بقلم د. أسامة الصالح
تتسارع الأحداث على أرض الشام، مؤتمراتٌ واجتماعاتٌ متواصلة، تبتدئ بجنيف ولا تنتهي بأستانة. وجميع هذه المؤتمرات والاجتماعات كانت وبالًا على السوريين الذين ألفوا القتل والتشريد والدمار، ولا زالوا يسعون بكلّ جهد للوصول إلى يوم يتوقف فيه نزيف الدماء، وينعم الناس فيه بالحريّة والكرامة.
ينظر المتابعون لحالنا اليوم باستغراب، فرغم كلّ التضحيات التي قدمها شعبنا، لم يرتفع من أسهمنا إلا أعداد الشهداء، وأرقام المفجوعين.. يستذكر بعضنا بذاكرةٍ ماتزال حاضرةً أوضاع البلاد، وأحوال العباد بُعيدَ انطلاق ثورات الربيع العربي، ويستحضر في ذاكرته آمالاً عريضةً، آمالًا بالحريةٍ والخلاصٍ من قيد العبودية والحكمِ الأسدي، إلا أنّ هذا كله يتوقف هاهنا ويرتطم بأمواجِ لا حدود لها، من قتل وتشريد ودمار، ليزول كلّ ما كان جميلاً في حياتنا، ويعشعش في الذاكرة فقط ما هو قبيحٌ مما أنتجته الأسدية الممقوتة على سنين حكمها المتعاقبة.
يأمل، اليوم، هذا الإنسان السوري المتعبِ القلب والممزّقِ الأحلام، باستراحة محاربٍ يستجمع بها قواه، ويحاول استدراك متطلبات المرحلة، وما آلت إليه الأمور، فقلما تجد على مدار التاريخ حرباً ضروساً تجاوزت السبع الشداد ولمّا يجد أهلها فترة أمنٍ وسلامٍ يداووا بها جراحهم ويستجمعوا بها شتاتهم، ولكن بدل أن يحصل على ما تمناه تجده اليوم مطالبًا بالرحيل. لعلّ كل ما ألمّ بالسوريين من قبل لا يعدل ما يقاسونه الآن، فاليوم تبدأ المعاناة.. واليوم تبدأ الهجرة.. هجرةٌ بعد سنين عذاب حقّ لأصحابها أن ينعموا بسلامٍ ما، ويكأنّ آلامهم تبدأ الآن أو أن جرحهم النازف يثور اليوم من جديد، فترى قوافلَ المهجرين تترى، وتلمح في أعينهم دموعَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد أن أخرجه أهله من مكة المكرمة، وهو يقول فيما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عدي بن حمراء رضي الله عنه: “والله إنّك لخير أرض الله، وأحبّ أرضٍ إليَّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك”.. هجرةٌ آلمَت أكرم خلق الله وأحبّهم آليه، فكيف بمن سواه!
الأمة كلها ستبقى مهجّرة مشرّدة تعيش في تيهٍ سحيق إلى أن يتحقق الفتح بإذن الله على أيدينا، وعندها فقط نقول: لا هجرة بعد الفتح |
فما أقسى على قلب المرء أن يترك أرضه ودياره، سواء أكان ذلك قسرًا أو اختيارًا؟! فلربّما كانت الهجرة بحدّ ذاتها عقاباً من الله، أو محنة منه تنتهي بمنحةٍ ربانية، ولنا في القرآن أمثلة جليّة واضحة، فبنو اسرائيل عندما عصوا رسول ربهم وأبوا دخول بيت المقدس عوقبوا بِتيهٍ في الأرض استمر أربعين سنة، لتكون هجرتهم نوعاً من العذاب الأدنى. بينما كانت هجرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وهجرة صحبه الكرام معه، على ما فيها من قسوةٍ وعذاب ٍوقهرٍ، كانت نواة الدولةِ الإسلامية التي حرّرت العباد من عبودية العباد، وجعلتهم عباد الواحد القهار، وكانت ثلّة المهاجرين هي العُصبة الصلبة التي صنعت من وحي المعاناة على عين الله ورعايته لتكون قائدة البشرية لأمنٍ وسلامٍ لا هجرة بعده ولا نصب. فيرسلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم لبلد ما فيعود أهله مسلمين موحدين، ثم بعد هجرتهم بسنينَ قلائل، ليست بعمر البشرية من شيء، تدين لهم الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وتتحقق المنحة، ويتسلم المهاجرون قيادةَ الأمة لعقودٍ طوال.
وعَودٌ لشامِ الرسول الحبيبة، فنحن إذ نقرّ بتقصيرنا وأخطائنا العديدة، ونخاطبُ ربنا ونقول: “رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ“، إلا أننا نؤمن أنّ أمر المؤمن كله لخير، فإن كانت هذه الهجرة قد كتبت علينا الآن فهي لشيءٍ ما أراده الله “فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا”، فقوافل المهجرين اليوم تتوجه الواحدة بعد الأخرى من أراضٍ ثائرة عديدة لتتجمع في أرضٍ ثائرة واحدة، وكأنّ الله يجمع صفوف الموحدين معاً ويعدّهم لحدث جللٍ عظيم، بعد أن صقلت سنواتُ الحصار والجوع والحرب نفوسهم وأعدتهم لمرحلةٍ جديدةٍ تنقلهم من قهر الهجرة وعذابات الفراق إلى نعيم الفتح العظيم، حدث سيسعدُ به المظلومين المعذبين وتنعم به البشريةُ بعدل الإسلام ورحمته، ويكون وبالاً على كل من ظلم هذه الأمة وتجرأ عليها.
ونحن إذ ينبغي علينا العمل ليوم كهذا بكل ما أوتينا من قوةٍ وعزيمة، مترفّعين عن آلامنا وأوجاعنا، فيجب أن ندرك يقيناً أنه الطريق الوحيد للاستخلاف في الأرض كما استخلف الرعيل الأول من المهاجرين، وما عداه هو استبدال من الله لنا، كما استبدل من خذلوا نبي الله موسى عليه السلام بأجيال بعدهم نشأت من وحي المعاناة ودخلت الأرضَ المقدسة التي كتبها الله لهم. والأمة كلها ستبقى مهجّرة مشرّدة تعيش في تيهٍ سحيق إلى أن يتحقق الفتح بإذن الله على أيدينا، وعندها فقط نقول: لا هجرة بعد الفتح.
(المصدر: مدونات الجزيرة)