مقالاتمقالات مختارة

من فلي الرؤوس إلى فلي النصوص

من فلي الرؤوس إلى فلي النصوص

بقلم محمد حماني

من منَّا لا يتذكر ما كانت تفعله الأمهاتُ، والجَدَّاتُ عندما كُنَّ يُنَادِينَ على أبنائهن لِفَلْيِ رؤوسهن، وما زَالَ يقفز إلى واعيتكَ هذَا الأمرُ كلما رجعتَ بمخيّلتك إلى دفء الطفولة الحالمة، فكانت تنادي عليكَ أمك بالدارجة المغربية: “أَجِي أَوَلْدِي نَفْلِلَكْ رَاسَكْ”.

عندما تنتهي الأمهاتُ من أشغالهن اليومية المتعبة، وخاصة الأمهات اللواتي يقطن في البوادي المغربية ــ كان اللهُ في عونِهِنَّ ــ يخلدن إلى الراحة في أواسط النهار، والاختباء من هجير الشمس الحارق، كانت الأم تفلي رأس ولدها، وتداعب بأناملها خصلات شعره الأشعث باحثة عن “القَمْلِ”، و”الصِّيْبَانِ” بفعل تراكم التّراب، والأوساخ من كثرة اللعب مع أولاد الحارة، وهي تتحسس شعره الفاحم كانت تحكي له الحكايات المدهشة التي ترجع إلى غابر الأزمان، وكانت الأم بذلك تتقرب إلى ولدها، وتسقيه حبّا، وحنانا، وكانت الجَدَّةُ في الوجهة المقابلة تقول لكَ: “الله يْجَعْلَكْ تَقْراَ وَتْقَرِّي”، وكنتَ تجدُ نفسك منتشيا، كعصفور خرج لأول مرة من عشّه بعدما علمته أمُّهُ الطّيران؛ أو كَمُهْرٍ هاَئِجٍ قد روّع الناس بتمرّده.

وعندما كَبُرتُ، وكبُر حلم أمَي فيَّ، ومعه حلمُ جدَّتي، ودخلتُ الجامعة بدأتُ أفهم معنى “الفلي” فلم تكن كلمة بالدارجة ــ كما كنتَ تعتقد ــ بل هي كلمة فصيحة من “فَلَى، يَفْلِي، فَلْيًا، وفِلاءً، فهو فَالٍ، وفَلَى رأسَه: بحث فيه عن القمل، وفَلَى المشكلة: أطال التأمل فيها..”. ويقول الشاعر العجاج (عبد الله بن رؤبة التميمي السعدي المتوفى سنة 90 هـ) من بحر البسيط:

يَخْتَرِمُ الأَجْوَافَ بِالتَّخَلُّلِ
خِلاَلَ ضَرْبٍ حَيثُ يَفْلِي المُفْتَلِي
مِنَ الرُّؤُوسِ وَالقَذَلِ الأَقْذَلِ
إِلاَّ هَوَى عَدُوُّهُمْ لِلْكَلْكَلِ

ومن هنا بدأت أستعمل هذه الكلمة مع تلامذتي في تحليل النصوص النّثرية، والشّعرية؛ إِذِ الفليُ عملية تنصب على النصِّ الأدبي، للحفر عميقًا تحت أتربته؛ بحثًا عن الجواهر، والدرر النفيسة، أو عن حسٍّ إنسانيٍّ مدفونٍ بين أروقة النصّ.

متى نشأ النقدُ (الفلي)؟

نشأ النقد ــ بصفة عامة ــ عندما وُلِد أوّل عمل إبداعي مع صاحبه؛ فالكاتبُ الأوّلُ هو الناقد الأول، فعندما ينتهي الكاتب من إبداعه فهو يلبس بعد ذلك قبّعة القارئ الناقد فهو يفلي عمله، ويصوّبه، وينقّحه، ويشذّبه، ويهذّبه قبل أن يخرجه، ولا يكتفي بذلك بل يقدم عمله مخطوطا، أو مَرْقُونًا إلى بعض أحبّائه، وأوِدّائه ممن يرى فيهم أهلا للنقد، والإضافات المضيئة.

النقدُ اختيارٌ

لا يمكن ــ بطبيعة الحال ــ للناقد الجيّد أن ينتقد كل ما يتلقفه من أعمال أدبية؛ فالناقد يختار بذوقه النصوص الجيّدة التي تستحق القراءة، والنقد. والذوق ــ كما هو معروف عن أغلب النقّاد ــ يشغل المرحلة الأولى من عملية النقد؛ وأَسُوقُ ــ هنا ــ كلامًا جميلاً عن الذوق للكاتب المغربي أحمد بوزفور؛ يقول فيه: “الذوق الأدبي كالطفل نربّيه، ونعلمه، ونغذّيه، ونفسحه، ونرعاه يوميا.

وهذا الذوق الطفل العزيز هو الذي نقرأ به النصوص، بدونه لا نعرف شيئا مما نقرأ؛ لكن هذا الذوق في الحقيقة هو جُماع ما قرأنا من النصوص الأدبية، وثمرة من ثمراته، وكلما كانت هذه النصوص كلاسيكية، ونموذجية، وممتعة… كلما أرهفت هذا الذوق وأكسبته الخبرة والقدرة التلقائية على التمييز. والذاكرة الصِّفر من النصوص لا ذوق لها مطلقا”.

هكذا تحتاج مقاربة النصوص إلى منطق الاختيار عن طريق الذوق المرهف؛ وإلا أصبح النقد عملية لا جدوى منها؛ وابن عبد ربّه، صاحب “العقد الفريد”؛ يقول: “اختيار الكلام أصعب من تأليفه”. فالنقد قبل أن يكون مقاربة شاقة؛ فهو متعة، وسَفَرٌ في عوالم النص العليا، والسُّفلى، فأنت قبل أن توجّه سهام النقد للعمل الأدبي فأنت تستمتع بجماليته؛ يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: “نحن لا نمارس النقد من أجل النقد بل من أجل التحرر مما هو ميت، أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي”.

هل يصلح الناقدُ ما أفسده المؤلِّف؟

يمكن لأي عمل نقدي يواكب المنجز الأدبي أن يعلي من شأنه، أو ينزل به إلى أسفل سافلين، إذ تكمن أهمية النقد في تجويد العمل الأدبي، وترميم ما أفسده المؤلف، أو أغفله وهو يدوّن ما جادت به قريحته، والناقد يجب أن يكون مزوّدا بزاد معرفي، وثقافي، وأدوات مختلفة، إذِ الناقدُ الحاملُ لهذه الأشياء يستطيع أن يقدم للنّصّ الأدبيّ إضافات نوعية تفيد العمل، وترتقي به دون إغفال إيجابياته؛ أما إذا كان الناقد غير مالك لأدوات النقد المختلفة فسيكرر أحكاما جاهزة ــ لا محالة ــ جاء محمّلا بها من نصوص أخرى، واعتبر ذلك صالحا لكل النصوص.

النقد مسؤولية، ورزانة، وتأنٍّ؛ كما أن إبداع النّصوص، وتأليفها يحتاج إلى وقت؛ كي تنضج على نار هادئة، والنص الأدبي بحاجة إلى نقد بنّاءٍ، بعيدٍ عن الأَدْلَجَةِ، وألا يكون نقدًا هاويًا، بل نقدًا احترافيًا يخدم الأدبَ الرفيعَ

كما أن بعض منتجي النصوص يتعالون عما يُكتب من دراسات نقدية عن مؤلفاتهم، وهذا ما يسبب لهم مزالق؛ لأنهم ــ ببساطة ــ لا يريدون الكتابة تحت الطّلب، أو وَفْقَ ما يشتهيه المتلقي. وعلى منتج النص أن تكون له عين لاقطة تقرأ ما يفيد صاحبها في تجويد عمله، وتجاوز هفواته، ويترك كل ما هو سَلبي يهدف إلى النَّيل من الكاتب ــ كما يفعل بعض النقاد الإيديولوجيين ــ الذين يبحثون في مرجعيات الكاتب دون التعمّق في العمل الأدبي، ودراسته دراسةً موضوعيةً علميةً، بل يكون نقدهم نقدًا بَرَّانِيًّا، لا تربطه أي صلة بالعمل الأدبيّ.

هل كل النصوص بحاجة إلى نقد؟

كثيرة هي النصوص الأدبية التي لا تحتاج إلى عملية نقدية صارمة؛ لأن هذه النصوص ــ ببساطة ــ تُتَذَوَّقُ، ولا تنتقد، وتشم، ولا تفرك، لأنّكَ إذا قمت بفركها ــ أيها الناقد ــ لا تعطيك شيئا؛ فعليك أن تكون لَبِقًا، وحذراً في معاملتك للنصوص، بل يجب عليك أن تتقرب منها، وتنصت إلى نبضها، وتستمع إليها بلطف؛ لأن السمع أبو الملكات ــ كما يقول ابن خلدون ــ فهي لا تحب أن تتعسف عليها، فبعض النصوص كبني آدم إذا عاملته بقسوة نفر منك، وتركك غير آسف عمّا فعلت.

فالنصوصُ تحتاج إلى معاشرة طويلة، وإدامة النظر فيها، كالنص المخطوط ــ مثلا ــ إذا أردت أن يبوح لك بأسراره، ومكنوناته؛ لأن النص الجيد لا ينطق لك بدرره في أول لقاء معه، فهو كالعروس الحسناء ليلة عُرسها لا تبوح لزوجها بكل شيء؛ فتكون خجلَى، متوجسةً تكتفي بتوزيع النظرات، والابتسامات. أليس النص الأدبي يحتاج إلى معاشرة طويلة، وكلما تركته، وعدت إليه من جديدا وجدته نصا آخر غير النص الذي كان؟ فالنقد مسؤولية، ورزانة، وتأنٍّ؛ كما أن إبداع النّصوص، وتأليفها يحتاج إلى وقت؛ كي تنضج على نار هادئة، والنص الأدبي بحاجة إلى نقد بنّاءٍ، بعيدٍ عن الأَدْلَجَةِ، وألا يكون نقدًا هاويًا، بل نقدًا احترافيًا يخدم الأدبَ الرفيعَ.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى