من يدبر هجمات الوثنيين على مسلمي مالي؟
بقلم أمير سعيد
لعل الإجابة معقدة، لكن من المهم أن تكون الصورة واضحة على نحو يبتعد بها عن التغييب المقصود الذي يلف كل قضايانا الإسلامية التي لا تظهر تفاصيلها أمام الرأي العام الإسلامي، والتي يسهل طمسها؛ فتطمس، بخلاف تلك القضايا الظاهرة التي لا يجد الإعلام العالمي بدا من إظهارها، كمثل الهجوم الإرهابي على مسجد النور بنيوزيلندا وما شابهه، والذي دخلت معه بعض وسائل الإعلام الغربية في موجة نفاق أعقبت محاولتها التقليل من الجريمة عند أول وهلة.
يمر خبر عابر هذا الأسبوع متحدثاً عن مقتل ما يناهز المائة والثلاثين بينهم نساء حوامل وأطفالا وشيوخا من قبيلة الفولاني في مالي على أيدي ميليشيات الدونزو والدوغون، من دون أن يتحدث الخبر عن هوية القتلة، والضحايا، وأسباب تفجير الأوضاع في مالي على هذا النحو، والسبب الرئيس في ذلك.
اللافت للنظر أنه قبل وصول القوات الفرنسية إلى مالي في العام 2013م لم تكن العلاقات بهذا السوء بين مكونات سكان مالي، ولم تكن الغالبية الفولانية المسلمة على عداء سافر مع القبائل الوثنية كالدوغون عبدة النجوم وأرباب الأساطير، لكن الصراع بينهم قد تفجر في أعقاب الفوضى والتدخل الأجنبي السافر في الشؤون المالية.
وقبائل الفولاني المسلمة العربية المعروفة بنشرها الإسلام في ربوع الغرب الإفريقي على مدى قرون، وانتشارها الكبير في نحو 25 دولة إفريقية، والتي يبلغ تعدادها عشرات الملايين، معظمهم يقطنون الغرب الإفريقي، ينظر لها ككتلة إسلامية لا يستهان بها، ولكثرة ترحالها؛ فإن أثرها يبدو أكبر من حجمها في إفريقيا، ولهذا كانت دوماً في موضع الاستهداف في أكثر البلدان الرخوة، التي عانت الفوضى والانقلابات.
فرنسا التي حضرت لرواندة قبل ربع قرن فحرضت الجبهة الوطنية الرواندية والجيش الرواندي المكون في معظمه من قبيلة الهوتو ذات الغالبية المسيحية على قبيلة التوتسي، وفقاً لشهادات دولية واعترافات داخلية فرنسية واتهامات رسمية رواندية بدءًا من الرئيس الروندي الحالي نفسه، ودقت إسفين بين مسلمي إفريقيا الوسطى و”مسيحييها”، والتي لم تفتأ تؤلب ضد المسلمين في كل بلد تحتله أو تحكمه من وراء ستار، تزرع الفتنة وتحصد المجازر، فعلت الشيء نفسه في مالي؛ فهي لم تأت للبلاد للتخلص من الإرهاب كما قالت، بل لإشعال فوضى في هذا البلد المسلم العريق، ولتأجيج الصراعات بين المسلمين وغيرهم وإحداث شرخ بين مكونات المجتمع المالي المسالم.
يلحظ رئيس جمعية “تابيتال بولاكو”، عبدالعزيز ديالو، وهي بمثابة رابطة لأبناء قومية “الفولاني” في مالي في حديث سابق لوكالة فرانس برس حينما قتل أفراد قومية الفولاني على أيدي صيادين من قومية دوغون، منتصف مارس الحالي، إن الصيادين “يملكون أسلحة لا تتوافر إلا في مخازن الجيوش النظامية”، فأفراد قبيلة الفولاني – بحسب ديالو – : تتم مطاردتهم من قبل قوميتي الدونزو “الصيادين التقليديين” وقومية الدوغون الذين يحملون أسلحة حربية، ما قد يؤدي إلى اندلاع “حرب طائفية” على حد قوله.
وإذا كان المتحكم في الجيش المالي الآن هو ذاك المحتل الذي فرض نفسه على منطقة الساحل الإفريقي كلها؛ فإن ضلوعه في تأجيج الصراعات الأهلية لم يعد محل شك؛ فتأريخ هذه الميليشيات والخوف والمجازر قد بدأ مع وضع أول عسكري فرنسي قدمه في مالي، يقول الخبير بالجماعات المسلحة في الساحل محمد محمود ولد أبو المعالى: “هذه نتائج ست سنوات من الحرب الفرنسية في مالي، التي انطلقت تحت ذريعة محاربة الإرهاب وبسط الأمن والاستقرار في المنطقة، حيث بدأت المليشيات العرقية تتكاثر، ويرتفع رقم ضحايا العنف والمذابح اليومية، ولا يلوح في الأفق إلا الخوف من توسع رقعة الفوضى وانفلات زمام العنف الأعمى في المنطقة”. أبو المعالي قال: “إن الفشل العسكري والسياسي الفرنسي بالمنطقة أثمر وضعية بالغة التعقيد، مما مهد لظهور تحالفات عسكرية جديدة لحماية بعض الأطراف المستهدفة بالمنطقة”. ما يقوله صحيح، غير أن توصيف ما تقترفه القوات الفرنسية في إفريقيا على أنه “فشل” يفتقر إلى الدقة؛ فإذا كانت فرنسا فشلت في مالي، والولايات المتحدة فشلت في العراق، وروسيا قد فشلت في سوريا، والقوات الهولندية فشلت في حماية اللاجئين المسلمين لها في سريبرينتسا البوسنية من المجازر الصربية.. إلى آخره، والأمم المتحدة في مناطق كثيرة؛ فإننا لابد أن نتهم هذا التوصيف أولاً، إذ لا نجد وصفاً آخر يمكن أن ينعت به هذا السلوك الأممي سوى “النجاح التام” في تفجير الصراعات والسماح للميليشيات الموالية بارتكاب المجازر تلو المجازر بحق المسلمين لتحقيق أهداف دينية بالأساس تشمل أهدافاً فرعية، وسياسية واقتصادية.
إن معظم مناطق إفريقيا الآمنة لم يبدأ تفجير صراعاتها الدينية إلا حالما وطئت أراضيها أقدام الاحتلالات الفرنسية والبريطانية والإيطالية والبلجيكية… وكان الثمن دوماً دماء عزيزة غزيرة لشعوب مسلمة تدفع ثمن رغبة الدول المجرمة في تغيير التركيبات السكانية، ووضع المسلمين في أدنى سلم التأثير في سلطات تلك البلاد.
ما جرى ويجري في مالي ليس بدعاً ولا فريداً عما حصل في كل بلد دنسته فرنسا وغير فرنسا، هذا لب الحقيقة، وهذا توصيفها الدقيق. تذكر رويتر في تقرير لها أن “نسبة كبيرة من قبائل الفولاني في معظم دول غرب إفريقيا ما زالت تلزم أطفالها بالذهاب إلى مدارس تعليم اللغة العربية والقرآن قبل أي شيء آخر، ويرفض بعض أفرادها التعامل مع المدارس النظامية باعتبارها تشكل رافدا للاستعمار” ثم تعقب: “حسب تصورهم”! لا، إنه ليس تصوراً ولا توهماً إنه الحقيقة الدامغة في كل بلدان دنستموها بأقدام مجرمة.
(المصدر: موقع المنهل)