مقالاتمقالات مختارة

مهمة المسلم بين {قم فأنذر} و{قم الليل}

بقلم عزة مختار

بين قم للسعي، وقم للعبادة:

شقّ الأمر على أصحاب النهي، واختلطت الرؤى في فتنٍ صار الحليم منها حيراناً؛ إذ كيف بأمة تحمل بين يديها دستور نهضتها والكلمة الأولى في كتابها المقدس: “اقرأ”، ثم هي تصير من جهلها أضحوكة الأمم ، وتتعجب من تخلّفها الشعوب، كيف بأمة قد أغناها الله وآتاها من كل فضل ثم هي تُعرض عنه، وتتسول رغيفها؛ لتصير أكبر سوق استهلاكية في العالم، وآيات ربها تأمرها بالسعي والعمل والفعل والإخلاص، إن داء أمتنا الذي أعجزنا اليوم حلُّه بين كلمتين تصدرتا سورتين مكيتين -إحدهما على أقوال سبقت الأخرى- “قم فأنذر” و “قم الليل” :

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}.[سورة المدّثر].

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}.[سورة الْمُزَّمِّلُ].

وبيّن الأمرُ القيام بالنذير، والتبليغ، وحمل أمانة الدعوة، وحمل مشروع الهداية للبشرية، وتعريفهم بالله وبشريعته الكاملة المستمدة من السماء، والتي تحقق التوازن والوسطية اللازمة لاستمرار العنصر البشري على الأرض، متمثلاً ذلك في: “قم فأنذر، وربك فكبر” في حركة لا تتوقف بين ذلك وبين الأمر بقيام الليل والمواظبة عليه وذكر الله عز وجل الذي يشير لملكه للمشرق والمغرب في إشارة لوجوب نشر تلك العبادة التي هي معين على المهمة الأولى والقيام الأول، نشرها في الشرق والغرب؛ لتصير كلمة الله هي المهيمنة.

فالأمر الأول: العمل، والأمر الثاني: هو الطريق الميسر للقيام بالعمل.

والأمر الأول: السعي، والأمر الثاني: الاستعانة بالصلاة ركوعها وسجودها وذكرها على إتمام المهمة الثقيلة، وهي مهمة الاستخلاف والتبليغ.

– العبادة ضمانة نجاح السعي:

والسعي في الأرض بكلمة الله عز وجل بين الناس، وتعريف الخلق بربهم، هي مهمة الأنبياء والأصفياء من أتباعهم ، وقد أمر الله عز وجل بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري، عن جابر بن عبد اللّه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (جاورت بحراء فلما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثِّروني وصبوا عليَّ ماء بارداً، قال: فدثروني وصبُّوا عليَّ ماء بارداً، قال: فنزلت: {يا أيها المدثر. قُمْ فأنذر. وربك فكبِّر}، وقوله تعالى: {قم فأنذر} أي شمّر عن ساق العزم وأنذر الناس، {وربك فكبر} أي: عظّم، {وثيابك فطهِّر} سئل ابن عباس عن هذه الآية: {وثيابك فطهر} فقال: لا تلبسها على معصية).

فتلك كلها أوامر عملية بالسعي والصبر على أذى الناس وإعراضهم، لكن كل عمل يلزمه معطيات نجاح، أو معينات عليه، ومهمة المسلم وصفها الله عز وجل وهو الأعلم بها بأنها في سورة المزمل “قولاً ثقيلاً”، والقول الثقيل هو تلك المهمة التي كلفه الله عز وجل بها في سورة المدثر، تلك المهمة الصعبة التي تحتاج لطاقة متجددة وعمل متواصل وروح وثّابة وصبر طويل، وكل ذلك لا يتأتى إلا بالمنبع الذي وصفه الله عز وجل لنبيه حين قال: {يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}.

وفي ظلال القرآن يقول سيد قطب رحمه الله: “يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة تدبّر كيدها للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعوة التي جاءهم بها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم له، والتف بثيابه وتزمل ونام مهموماً، فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً.. الخ} وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل..} إلى آخر السورة. تأخر عاماً كاملاً. حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه، حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهراً “.

وباستقراء السورتين المتكاملتين نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم وبمجرد نزول “قم” الأولى، قد امتثل لأمر ربه بالقيام على أمر الدعوة والأمة بغير فتور أو كلل أو شكوى، حتى لقي الله عز وجل، وكذلك فعل كل من تبعه من الصحابة والصالحين؛ امتثالاً لأمر الله بتحديد مهمة المسلم وحركته في الأرض، مستعينين في ذلك بــ “قم” الثانية، وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال رحمه الله: “إنها دعوة السماء، وصوت الكبير المتعال “قم” ، قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب والكدّ والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.

نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم وبمجرد نزول “قم” الأولى، قد امتثل لأمر ربه بالقيام على أمر الدعوة والأمة بغير فتور أو كلل أو شكوى، حتى لقي الله عز وجل

وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشدّ والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير، فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير، فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!

ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: (مضى عهد النوم يا خديجة!)، أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاقّ، فهل تفعلها الأمة اليوم وتنتفض وتمتثل وتنفض عنها النومة التي طال أمدها، وتنزع عنها لباس الكسل والضعف؛ لتحيي موات العالم قبل فوات الأوان!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى