مقالات مختارة

من ملامح الدولة الإسلامية.. الشريعة قبل الاقتصاد

بقلم محمد إلهامي 

لعله من المعلوم من السيرة بالضرورة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أقام دولة الإسلام في المدينة وفي المسلمين من لا يملك قوت يومه، بل وحين رحل النبي إلى الرفيق الأعلى مات ودرعه مرهونة، وكان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت النبي نار، يعيش هو وأهله على الأسودان: التمر والماء.

ومن المعروف أن النبي حذر أمته من انفتاح الدنيا عليهم، ومن تنافسهم فيها، فإن ذلك أول الهلكة، وكان من دعائه “اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا”، وهو هو الذي استعاذ بالله من الفقر وجعله قرين الكفر “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر”، وهو هو الذي قال “اليد العليا خير من اليد السفلى”، و”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”.

والشاهد المقصود أن الدولة الإسلامية هي دولة “الفكرة” أو دولة “الرسالة”، وهي نموذج مغاير ومخالف تماما للدولة القومية العلمانية الحديثة، ومن ملامح هذا الاختلاف أن الدين أساس من أسس الدولة الإسلامية، تحرص على إقامته ورعايته وتثبيته في النفوس ونشره ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، والدارسون للسياسة الشرعية يعرفون أن واجبات الحاكم متلخصة في “إقامة الدين وسياسة الدنيا”.. بينما لا تحفل الدولة القطرية أو القومية العلمانية المادية بالدين أساسا وتجعله –في أحسن الأحوال- أحوالا شخصية للمواطن بينما دينها وغايتها تحقيق الإنجاز الاقتصادي برفع مستوى الدخل والوصول إلى الكفاية ثم الرفاه، وهي لا تنظر إلى البشر إلا من زاوية انتمائهم إليها، فمن انتمى إليها مُكَرَّم موفور، ومن لم يكن منها لم يكن له حقوق، فالمريض الأجنبي عنها لا يُعامل كالمواطن المريض ولو كان على أرضها، فمن لم يكن على أرضها فلربما أجازت لنفسها احتلاله واستنزافه وإفقاره في سبيل إسعاد مواطنيها.

هذه الخلاصة النظرية نريد النفوذ منها إلى الأثر العملي الواقعي الذي يهمنا الآن..

إن الرئيس الإسلامي الذي ينشد إقامة دولة إسلامية قدوته فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا بد أن يجد نفسه مدفوعا إلى تصحيح مسار الدولة القومية ذات الفكر العلماني المادي، وأول مواطن هذا التصحيح: تصحيح الغاية والهدف!

إن الأمة التي أخرجها الله للناس لتحمل الرسالة الخالدة تحتاج من يعيد إليها ذلك الشعور بالعظمة وأمانة حمل الرسالة، الدين لديها مقدم على الدنيا، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور هدف مقدم على خروجها هي من الفقر إلى الغنى، شعارها “ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى”..

وهي أمة تقبل أن تتحمل الجوع –إذا ما تحقق ذلك الشعور- على أن تقترض بالربا لتحقق خطوة في الإنجاز الاقتصادي، ولا يفعل هذا خير من الإيمان الذي يحرم عليها الربا وينذرها “بحرب من الله ورسوله”، في مقابل الوعد الإلهي الخالد “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقول لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض”.

إن مخاطبة غرائز الناس واحتياجاتهم الاقتصادية وتقديمه على التأسيس للدين والتعلق به يسحب الحركة الإسلامية للفكر المادي ويسوقها للتنازل عن الدين، بينما خطاب الدين والشريعة يفجر طاقات الناس ويثير بدائع الشعوب.

إن خطاب المادية والعلمانية يجعل الناس أسرى لحاجاتهم الاقتصادية التي لا تُشبع أبدا، وينزع عنهم أهلية حمل الرسالة، فينزع عنهم كونهم “خير أمة أخرجت للناس”، وهو ما لا تطيقه الأمة المسلمة ولا يجوز أن يقع فيه رئيس يحمل الإسلام بين جنبيه قولا وعملا لا مجرد شعار وعنوان.

إن شعوبنا المسلمة لا تحتاج إلى لقمة العيش بقدر ما تحتاج إلى قيادة تعيدها إلى عزتها النفسية النابعة من حملها الرسالة الخاتمة “أمة قائدها محمد”!

وإن الرئيس –حين يختار المسار المادي العلماني- سيحرق نفسه في العمل على إشباع الحاجات الاقتصادية بينما سيجلس الشعب ينتظر ويراقب ويُقَيِّم ثم قد يتمرد ويثور إذا لم يعجبه حجم الإنجاز، بينما هو -في السياق الإسلامي- باعث نهضة تستند إلى العزة والكرامة والرسالة، قائدا للشعب يوجهه بكلام الله وسنة نبيه وسيرة سلفه الصالح وبطولات تاريخهم الماجد، وحينها سيبذل الشعب كل ما يملك من طاقات حتى وإن لم يدرك الثمرة، وحتى وإن كانت به خصاصة.

ولو انتبه الرئيس الإسلامي وتأمل لعلم أن الشعوب التي تحمل الرسالة وتتوق للعزة والكرامة بل وتطلب الشهادة خير له من الشعوب التي تنتظر ارتفاع مستوى الدخل ثم الرفاهية ثم اللذة.

إن القعود عن الجهاد والتولي يوم الزحف من “الكبائر” في الإسلام رغم أنه من أبسط “الحقوق والحريات” في الفكر المادي العلماني، ولهذا آثار بعيدة وكبيرة وفارقة ومصيرية.. بحجم الفارق بين حملة الرسالة والذين أخلدوا إلى الأرض.

ولقد تميز المجتمع النبوي بكونه مجتمعا من المجاهدين، لا يتخلف عن الجهاد إلا معذور أو منافق، وقد لقي الثلاثة المؤمنون تأديبا قاسيا لما تخلفوا مرة واحدة.

إذا انتشر الدين في المجتمع، ارتفع بغايات الناس وتطلعاتهم ورغائبهم نحو بذل الجهد، بل وبذل النفس في الجهاد، يرغب الآخرة ويزهد في الدنيا، يحمل الرسالة، يبحث عن دوره في إصلاح الحياة لا منتظرا إنجازا يرفع مستوى دخله!

بنظرة بسيطة، سيكمن حل المشكلة الاقتصادية نفسها إذا زهد الناس في الدنيا وكانوا أخلص للدين والرسالة الذي يفرض عليهم دورا فاعلا في إصلاح الحياة.

والخلاصة: المشروع الإسلامي والدولة الإسلامية نموذج مغاير ومفارق لنموذج الدولة العلمانية المادية القائمة، استيعاب هذا حتم لازم، للرئيس الإسلامي، ولكل أصحاب المشروع الإسلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى