مقالاتمقالات مختارة

من علمك التفسير؟

بقلم محمد أكرم الندوي

قالوا: ما معنى التفسير والتأويل؟ قلت: التفسير مأخود من الفسْر، وهو البيان والكشف، وتفسير القرآن بيان معاني آيه ونصوصه والكشف عنها، والتأويل مأخوذ من الأول، وهو رجوع بالآية إلى حقيقة معناه، وتأويل القرآن الكريم هو بيان الحقائق التي تشير إليها الآيات والنصوص، وقد استعمل الناس التأويل لعدة معان، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن لفظ التأويل، قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان:
أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟
والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف علماء التأويل، ومجاهد إمام المفسرين – قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهم – فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به: معرفة تفسيره.
الثالث: من معاني التأويل، هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد: هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب, والجزاء, والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ)، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
قالوا: ما الحاجة إلى التفسير؟ قلت: من المعلوم أن اللّه جلّ وعلا خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك أرسل كل نبي بلسان قومه، وأوحى إليه بلغتهم، والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي صلى اللّه عليه وسلم في الأكثر، وبعض هذه الأسئلة مذكورة في القرآن، وأكثرها تضمّنتها كتب الحديث والتفسير، وإننا محتاجون إلى ما احتاج إليه المخاطَبون الأولون للكتاب وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه لقصورنا عن مدارك أهل اللغة.
قالوا: ما هي أجل كتب التفسير؟ قلت: الكتب التي أُلّفت في التفسير أنواع مختلفة منها تفاسير غلب عليها النقل عن النبي صلى اللّه، و أصحابه، والتابعين وسلف هذه الأمة كتفاسير ابن ماجه، و ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن جرير، والبغوي، ومنها تفاسير غلب عليها الرأي والعقل والاستنباط كتفاسير المعتزلة والطوائف المبتدعة والفلاسفة، ومنها تفاسير أهل الباطن كتفاسير المتصوفة، ومنها تفاسير الفقهاء كأحكام القرآن للإمام الشافعي، وأحكام القرآن للجصاص الرازي، وأحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، وأحكام القرآن للقرطبي، ومنها تفاسير أهل النحو والإعراب ككتب الزجّاج، والواحدي، وأبي حيّان، وفيما يلي أعرض أجلّ ما ألف من التفاسير المأثورة، والتفاسير العقلية: ومن أهم كتب التفسير المنقول: تفسير ابن جرير: وهو تأليف الإمام العَلَم المجتهد أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري المتوفى سنة عشر وثلاث مائة ببغداد، قال الطبري: استخرتُ اللّه وسألتُه العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين، فأعانني، ثم تفسير ابن عطية: وهو للإمام العلامة شيخ المفسرين أبي محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي المتوفى سنة إحدى وأربعين وخمس مائة، ثم تفسير ابن كثير: وهو للإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القُرشي البُصروي الدمشقي المتوفى سنة أربع وسبعين وسبع مائة، وكتابه في التفسير من أحسن كتب التفسير بالرواية، فإنه فسّر القرآن الكريم بالقرآن وبأصح ما وصل إليه من الأحاديث وآثار الصحابة، وأقوال التابعين ومن بعدهم، وإن لم يخلُ من ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، ولم يزل كتابه مرجعًا للعلماء وطلبة العلم لشموله، ودقته وإتقانه وصحته. ومن أهم كتب التفسير العقلي: تفسير الكشاف: وهو لإمام العربية والنحو والبيان كبير المعتزلة أبي القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي، المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، امتاز تفسيره بما أودعه من دقائق البلاغة والعربية، والمعاني والبيان، والناس كلهم عيال على تفسيره في ذلك، ولولا أنه كدّر تفسيره ببدع الاعتزال، وتحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد لكان من أحسن التفاسير، ومع ذلك فإن العلماء لم يستغنوا عنه. قال الإمام ابن تيمية في الفتاوى 13/386: وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية، والقول بخلق القرآن، وأنكر أن اللّه مريد للكائنات، وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة.
والتفسير الكبير: هو لإمام الفلسفة والكلام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القُرشي الرازي المتوفى سنة ست وست مائة بهراة، قال السيوطي في الإتقان عن تفسيره: قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية، قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير.
قالوا: من علمك التفسير؟ قلت: شيخنا شهباز الإصلاحي، وشيخنا برهان الدين السنبهلي، وشيخنا محمد عارف السنبهلي الندوي، قالوا: ترجمهم لنا، قلت: قد ترجمت أولهم في مقالي (من علَّمك النظر)، وإليكم ترجمة الشيخين الآخرين:
الشيخ المفسر الفقيه الكبير محمد برهان الدين السنبهلي بن الشيخ المقرئ الطبيب الحافظ حميد الدين القاسمي، ولد في شهر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاث مائة وألف في سنبهل من الهند، وأخذ اللغة الأردية والفارسية وتحفيظ القرآن الكريم والتجويد والقراءة من أبيه، وتعلم في بعض مدارس قريته، ثم التحق بدار العلوم بديوبند، وتخرج فيها سنة سبع وسبعين وثلاث مائة وألف.
سمع الأبواب الأولى من (صحيح البخاري) على شيخ الإسلام حسين أحمد المدني، وأكمل (الصحيح) على الشيخ فخر الدين، و(صحيح مسلم) و(سنن الترمذي) على الشيخ إبراهيم البلياوي، و(حجة الله البالغة)، و(الحديث المسلسل بالأسودين) وشيئا من (مشكاة المصابيح) على الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي، و(سنن أبي داود) على الشيخ فخر الحسن، و(سنن النسائي) على الشيخ بشير أحمد خان، و(مشكاة المصابيح) على الشيخ جليل أحمد الكيرانوي، و(موطأ الإمام مالك) برواية محمد بن الحسن الشيباني على الشيخ ظهور أحمد العثماني، وشك في أخذ رواية يحيى بن يحيى عنه، و(شرح معاني الآثار للطحاوي) على السيد حسن، و(شمائل الترمذي) على الشيخ عبد الأحد، و(هداية الفقه) على الشيخ حبيب أحمد الإسرائيلي السنبهلي، والجزأين الأخيرين من (الهداية) على الشيخ معراج الحق.
وأجازه العلامة المحدث محمد زكريا الكاندهلوي بعد أن قرأ عليه الرسائل الثلاث (الفضل المبين) و(الدر الثمين) و(النوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر) كما أجازه الشيخ محمد طيب القاسمي، والشيخ ظهور أحمد العثماني، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ السيد فخر الحسن، والشيخ بشير أحمد، والشيخ محمد جليل الكيرانوي، والشيح السيد حسن والشيخ عبد الأحد الديوبنديان.
وقام بالتدريس في المدرسة العالية العربية في فتحبوري من دهلي لمدة عشر سنوات، ثم انضم إلى هيئة التدريس في دار العلوم لندوة العلماء سنة تسعين وثلاث مائة وألف.
أخذت عنه تفسير القرآن الكريم من سورة الفاتحة إلى سورة المائدة، وأجزاء من صحيح مسلم، وحجة اللّه البالغة للإمام ولي اللّه الدهلوي، وكتب لي بإجازته العامة في التفسير والحديث والفقه في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة وألف.

والآخر هو الشيخ العالم المفسر المتكلم المناظر محمد عارف السنبهلي، ابن أخي العلامة الكبير محمد منظور النعماني، تخرج من دار العلوم لندوة العلماء، ودرَّس في بعض مدارس مهاراشترا، وفي جامعة الرشاد بأعظمكراه، ثم استدعاه شيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي إلى دار العلوم لندوة العلماء، وفوض إليه تدريس التفسير والعقيدة.
تميز على أقرانه بحبه للقرآن الكريم، وتفسيره له مركزا على شرح توحيد الله في أسمائه وصفاته وأفعاله أشد التركيز، مسهبا في تجريده وتنقيته من كل إحداث وابتداع وسوء فهم، والكشف عن معنى الشرك وأنواعه ومخاطره إسهابا، ومتجنبا التوسع في المسائل اللغوية والنحوية والصرفية ووجوه البلاغة والبيان والإعجاز والأحكام الفقهية الفرعية، وبعيدا عن الإسرائيليات والأمور الكلامية النظرية البحتة أشد البعد، وكان معنيا بترسيخ حب كتاب الله تعالى وذوق الاستفادة من معارفه وعلومه في الطلاب، وكانت له رغبة شديدة في نقل الفهوم والمطالب التي فتح الله بها عليه في التفسير وعلوم القرآن إلى الطلبة وعامة الناس.
وعرف بخطابته ومناظراته وتصلبه في عقيدة التوحيد وإنكار البدع والمنكرات ومحدثات الأمور وتفظيعها وتقبيحها والتصدي لها بالرفض والمعارضة، وله كتاب في الرد على زوار القبور الغالين في حب الأولياء والصالحين وتقديسهم تقديسا لا ينبغي للمخلوقين، صدرت له عدة طبعات، وكان كتاب (تقوية الإيمان) للشاه إسماعيل الشهيد من أحب الكتب وآثرها لديه.
وكان متحليا بمعالي الأمور ومكارم الأخلاق من حب الصالحين، وشظف العيش، والبساطة في المأكل والمشرب والملبس، والزهد، والعفاف، والتواضع، وإنكار الذات، والبعد عن التكلف.
توفي في الثالث عشر من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة وألف، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه.

(المصدر: رابطة خريجي ندوة العلماء – الهند)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى