من فقد ربه فقد قيمته.. قيمة الإنسان عند الملحدين
بقلم تيمور آل منصور
هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: No God, No Value لكاتبه: Hamza Andreas Tzortzis في موقع: hamzatzortzis.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
يؤمن الجميع بالقيمة المطلقة للنفس البشرية. لكن هل يمكننا تبرير هذا الإيمان الذي لا يمكن زعزعته من نفوسنا تبريرًا منطقيًا؟ نعم، يمكن ذلك تحت مظلة العقيدة الإسلامية، فهي توفر لنا الأدوات المعرفية اللازمة لتبرير حقيقة قيمة النفس البشرية المطلقة. لكن الإلحاد يواجه مشكلة فلسفية عويصة في هذا الشأن.
لأختصر عليكم: لا يمكن للملحد إيجاد مبرر منطقي لأهم شيء يحدد إنسانيتنا! [قيمتها] والنص الآتي تفسير فلسفي قصير أشرح فيه كيف أن إحساسنا بقيمة النفس الإنسانية المطلقة منطقي في وجود الله وليس منطقيًا عند إنكارنا وجوده -سبحانه وتعالى- فنخلص بذلك إلى نتيجة:
من فقد ربه فقد قيمته، ومن عرف ربه وجد قيمته.
https://youtu.be/pvlMOPUKAC0
الفلسفة الطبيعية تنكر وجود الله والميتافيزيقيا كما يفعل الملحدون، ولهذا فلا عجب أن أغلب الملاحدة يتبنون الفلسفة الطبيعية كرؤية للعالم.
والفلسفة الطبيعية هي رؤية للعالم ترى أن كل الظواهر الحادثة في العالم يمكننا أن نعزو حدوثها إلى عمليات فيزيائية طبيعية، وهذه العمليات الفيزيائية عمياء وغير عاقلة.
وبهذا ينكر معتنقو الفلسفة الطبيعية كل قول بشأن أي شيء ميتافيزيقي، وقد يقول بعضهم أنه وإن وجد أي شيء خارج كوننا فإنه لا يؤثر عليه.
ويقول ريتشارد دوكنز: أن الملاحدة من الفلاسفة الطبيعيين، ويرى أن الملحد هو الذي يؤمن ألا وجود لشيء خارج عالمنا الطبيعي الفيزيائي المشاهد. إلا أن بعض الملاحدة الأكاديميين لا يعتنقون الفلسفة الطبيعية ويعترفون بحدوث ظواهر ميتافيزيقية. وهذا النوع من الملاحدة أيسر في مناقشته بالنسبة للمؤمن لأنهم لا ينكرون وجود الماورائيات من الأساس، ما يتيح أرضية مشتركة مع المؤمنين. لذلك من الهام إدراك أن أغلب الملاحدة الذين ينكرون وجود الله مباشرة أو يدعون ألا دليلًا دامغًا على وجوده سبحانه، فهم بهذا يكونون من متبني الفلسفة الطبيعية سواء أعلنوه أو استبطنوه.
ما الفارق بين الإنسان ورجال الثلج الذين نصنعهم في فصل الشتاء؟ إن هذا سؤال جاد، فالملحدون المتبعون لرؤية العالم الطبيعية تلك يؤمنون بأن كل ما هو موجود ليس إلا مادة مركبة بنظام معين وحسب، وقد يقول بعضهم أن هذا الموجود ناتج عن عمليات وأسباب طبيعية غير عاقلة.
فإذا ما كان ظنهم هذا صحيحًا، أيكون لأي شيء أهمية حينها؟
أين الاختلاف بين تناولي لمطرقة وتهشيمي لرأس رجل ثلج، ثم تهشيمي لرأسي بنفس المطرقة؟ لا فرق بينهما عند أصحاب الفلسفة الطبيعية. فنثارة الثلج المتبقية من رجل ثلج مثلها مثل كسور جمجمتي المتناثرة، مجرد تراكيب من نفس المادة الباردة عديمة الحياة.
الإجابات المعتادة لهذا السؤال تكون على شاكلة “لكننا نشعر” أو “لكننا أحياء” أو “لكننا نتألم” أو “لكن لدينا هوية” وأخيرًا “لكننا بشر!” وكل هذه الإجابات لا تعد سوى مواد مركبة بنظام معين في نظر الفلسفة الطبيعية، ولنكون أكثر دقة، فهذه الأشياء ليست إلا نتيجة العمليات العصبية الكيميائية الحادثة في أدمغتنا. فكل ما نشعر به أو نقوله أو نفعله يمكن أن يختزل إلى مكونات أساسية مادية أو عملية طبيعية تسببت في نشأتها. وبناء على هذا فإن عاطفتنا هذه لا مبرر لها، فحتى هذه العاطفة بل وحتى إحساسنا بالقيمة الذي نشأت عنه العاطفة ليسا إلا نتيجتين لمواد وعمليات طبيعية باردة.
وبالعودة إلى سؤالنا الأصلي، فما الفارق بين إنسان حي ورجل ثلج؟ نجد أن الإجابة في نظر الملحد هي: لا فرق بينهما. فأي اختلاف نجده بينهما لن يكون سوى وهم، فلا وجود لقيمة مطلقة لأي منهما. ما دام كل شيء مكونًا من مواد وناتجًا عن عمليات طبيعية [لا قيمة لها في ذاتها] فلا يكون لأي شيء مركبًا منها أو ناتجًا عنها أي قيمة. إلا إذا ادعينا أن المادة لها قيمة في ذاتها، وحتى إذا صدقنا بهذا الادعاء، فأي تباين يكون بين قيمة التراكيب المختلفة للمواد المختلفة؟ أيمكننا أن ندعي أن المادة الأكثر تعقيدًا لها قيمة أكبر مما هو أبسط منها؟ لماذا؟ لا تنسى أن كل ما تراه لم يُخلق بفعل فاعل ولا صممه مصمم لهدف -في نظر الملحد طبعًا- بل كل هذا نتاج العمليات الطبيعية الباردة غير العاقلة والعشوائية.
لكن الخبر السعيد أن الملاحدة المعتقدين بهذه الرؤية لا يطبقونها في الواقع، فلو كانوا يفعلون ذلك لكان الوضع سيئًا للغاية. والسبب في هذا الانفصال هو رؤيتهم لقيمة مطلقة في وجودنا البشري بسبب حكمهم الفطري في المسألة وهو ما فطرهم الله عليه وجعلهم يميلون إلى تمييز الجانب الإلهي فينا وحقيقة وجودنا.
النظرة الإسلامية للمسألة تخبرنا أن الله سبحانه وتعالى قد أنشأ فينا فطرة تجعلنا ندرك قيمتنا، وندرك حقائق أخلاقية متأصلة فينا. ثم هاك سببًا آخر يعطينا قيمتنا المطلقة: لقد خلقنا الله لغاية عميقة وفضلنا على سائر خلقه. إن لنا قيمة، لأن من خلقنا أعطانا هذه القيمة.
بهذا نكون قد مُنحنا حقًا شرف كوننا أبناء آدم فانظر قوله تعالى: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). وانظر قوله تعالى:
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ)
إن الإسلام يقدر الصالحين من البشر ومن يقبلون بالحق. وانظر هذه المفارقة بين من يطيع الله ويعمل الصالحات ومن كان عصيًا منكرًا مرتكبًا للفواحش، فيقول سبحانه: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ).
إن الإلحاد يجعل مآل المجرم الفاحش والمسالم الصالح واحدًا وهو الموت، وذلك بسبب إنكاره للآخرة وأي شكل من أشكال العدل الإلهي. الموت مآلنا كلنا، وما دام هذا الحال، فما قيمة حياة هتلر وما قيمة حياة مارتن لوثر كينج؟ ما دامت حياة كل منهما قد انتهت إلى نفس النتيجة فأي قيمة يعطيها الإلحاد لأي منهما؟ لا قيمة على الإطلاق.
إلا أنه في الإسلام يختلف مآل من عبد الله وكان رحيمًا صادقًا عطوفًا غفورًا عن من أصر على شروره. فمآل الصالح نعيم أبدي، ومآل الطالح عذاب سرمدي. يُبعد المجرم عن الهداية الإلهية نتيجة لجحوده لرحمة الله وإرشاده له، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى العذاب الروحي والشقاء الأزلي. إن الإسلام يعطينا قيمة مطلقة بلا شك، وعلى نقيضه لا يستطيع الإلحاد أن يبرر عقليًا وجود أي قيمة لنا إلا باعتبارها وهمًا في أدمغتنا.
ورغم قوة حجة الإسلام يعترض بعض الملحدين فيسألون: لماذا أعطانا الله قيمة مطلقة؟
والإجابة على ذلك بسيطة: الله خلق الكون وهو متعال عنه متجاوز لحدوده، وله سبحانه علم كامل وحكمة تامة، بل إن من أسمائه سبحانه الحكيم والعليم؛ فأيًا كان الشيء الذي أعطاه الله قيمة فإن تقييمه له يكون عالميًا يحكم على الكون بأسره وموضوعيًا لأن كل الموضوعات والأشياء من خلقه. ويمكننا أن ننظر لهذا الشأن من زاوية أخرى: فالله أكمل موجود بلا نقص ولا عيب، وبذلك فإن ما يرى فيه قيمة يكون موضوعيًا ومطلقًا لأن الموضوعية سمة من سمات الكمال المطلق الذي يتسم به سبحانه.
ويعترض آخرون قائلين: حتى إذا سلّمنا بأن الله هو من أعطانا قيمتنا المطلقة فإن تقييمه لنا يظل تقييمًا ذاتياً في نظره هو -حاشاه سبحانه-، وهذه الحجة مرتكزة على فهم خاطئ لمعنى الذاتية، فالذاتية (1) تنطبق على فكر المرء المحدود ومشاعره المحدودة، إلا أن قول الله لا يحده شيء فهو عن علم كامل وحكمة تامة كما سبق وبيّنّا. الله سبحانه يعلم كل شيء، أما نحن فلا. يخبرنا العالم المتقدم ابن كثير أن علم الله سبحانه وتعالى وحكمته هما العلم الكامل والحكمة التامة، أما نحن فلدينا جزء من هذا كله. وعلى سبيل المثال نقول:
إن الله معه الصورة كاملة، أما نحن فليس لدينا سوى بكسل (Pixel) واحد من الصورة.
وقد كتب البروفيسور سيد حسين نصر (بروفيسور الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن) موجزًا عن حقوق الإنسان وكرامته (وهما معنى قيمته في الواقع) بفرض إنكار وجود الله، وهو يلائم سياق حديثنا هنا، فيقول:
“يجدر بالمرء قبل الحديث عن حقوق الإنسان وواجباته أن يجيب عن أكثر أسئلة الدين والفلسفة أصالة “ما معنى أن يكون المرء إنسانًا؟” فالجميع في عصرنا هذا يتحدثون عن حقوق الإنسان ومدى قدسية حياة الإنسان، بل إن الكثير من العلمانيين يدّعون أنهم أبطال مضمار حقوق الإنسان بخلاف معتنقي الرؤى الدينية المختلفة، لكن -ويا للعجب- نجد هؤلاء “الأبطال” نفسهم لا يرون في الإنسان إلا قردًا متطورًا، تطور بدوره عن أحياء أبسط منه ونصل في نهاية المطاف إلى المركبات الجزيئية الأولية. فإذا كان الإنسان مجرد نتاج لعمل القوى الطبيعية غير العاقلة على الجزيئات الكونية المتناثرة فيه، أفلا يكون الادعاء بقدسية حياة الإنسان حينها ادعاء بلا معنى وليس إلا مقولة عاطفية باطلة؟ أولا تكون كرامة الإنسان حينها مجرد فكرة اختلقناها دون أن يكون لها أساس في الواقع؟ وإذا لم نكن سوى مجموعة ذرات منظمة، فعلى أي أساس ندعي وجود “حقوق الإنسان”؟ إن هذه الأسئلة لا تحدها الحدود الجغرافية، بل يفكر فيها كل عاقل في كل مكان”.
الحاشية
(1): الذاتية والموضوعية: يفرق الغرب بين طريقتين للنظر إلى الأشياء من حولنا لدراستها والبحث في شأنها؛ فالطريقة الأولى هي النظرة الموضوعية والتي يجنب فيها الباحث كل آرائه وتحيزاته السابقة ويتعامل مع الموضوع على ما هو عليه، لذلك تسمى “الموضوعية” لأن الأساس فيها هو الموضوع نفسه. أما النظرة الذاتية أو الشخصية؛ فهي أن يدلي الباحث برأيه الشخصي في الموضوع بناء على نظرته هو ومعرفته هو وخبرته هو، لذلك لقبت “الذاتية” لأنها قائمة على ذات الباحث ومنبع أفكاره.
المصدر: موقع تبيان