من هو “عبد الله بن المبارك” لهذا الزمان؟
بقلم عطاء المنعم
في سير الصالحين من قبلنا، هدًى ونبراسًا يهتدي به السائر من بعدهم، ويقتفي أثرهم، وفي سلفنا الصالح نماذج مشرقة تشعّ نورًا وضياء من الخير والإيمان، والبذل والعطاء.
لا يخفى على مطّلع ما تعانيه الأمة اليوم من ضيق وتضييق عليها في دينها ودنياها، في مشارق الأرض ومغاربها:
أنّى اتّـجهت إلى الإسلامِ في بلد *** تجده كالطير مقصوصًا جناحاهُ
بين الماضي المعطاء، والحاضر الذي نستلهم فيه ماضينا، سندلف إلى جانب من جوانب سيرة إمامٍ كريم، قام بدورٍ كبير في سدّ حاجة من حوائج الأمة، في ذلك الزمان.
إنّ من مظاهر الضيق والتضييق على الأمة؛ تشريد أمة بأكملها إلى العراء وإلى المخيّمات بفعل آلة القتل والحرب الهمجيّة التي لا تفرّق بين شيخٍ، وعجوزٍ، وطفلٍ وليد، كما يحدث في الشام، ولا شكّ أن لهذا التشريد والنزوح آثاره على المدى القريب بفقد سبل العيش الكريم، وعلى المدى البعيد بذبول دعائم النهوض بالأمم: العلم، والتعلم، والتعليم؛ إن لم تنهض الأمة بواجبها تجاههم، فالتعليم يبني سواعد الأمة ويشدّ عضدها، وواقع الأمّة يحتاج همّة عالية للقيام بدور عظيم في سدّ حاجتها وخلّتها.
يقطن في مخيمات الشمال السوري المحرر (المناطق الخارجة عن سيطرة النظام) أكثر من مليون نسمة، يقترب عدد الأطفال منهم إلى حوالي نصف مليون طفل، ولا يغيب عن الذهن الآثار المترتبة على بقاء هذا العدد كبير من الأطفال في ظلّ تلك الظروف بلا تعليم كافٍ، ولا مأوى كريم، ولا تأهيل ورعاية.
رأينا الشتاء هذا العام، كيف تتطاير الخيم وتتمزّق، وتتساقط الثلوج والأمطار، وتمتلئ الطرقات بالوحل، وكيف ينقطع الأطفال الصغار عن الذهاب والمجيء إلى خيمة في أطراف ذاك المخيم للدراسة -إن وُجدت-، يُعانون وحدهم -وأهاليهم- لأواء الحرب، وشظف العيش، وغياب المعين والمعيل، ممّا يلقي بظلاله على حاضر الأمة ومستقبلها القريب والبعيد، ويستوجب العمل على إعانتهم وسدّ حاجاتهم، ليكونوا لبنة صالحة في بناء حاضر الأمة ومستقبلها.
ومن هذه النقطة في حاضر الأمة؛ نسترجع الذاكرة إلى الوراء؛ لنستلهم مدادًا من بذل وعطاء، ونستنشق عبيرًا من مودة وإخاء، في سيرة عالم من العلماء الأفذاذ، سخّر ماله وتجارته ليُحيي ’العلم’ في الأمة، بكفايته ’العلماء’ حاجتهم من طلب الرزق والسعي فيه؛ حتى ’يتفرّغوا’ للعلم ونشره، وليكون -رحمه الله- سببًا في بقاء نتاجهم العلمي وإرثهم، بما ساهم فيه من إعانتهم، وسدّ حاجتهم.
الإمام المُبارك
هو العالم، الزاهد، العابد، المجاهد، الفقيه، من تابعي خير القرون؛ عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي. وُلد في ’مَرو’ سنة 118هـ، وتُوفّي في ’هيت’ سنة 181هـ، تعلّم العلم، ورحل في طلبه حتى تمكّن وصار إمامًا عَلمًا، جمع أصناف العبوديات: علمٌ وعمل، وحجٌ وغزو، وورعٌ وجهاد بالنفس والمال.
قال أبو زرعة: “عبد الله بن المبارك اجتمع فيه فقه، وسخاء، وشجاعة، وغزو، وأشياء.” وقال ابن أبي رزمة: “لم تكن خصلة من خصال البرّ إلا جُمعت في عبد الله بن المبارك، حياء، وتكرّم، وحُسن خُلق، وحُسن صُحبة، وحُسن مُجالسة، والزهد، والورع وكلّ شيء.”
كان غنيًا فتح الله عليه في الكسب والتجارة، يقول الذهبي: “كان عبد الله غنيًا شاكرًا، رأس ماله نحو الأربع مئة ألف”، ويقول: “وكان ينفق على الفقراء في كلّ سنة مئة ألف درهم”.
لولا خمسة ما اتّجرت!
ليس هنا العَجَب؛ بل العجب أنه ما كان يسعى في تحصيل هذه التجارة والمكاسب إلا لغايةٍ نبيلة، ومقصدٍ كريم، يُنبئ عن إحساسٍ رفيع، وخُلق قويم، يقول عبد الله بن المبارك: “لولا خمسة ما اتّجرت”!
فقيل له: “من هؤلاء الخمسة يا أبا عبدالرّحمن؟” فقال: “سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السمّاك، وإسماعيل بن عُليّة”
إنّ هؤلاء الخمسة: علماء أجلاء، وسادة فضلاء، مشتغلون بالعلم وتعليمه، عمّ نفعهم الأمة، وساد فضلهم، وكان لهم الأثر الكبير في مسيرة بناء الأمة العلمي والعملي.
يقول ابن كثير -رحمه الله-: “وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتّجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله.”
فما كان من المبارك عبد الله بن المبارك إلاّ أن سخّر تجارته ليكفي العلماء، ويحسن إليهم، وليصون أعراضهم، ويكرمهم عن تكفّف الولاة والأمراء، والوقوف بأبوابهم، وانتظار هباتهم وأعطياتهم، فمن في زماننا هذا يقتفي أثر ابن المبارك، ويسخّر أمواله في نفع المسلمين وقضاء حوائجهم؟ من هذا الذي يقوم مقام المبارك فيكفيهم، ويكفي أبناءهم عناء طلب الرزق، فإنّ من أسباب ضعف الإقبال على التعليم في تلك المناطق التي عمّها التشريد والفقر، هو انشغال الأطفال بالعمل؛ لعلّهم يساعدوا أهاليهم في تأمين سبل العيش الكريم.
سُدّ بها فتنة القوم
كان ابن المبارك لا يرضى لإخوانه العلماء أخذ شيء من عطاءات الأمراء، فلمّا ولي إسماعيل بن عُليّة القضاء، وهو أحد هؤلاء العلماء الفضلاء، أعرض عنه ابن المبارك لمّا قدم عليه، فأرسل يستفسر منه عن سبب إعراضه وصدّه وقد كان يصله من قبل؟ فكتب إليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات:
يا جاعلَ العلم له بازيًا ** يصطاد أموال المساكينِ
احتلتْ للدنيا ولذّاتها ** بحيلةٍ تُذهب بالدينِ
إلى آخر الأبيات، فلمّا وقف عليها ابن عُليّة ترك الولاية من ساعته، فرجع ابن المبارك لصلته وعطائه له.
فهذا هو ابن المبارك لا يرضى لإخوانه العلماء أخذ شيء من أموال الأمراء، وكان هذا له منهجًا وطريقة، حتّى أنه أرسل إلى ’أبي بكر بن عيّاش’ -المقرئ والمحدّث والفقيه- بأربعة آلاف درهم، وقال: “سُدّ بهذه فتنة القوم عنك”!
فمن ذا يقول اليوم لطائفة من المسلمين مستضعفة ومستباحة في الشمال السوري المحرّر بين مطرقة الإجرام الروسي وحلفاؤه، وسندان المنّ الغربي بالدعم المشروط وغير المشروط، من ذا الكريم الذي لا يرضى لإخوانه أن تمنّ عليهم -ما تسمّى بالمنظمات الأممية- شيئًا قليلًا من الدعم، ثم لا يصل إليهم من هذا القليل إلاّ القليل، ثمّ يخفى لما لبعض المنظمات من صلات بمراكز بلدانها الاستخبارية، وضررها على الأمة. من ذا يقول لهم: خذوا هذه الأرباح من التجارة؛ وأوقفوها، واستثمروها، وسُدُّوا بها فتنة الأقوام عنكم؟
فقه الأولويات
أبصر ابن المبارك عظيم الحاجة في باب الإنفاق على العلماء، فقام بدوره خير قيام، حيث كان يغدق على العلم وأهله أينما كانوا، حتى عُوتب في ذلك، أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه: “عوتب ابن المبارك فيما يُفرّق المال في البلدان، ولا يفعل في أهل بلده، فقال: “إني أعرف مكان قوم لهم فضلٌ وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا الطلب للحديث، بحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعنّاهم بثّوا العلم لأمة محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة درجة أفضل من بث العلم.”
إذًا؛ جمع ابن المبارك بين فضيلة العون في سدّ حاجة العلماء بالإنفاق على العلم وطلبته، وبين فضيلة الإسهام في انتشار العلم وبثّه واستمراريته. فما أفقهه حيث أدرك حجم المسؤولية، وفَقِه الأولوية؛ عندما أشار إلى “إن تركناهم ضاعوا”، “وإن أعنّاهم” قاموا بواجب العلم تجاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حسب نتائج دراسة في شمال غرب سوريا (ضمن المناطق التي شملتها الدراسة)، بلغ عدد الأطفال في سن المدرسة 1،712،468 منهم 34% (582،239) طفلًا من الأطفال بعمر المدرسة هم خارج المدرسة.
من ذا يفقه نحو فقه ابن المبارك من أهل اليسار والخير اليوم، فيستثمر في أجيال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن تُركوا: ضاعوا، وإن أُغنوا واُعينوا: كانوا سندًا وعونًا وطلائع مجد لحاضر الأمة ومستقبلها.
ابن المبارك وتفقّد الحاجات
لمّا خرج عبد الله بن المبارك في رحلته إلى الحج، وهو الذي كان قدوة في التكفّل بنفقات الحج لأصحابه ومرافقيه وأهل بلده، منذ خروجهم من ديارهم إلى حين رجوعهم إليها، مرورًا بتسوّقهم وشرائهم الهدايا= لمّا خرج عازمًا على الحج، مرّوا ببعض البلاد، فمات طائرٌ معهم فأُلقي في مزبلة، وسار الركب وتأخّر ابن المبارك، فجاءت جارية من القرية فأخرجت الطائر الميت من المزبلة وذهبت به سريعًا، فلمّا رأى ابن المبارك ما رأى راعه الأمر، فاستفسر عن حالها وشأنها فقالت:
“حَلَّت لنا المَيْتة”!
وذكرت من شأنهم وحالهم، فأمر ابن المبارك بما معهم من نفقة فأنفقها على الجارية وأهل قريتها، ولم يبق من أزوادهم إلا القليل الذي يبلغّهم طريق الرجوع إلى مرو، قائلًا: “هذا أفضل من حجّنا هذا العام”!
هذا هو ابن المبارك، كان يتلمس حاجات الأمة ويتفقّدها، ولا يتوانى في سدّها وإغنائها. اليوم في الشام -قلب الأمة النابض- مئات المخيمات -وهي بحسب تعريف “وحدة تنسيق الدعم”: مجموعة أماكن السكن المؤقت والتي تضم الخِيم والكرفانات والغرف-، أعدادها تزيد عن عشرات المئات، ويربو أعداد المقيمين فيها على ما يزيد عن المليون، يعانون حرّ الصيف، ويُقاسون قرّ الشتاء، ينقصهم الغذاء والدواء، ويعوزهم تأمين حاجاتهم الأساسية في ظل قلة الإمكانات، وشحّ الواردات، إن وجدوا سَعة في يوم؛ لم يجدوه في بقيّة الأيام.
فمن ذا يكون ابن المبارك لهذا الزمان، فيكفي المسلمين حاجتهم، ويسدّ فاقتهم، في هذا الوقت العصيب على طائفة من الأمة، اجتمع عليهم جوع وحرب، وبرد، وتشريد، وأسقام ووباء، من يكون لهم كما كان ابن المبارك للمسلمين في كفايتهم حاجاتهم؟
ليس الأساسيات فحسب، بل حتى الكماليات!
“قدم ابن المبارك أيْلة على يونس بن يزيد، ومعه غلام مفرّغ لعمل الفالوذج يتّخذه للمحدثين” يا لله ابن المبارك، لم يكتفَ بسدّ الحاجات الأساسية، بل تعدّى جوده وإحسانه إلى الكماليات؛ فاتخذ غلامًا لعمل الحلوى يطعمها ’المحدّثين’!، هكذا كان ابن المبارك أينما وجد فرصةً للبذل والعطاء كان حاضرًا جوادًا بنفسه وماله، ما أعظم همّته وما أجزل يده وعطاؤه.
إكرام الوجوه وصيانة الأعراض
قال الفضيل رحمه الله لابن المبارك: “أنت تأمرنا بالزهد، والتقلّل، والبُلغة، وتأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟” قال: “يا أبا علي؛ إنّما أفعل ذا لأصون به وجهي، وأكرمُ به عرضي، وأستعينُ به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًا إلّا سارعت إليه حتّى أقوم به”، فقال له الفضيل: “ما أحسن ذا إن تمّ ذا”..
من يقوم مقام ابن المبارك في هذه الأمة، في هذا الزمان، الذي تكالبت فيه الأعداء على قلب الأمة النابض ’الشام’، وحوش ضارية لا تعرف معروفًا -أخلاقيًا وعسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا- ولا تنكر منكرًا، أذاقت المسلمين الويلات فهجّرتهم وشرّدتهم من بعد اجتماع وكرامة، من يلتفت لهذا الثغر فيغدق عليه كما أغدق ابن المبارك -رحمه الله- في زمانه، ويكفي الأمّة بفضل تجارته كما كفاها ابن المبارك؟
إنّ الواقع لا يعدم منظمات أو شخصيات تقوم بواجبها تجاه النهضة المجتمعية والتعليمية، لكنّ الموارد قليلة، والإمكانيّات شحيحة، والحاجة ماسّة، والمعوّقات كثيرة، منها انقطاع الأطفال عن الدراسة لتأمين الرزق ومساعدة أهاليهم في طلبه، ومنها شحّ المستلزمات التعليمية وقلّة أدواتها، ومنها انقطاع رواتب المعلمين، وعدم استمراريتها، كما جاء في تقرير “تقييم التعليم المشترك الخاص بالأطفال خارج المدرسة”.
من الفقيه التاجر الذي يستعمل نعم الله التي أعطاه إياها في مراضيه، ونفع المسلمين، ودفع البلايا، ورفع الرزايا، وإكرام الوجوه وصيانة الأعراض؟
المرابطة على الثغور
كما كان الإمام عبد الله بن المبارك يرابط على ثغور المسلمين المعنوية باذلًا جوادًا معطاءً في سدّ حوائج العلماء وطلبة العلم، وكفايتهم همّ السعي في طلب الرزق؛ كان أيضًا فارسًا شجاعًا مغوارًا مرابطًا على ثغور المسلمين الحسّية، فحيث ذُكر الجهاد والرباط ذُكر ابن المبارك، فمن فضل الله عليه أنه جمع بين العلم والعمل، والغزو والجهاد.
كتب أبياتاً من ثغره في ’طرسوس’ وبعث بها إلى صاحبه في مكة ’الفضيل بن عياض’ -رحمه الله-، فقال بصدق لهجة:
يا عابدَ الحرمينِ لو أبصرتنا ** لرأيتَ أنّك في العبادة تلعبُ
من كان يخضّب جيده بدموعهِ ** فدماؤنا بنحورِنا تتخضّبُ
أو كان يُتعبُ خيلَهُ في باطلٍ ** فخيولُنا يوم الصَّبيحة تَتْعبُ
إلى آخر الأبيات البليغة، فلمّا وصلته الأبيات، بكى الفضيل وقال: “صدق أبو عبد الرحمن ونصح.”
هكذا كان ابن المبارك إذا سمع هيعة قام إليها، وإن دعا الداعِ لبّى النداء بنفسه وماله، وإن لم يكن اليوم ثمّة مرابطة على الثغور الحسيّة؛ فلا يفوتنّ تحصيل الأجر العظيم في الرباط على الثغور المعنوية في سدّ حوائج المسلمين، وكفايتهم.
اقتفاء الأثر
إنّ الموفق من وفّقه الله واستعمله، وأعانه وبصّره، فكان مستعينًا بنعم الله على طاعته، ومن أعظم أبواب الأجر والخير؛ الأجور المستدامة كمثل الأوقاف، فمن يكون ابن المبارك لهذا الزمان ويوقف شيئًا من ماله ليعود ريعه لصالح أولئك المعوزين الذين أرهقتهم الحروب، وأنهكتهم الخطوب، فشُغِلوا بها عن أنفسهم، وأهاليهم، وأطفالهم -إلاّ من رحم الله-.
من يفوز بالسبق ويعمل على إنشاء مؤسسات أو مراكز وقفية تقوم ببناء الأجيال، والاهتمام بالنشء إيمانيًا وتعليميًا وتربويًا، من ذا يكون لأطفال المسلمين فيعلّمهم، وينفق على تعليمهم، ويوقف عليهم شيئًا من كسبه وربحه، فيغرس غرسًا في الدنيا، فيباركه الله له وينميه، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأعمال الصالحة ذات النفع المتعدّي التي يبقى أجرها بعد الموت؛ ومنها العلم النافع، والصدقات الجارية:
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له.
إنّ هذا الثغر يحتاج من يلتفت إليه، وينشط فيه ويبذل، ويوليه اهتمامًا وعناية، من قوي أمين في الدنيا والدين، فهذا الجيل من المسلمين، الغضّ الطريّ، -الذين لا تتوفر لهم سبل التعليم والعيش الكريم بشكل كافٍ- هم سواعد الأمة غدًا، وجزء مهم من مستقبلها، في بقعة مهمّة في العالم، هي مركز من مراكز قيادة الأمة لقرونٍ خلت -وستعود إن شاء الله-؛ حتى إذا كانوا في سُدّة القيادة= ساد الأمّة منهم ذوي العلم الحميد، والفهم الرشيد، والقول السديد.
وإنّ من النفع المعتدي العظيم: غرس بذور الخير، في تلك الأرض الخصبة الخضراء، والاستثمار في بناء النفوس وتزكيتها، وعمارة القلوب بالإيمان والعلم، لينشأ جيل واعٍ، على علم وبصيرة في الدنيا والدين.
دور ابن المبارك
يقول د. عمر المقبل في مقالٍ له بعنوان “مشروع العالِم المتفرّغ” تعليقًا على دور ابن المبارك -رحمه الله- في كفايته مؤنة العلماء وحاجتهم: “إنها نماذج توحي بأن فكرة كفاية العالِم وتفريغه لتعليم العلم وبثه في الأمة كانت حاضرة في نفوس أهل الفضل من الأمراء والعلماء؛ لما لذلك من الأثر العظيم على العلم وطلابه وعلى الأمة كلها”. انتهى
لئن كان ابن المبارك حاز مقامًا رفيعًا في دعمه أولئك العلماء؛ لجديرٌ بأهل الفضل واليسار هذا الزمان أن يقوموا مقامًا كريمًا في كفاية المسلمين المستضعفين حاجاتهم، وتأمين وسائل العيش الكريم، من مسكن ومأكل ومشرب، وإمداد جيلٍ ناشئ بسلاح العلم والإيمان؛ ليكون دعائم لنهضة الأمة، وركائز بنائها، وأعمدة رِفعتها.
ويقول د. المقبل حاثّا على ’الوقف’ على مشاريع كفاية العلماء وطلبة العلم للقيام بواجبهم:
إنّ حقًا على أهل الثراء الأخيار أن يبادروا بإطلاق هذا النوع من المشاريع، فهو من أعظم وأجلّ المشاريع.
ونقول هنا: إنّ حقاً على أهل الثراء أن ينبري منهم مسدّدون، مُلهَمون، مدرِكون لأهمية القيام على هذا الثغر العظيم، والمبادرة بلم شعث الأمة المتناثر في المخيمات كالدر المنثور بلا مأوى كريم، ولا تعليم وتأهيل قويم. عندما عُرضت ورقة مكتوب فيها كلمة واحدة، على أولئك الأطفال في تلك المخيمات، لم يستطيعوا قراءتها، وكأنه توارى خلف ابتساماتهم الخجِلة وبريق أعينهم اللامع، تقريعًا ولومًا وعتابًا على التفريط في شأنهم، وعدم القيام على رعايتهم وإعانتهم ومدّهم بما يحتاجون، ما كانت الكلمة المكتوبة في الورقة سوى لفظ الجلالة “الله”!
استلهام القدوة
ونحن إذ نستذكر هذه الوقائع؛ لا ننس بأن نستحضر هذا الجانب من سيرة الإمام العَلَم عبد الله بن المبارك، حيث كان باذلاً معطاءً، صارفًا أمواله في سبيل صيانة وجوه العلماء وإكرام أعراضهم. فمن اليوم يسير هذه السيرة الطيبة فيكون ماله عونًا للمسلمين في رعاية أبنائهم، وحفظهم، وتنشئتهم، من يطعم جائعهم، ويكسو عاريهم، ويستر عوراتهم، ويؤمن لهم مساكن تقيهم حرّ الصيف، وقرّ الشتاء؟
من يستشعر المسؤولية ويدرك أهميّتها؛ فيقوم فيه مقام ابن المبارك -رحمه الله- في عنايته بالعلماء وطلبة العلم في زمانه.
لا شك أن الموضوع شائك وكبير، تتجاذبه أطراف شتّى، وتتداخل لأجله سياسات، وتتقاطع في سبيله مصالح؛ لكنّ هذه الدعوة جهد المقل، والغيث أوله قطرة، ولن تُعدم هذه الأمة الخير، فهي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره.
فهذا شذا من عبير سيرة ملأى بالدروس والعبر، من ذا الذي يبعث سيرته التي سارها في إكرام الأمة ورفعة شأنها، من ذا الذي يقوم مقام ابن المبارك هذا الزمان فيحوز شرف صون طائفة مشرّدة من بعد مُقام، ومهانة من بعد إكرام؟ قد عاث المجرمون في أرضهم إفسادًا وإهلاكًا، وقتلًا وتشريدًا، لأجل أنهم يقولون: (ربنا الله).
وهكذا كان ابن المبارك إذا سمع هيعة قام إليها، بنفسه وماله، وكان جوادًا باذلًا معطاءً في وجوه الخير، فحريٌّ بتجار المسلمين الطامحين في المعالي، الراغبين إلى الخيرات؛ اقتفاء أثره وانتهاج نهجه في سد الثغور والثغرات.
(المصدر: موقع تبيان)