله، تحقيق سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان عام 2000م، ج 1/ 235، والحاوي الكبير للماوردي علي بن محمد بن حبيب، دار الفكر، بيروت لبنان، ج 2/ 525.
[3] – الإقناع، للمقدسي شرف الدين موسى الحجاوي، المكتبة التجارية، القاهرة، مصر سنة 1351 هـ، ج4 /271 وما بعدها.
[4] – ابن سهل: هو القاضي أبو الأصبع بن سهل الأسدي القرطبي، فقيه موثق، تفقه بابن عتاب، وأخذ عن ابن القطان، وروى عن مكي بن أبي طالب، وأجازه ابن عبدالبر، له كتاب الإعلام بنوازل الأحكام توفي عام 486 هـ، الديباج المذهب لابن فرحون، ج2 / 70، وشجرة النور الزكية لابن مخلوف، ص 122.
[5] – تبصرة الحكام لابن فرحون، ج2/ 152.
[6] – حاشية ابن عابدين، ج4 /104.
[7] – انظر الفتاوى الهندية، الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، وبهامشه فتاوى الإمام فخر الدين الأوزجندي، الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ج2 /199، حاشية ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ج3 /147.
[8] – انظر الفتاوى الهندية، الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، ج 2/ 169، الأحكام السلطانية للماوردي، لأبي الحسن علي بن محمد البصري، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان 1410 هـ، ص 386.
[9] – تبصرة الحكام لابن فرحون، ج2 /165.
[10] – جعل الإمام أبو حنيفة النعمان عقوبة التغريب، عقوبة تعزيرية، فيحكم بها الإمام متى رأى في ذلك مصلحة، مثل التشديد في العقوبة على الجاني الذي انتشر شره وعظم خطره، (حاشية بن عابدين، ج3/ 147).
[11] – جوز الإمام مالك – رضي الله عنه – أن يزاد التعزير على الحد إذا رأى الإمام ضرورة لذلك، وهو هنا ما يناسب حالة مواجهة الخطورة الإجرامية؛ انظر المغني لابن قدامة، ج12 /525.
[12] – يجوز أن يزاد التعزير – عند الإمام مالك – على الحد إذا رأى الإمام ذلك على من تكرر ارتكابه الجريمة؛ المغني لابن قدامة، ج12 / 525.
[13] – انظر حاشية ابن عابدين، ج3 /206 – 207، وانظر السياسة الشرعية في الإصلاح الراعي والرعية، ابن تيمية: تقي الدين أبو العباس أحمد، مكتبة المؤيد الرياض المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1413 هـ، ص 123.
[14] – انظر الاختيارات الفقهية للبعلي علي بن محمد، دار المعرفة، بيروت لبنان طبع سنة 1425 هـ، ص 601.
[15] – تبصرة الحكام لابن فرحون إبراهيم بن علي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ج2/ 150، الذخيرة للقرافي شهاب الدين أحمد بن إدريس، تحقيق محمد حجي، دار الغرب، بيروت لبنان طبع عام 1994 م، ج10 /41، الأحكام السلطانية للماوردي علي بن محمد بن حبيب، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ص 274.
[16] – السياسة الشرعية: لها تعريف خاص وتعريف عام، ومن تعريفاتها الخاصة ما ورد في رد المحتار لابن عادين من أنها: (تغليظ جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وهي: ما يراه الإمام، أو يصدره من الأحكام، والقرارات؛ زجرًا عن فساد واقع، أو وقاية من فساد متوقع، أو علاجًا لوضع خاص، وهي بالمعنى العام تدبير أمور الناس، وشؤون دنياهم بشرائع الدين)؛ انظر رد المحتار لابن عابدين، ج4 /15، والسياسة الشرعية للدكتور يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1419 هـ، ص 32.
(الألوكة)