من نوال السعداوي إلى سورة الجاثية
بقلم محمد إلهامي
بعد أيام من قراءة المضحكات المبكيات في وفاة #نوال_السعداوي، ساقني الله تعالى لقراءة سورة الجاثية.. فكانت شفاءً ونورًا وهدىً ورحمة..
“الجاثية”
يُصَوِّر لك هذا اللفظ حالة الشخص الرث الذليل النادم، الذي يجثو على ركبتيه، مُنْهارٌ أمام الخوف الهائل، لا يصمد أن يقف ولا يملك أن يرقد، تتعلق عيناه وقلبه أمام هذا الحال الحائل، والشغل الشاغل!
وتدور السورة حول موضوع واحد: موضوع اتباع الهوى مهما تكاثرت الأدلة!
فإذا هذا الذي جثا يوم القيامة في تلك الحال الرثة المَهينة، كان في الدنيا في حال آخر، كان مُتَّبِعًا لهواه، فمهما جاءته الأدلة وحاصرته البراهين والشواهد، التمس لنفسه الخروج منها:
يخرج منها أحيانا بطلب المستحيل (وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا ما كان حُجَّتَهم إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين).
ويخرج منها أحيانا بدعوى أن الأمر ليس مؤكدًا، ولا يزال فيه شكّ، ولا يزال فيه خلاف (وإذا قيل إنّ وعد الله حق، والساعة لا ريب فيها. قلتم: ما ندري ما الساعة؟ إن نظنّ إلا ظنًّا، وما نحن بِمُسْتَيْقِنين).
ويخرج منها أحيانا بدافع الحسد والبغي، بلا سبب (وآتيناهم بيّنات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم).
وأحيانا لا يجد شيئا يفعله أمام آيات الله، فيأخذ في الهروب منها بالسخرية، (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هُزُوا).
وهكذا كان حاله في الدنيا، متهربٌ من كل ما يخالف هواه، يلتمس لنفسه المبررات، يتشدد في طلب الدليل فإذا جاءه الدليل الظاهر لم يؤثر فيه (يسمع آيات الله تُتْلَى عليه، ثم يُصِرّ مسْتَكْبرًا، كأن لم يسمعها)!
ولذلك وصف الله تعالى هذا الصنف بأنه (أَفَّاكٌ أثيم)، كثير الإفك، كثير الإثم!
وكشف الله خبيئة هذا النوع من البشر، فعَرَّى عنهم رداء العقل والمنطق، وأسلوب السخرية ومظهر الكبر، فأخبر تعالى عن السرّ الخطير، قال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وخَتَم الله على سمعه وقلبه، وجَعل على بصره غشاوة. فمن يهديه من بعد الله؟!)
هذا هو إذن، ذلك الهوى الكامن في النفس، هو الذي هيمن عليها وساد وسيطر، حتى صار إلها خفيا، فما رضيه هذا الهوى فهو الحق، وما كرهه هذا الهوى فهو الباطل.
وتلك الحال شرحها الحديث المشهور، حديث عرض الفتن على القلوب، وفيه يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- “تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عودًا عودًا، فأيما قلب أُشْربها نُكِتَتْ فيه نُكْتَةٌ سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، وأسودَ مِرْبادًا، كالكوز مُجَخِّيًّا (أي: مقلوبا)، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشْرب من هواه”.
فالمعروف والمنكر عنده مرتبط بذوقه ومزاجه، فما التذّ به فهو معروف، وما كرهه فهو منكر!!.. ذلك هو إله الهوى!
ومن أعجب ما يبثه إله الهوى في نفس صاحبه، تلك الحيلة الغريبة العجيبة التي لا تستقيم في عقل ولا منطق، إنه يوحي لصاحبه أنه سينال في النهاية ثواب المؤمنين أيضا.. كيف؟! لا أحد يعرف، ولكن لا بد أن يكون كذلك، فغير مقبول -عند إله الهوى- أن تكون النهاية هي الجحيم والعذاب والنار.. لا، لا بد من أن يحدث شيء، لا بد أن تكون ثمة وسيلة وطريقة ومخرج، بحيث إذا تحقق ما يقوله هؤلاء المؤمنون (المتطرفون) فإننا سننجو!
ولذلك تصدمهم الآية التي تقول: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء، محياهم ومماتهم؟! ساء ما يحكمون * وخلق الله السموات والأرض بالحق، ولتُجْزَى كل نفس بما كسبت، وهم لا يُظْلَمون)
لذلك كله، تشعر حين تقرأ هذه السورة أنها تعلن الحرب على هذا الصنف من الناس، وتحاصره بالأدلة التي تهدم عليه بناءات الهوى في نفسه، وتُقَلِّب اللهجة بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحشد الدلائل عليه لئلا يبقى له مهرب!
تبدأ السورة بتدفق منهمر عن آيات الله في السموات والأرض والخلق والدواب والليل والنهار والمطر والرياح، ثم تقف فجأة لتنكر على من يتهرب من هذه الآيات أو يستعمل السخرية وتخبره بالعذاب العظيم المهين الذي ينتظره!
ثم تستأنف السورة آيات الله في البحر والفلك وما في السموات والأرض مما سُخِّر للإنسان، ثم تقف فجأة لتثبيت المؤمنين إذ يتعرضون للأذى من هؤلاء، فتخبرهم أن الله سيجزي كل قوم (بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون).
ثم تذهب السورة إلى مثال آخر من أمثلة اتباع الهوى، وتمزجه بتثبيت المؤمنين، ذلك مثال بني إسرائيل حين جاءهم العلم بالنبي وصفته، ولكنهم حسدا وبغيا كفروا به (وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).
ثم يبدأ نصف الصورة الثاني في بيان حال الذين اتبعوا أهواءهم يوم القيامة.. تلك الحالة التي مَهَّدَ لها اسم السورة.. حالة الجثو على الركب في المشهد المهين الذليل، حين يتحول ذلك المستكبِر الساخر إلى رثٍّ ضئيل!! يرنو ببصره ويرهف سمعه ويتعلق قلبه فلا يسمع إلا ما يصدمه ويرعبه:
(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)
(أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين؟)
(اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين)
(ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هُزُوا، وغرّتكم الحياة الدنيا، فاليوم لا يُخرجون منها)
وتُخْتَم السورة بهذا الختام الرهيب.. ختام الذي يُلقي في روع القارئ روعة من الخشية والرهبة.. ختام يشعر الإنسان فيه بضآلته وصغره وهوانه وقلّته في هذا الكون الرهيب، وأمام الله خالق الوجود والمهيمن عليه.
(فلله الحمد، رب السموات ورب الأرض، رب العالمين * وله الكبرياء في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم).
إن الإنسان لَيَعرف من نفسه أنه صغير قليل ضئيل، أقل من ذرة في عاصفة، وأقل من قطرة في بحر.. هذا الزمان الذي يُحسب بملايين السنين على هذه الأرض وحدها لا يشغل الإنسان منه إلا حيّز سبعين سنة أو ثمانين أو حتى مائة.. أين تذهب هذه المائة من تلك الملايين التي تعد بالمئات؟!
فهذا اتساع الزمان..
وأما اتساع المكان، فماذا يشغل الإنسان من حيِّز هذه الأرض؟!.. وماذا تشغل هذه الأرض من حيِّز هذا الكون؟! إنه فعلا أقل من حبة رمل في صحراء شاسعة، وأضأل من ذرة تهيم في فضاء فسيح؟!
وبرغم هذا، يتضخم الإنسان في نفسه، يريد أن يطاول الإله ويصاوله ويحادده، فتراه يجادل في أوامر الله ونواهيه وأحكامه كأنما هو نِدٍّ أو كأنّ له من الأمر شيء؟!
هذا المخلوق قضى دهرا من عمره تقلبه يد أمه أو مربيته، فتسمح عنه أوساخه وتنظفه وتطعمه وتسقيه، ولا يملك لنفسه شيئا، بل لا يملك أن يدفع عن نفسه شيئا لو أراده أحدٌ بأذى!
وهو نفسه إذا طال به العمر عاد ضعيفا متهالكا تقلبه أيدي الخدم والأبناء وزوجات الأبناء يمسحون عنه ما يتساقط من فمه أو حتى ما يتساقط من بوله وعذرته!
فلو حسبنا وقت قوته واستغنائه عن الناس ما تجاوز ثلاثين سنة أو أربعين على الأكثر، ولو حسبنا مساحة نفوذه وحكمه وتأثيره ما بلغت في أقصاها حكم دولة من الدول..
ومع ذلك، فهو عند ذروة قوته وتمكنه، يخضع لطبيب يسقيه الدواء المر ويفتح له جسمه ويجبر له عظامه، ويخضع لموظفيه الذين يرفعون له التقارير والتوصيات والمحاذير.. فما لهذا الإنسان -على الحقيقة- ولا لحظة واحدة يستغني فيها بقوته عن الناس كلهم!
فمن أين يأتي هذا المخلوق بكل هذا الكبر لكي يناكف آيات الله، يريد منها أن توافق هواه.. فيسرح ويمرح يريد أن يلويها ويعتسفها ويتكلف أن ترضيه، فإن لم يستطع كانت لديه الجرأة ليتحدث عن قراءة جديدة وتفسير جديد أو عن تجديد الدين وخطابه وتطويره ليوافق ما يريد؟!
افتح المصحف.. واقرأ سورة الجاثية.. وتأملها! وتأملها!
فإن في القرآن شفاء.
(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)