من مكتبة العلامة القرضاوي .. كتاب غير المسلمين في المجتمع الإسلامي
بقلم أحمد النسناس – العرب القطرية
في صفحات هذا الكتاب، يعرض العلامة يوسف القرضاوي لموضوع كثيرا ما أثار لغطاً داخل الصف الإسلامي، وبين أبناء المشروع الإسلامي والمعارضين له، وهو موضوع (أهل الذمة)، أو كما آثر المؤلف أن يسميهم (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).
يوضح الدكتور القرضاوي سبب إيثاره هذه التسمية قائلاً: «اخترت لكتابي هذه التسمية، رعاية لما ينشده الإسلام في علاقاته بغير المسلمين، فلا ينبغي أن نخاطبهم باسم الكفار، فالتخاطب ينبغي له أن نبحث عن الأسماء اللطيفة التي يتقبلها الناس بعضهم من بعض. ولذلك ناداهم القرآن بأسماء شتى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ»، «يَا بَنِي آدَمَ»، «يَا أَهْل الْكِتَابِ». ولذلك رأيت أن خير ما ينادى به من ليس بمسلم من أهل الديانات الأخرى من الكتابيين أو الوثنيين، أو من لا ينتمي إلى ديانة قط، من المتحررين من كل دين عرفه الناس: أن نسميهم بهذا الاسم (غير المسلمين)».
أراد أستاذنا في هذا الكتاب أن يجلِّي وجه الحق في قضية أهل الذمة، ويعرضها صافية نقية بعيداً عن تحامل المتحاملين، وتعصب المتعصبين، وأن يبيِّن ما لهم من حقوق كفلها الإسلام، وما لهذه الحقوق من ضمانات، وما عليهم إزاءها من واجبات، وما أثير حول الواجبات من شبهات، وكيف عاش هؤلاء الذين منحهم الإسلام ذمة الله وذمة رسوله وذمة جماعة المسلمين.
مهد الشيخ بأن الإسلام يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح والعدالة والبر والرحمة، فدستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم يتلخص في قول الله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» [الممتحنة: 8].
يتعرض فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في الفصل الأول إلى أهم حقوق أهل الذمة وهي: حق الحماية من الظلم الخارجي ومن الظلم الداخلي، تلك الحماية التي تشمل الدماء والأبدان، والأموال والأعراض، بل تتجاوز ذلك إلى تأمين حياة كريمة لهم عند العجز والشيخوخة والفقر، مثلهم مثل المسلمين.
ومن تلك الحقوق: حق حرية التدين، ولم يأمر الإسلام أتباعه أن يحترموا حرية الآخرين في أن يمارسهم عباداتهم وشرائعهم فقط، بل فرض عليهم أن يقاتلوا من أجل صيانة الأماكن المقدسة للآخرين، وينقل الدكتور القرضاوي هنا شهادة بعض المنصفين مِن المستشرقين مثل «جوستاف لوبون» الذي يقول: «رأينا من آي القرآن أن مسامحة «محمد» لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله: كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص.. ونقل عن «روبرت سن» في كتابه: «تاريخ شارل كن» أن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحُسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية».
ومن تلك الحقوق: حرية العمل والكسب، فغير المسلمين لهم حرية العمل والكسب، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين. وينقل شهادة آدم ميتز حيث قال: «ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهوداً، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة».
ومنها أيضا أن: لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك.
ثم يدلل على تلك الحقوق من القرآن والسنة وأقوال الفقهاء وشهادات المستشرقين المنصفين، ومع ذلك كله بالتاريخ الإسلامي الذي لم يعرف تاريخ البشرية تاريخاً لأمة من الأمم أو ديانة من الأديان مثله في التسامح والتعايش.
وقد كانت هناك ضمانتان رئيستان لهذه الحقوق الأولى هي: ضمانة العقيدة التي ربطت بين الإيمان وبين العدل حتى مع الأعداء كما في قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» [المائدة: 8].
والضمانة الثانية هي المجتمع المسلم فهو مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة، وتطبيق أحكامها في كل الأمور، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين؛ فإذا قصَّر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى، وجد في المجتمع مَن يرده إلى الحق، ويقف بجانب المظلوم المعتدَى عليه، ولو كان مخالفاً له في الدين. وأكد أن غير المسلم كان يجد النصرة إذا اعتدي على حق من حقوقه من خليفة المسلمين ومن فقهاء الإسلام ومن عموم الأمة، وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ومقالة عمر الشهيرة: «يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»؟.