مقالاتمقالات مختارة

من ضيق الدنيا إلى سعة الكهف

من ضيق الدنيا إلى سعة الكهف

بقلم د. سيرين الصعيدي

سورة الكهف من السور التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم على أفضليتها، فكانت تلاوتها في كل يوم جمعة وهو أفضل الأيام عند الله من السنن التي يواظب المسلم عليها، وما ذلك إلا لعظيم أثرها وجليل أمرها فقد قال صلى الله عليه وسلم: “من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين” (رواه البيهقي).

وجاء في سورة الكهف أربع قصص من قصص السابقين حيث تمثل كل قصة فتنة قد تعرض للإنسان في مسيره إلى الله ومواقف شخوص القصة اتجاه هذه الفتن وتعاملهم معها، فقد تناولت القصة الأولى فتنة الدين والصبر عليها، ثم تناولت القصة الثانية فتنة المال والنعم وكان مدار القصة الثالثة فتنة العالم والتواضع ومن ثم جاءت القصة الرابعة لتتناول فتنة السلطة.

جاءت هذه القصص لتذكرنا في سنة الله في خلقه وتمايزهم بناء على مواقفهم وسلوكهم في كيفية التعامل مع هذه الفتن والخروج منها مخلَصين مخلِصين لله تعالى، فتهيب في كل منا حسب ابتلائه على الثبات والمضي على خطاهم واقتفاء أثرهم.

ونقف في هذا المقال على القصة الأولى التي تناولت فتنة الدين والصبر في سبيل الله، فتية تفردوا في زمانهم بإيمانهم في وقت ساد فيه الكفر والكافرون فضاقت بهم الحياة على اتساعها، ففروا إلى كهف يمارسوا به حرية اعتقادهم، وقد يحدث أن تضيق الدنيا بأسرها على المرء عندما يجد نفسه بين قوم ضلوا السبيل ولا رجاء ولا أمل في أوبتهم فتصبح الحياة كما عنق الزجاجة تضيق بها أنفاس المخلصين يبحثون عن سعة تليق بما تنضوي عليه قلوبهم وأفكارهم من معتقد ومنهج قويم، فما السعة ولا بحبوحة العيش في اتساع المساحة ولا في الأموال ورغد العيش إنما بفضاء يتسع لمعتقدك أن يعانق النور وينطلق بقلبك وفكرك نحو السماء متحررا من أثقال الأرض ولو كان ذلك في زنزانة في ليلة ظلماء باردة.

يحدث أن تضيق الدنيا بأسرها على المرء عندما يجد نفسه بين قوم ضلوا السبيل ولا رجاء ولا أمل في أوبتهم فتصبح الحياة كما عنق الزجاجة تضيق بها أنفاس المخلصين يبحثون عن سعة تليق بما تنضوي عليه قلوبهم وأفكارهم من معتقد ومنهج قويم

كثيرة هي المعالم ومشاعل النور في سورة الكهف التي تضيء دروبنا ما بين الجمعتين لتصبح حياتنا كلها على نور من الله إن عقلنا وتدبرنا واتخذناها منهجا ونبراسا، إذ تضرب لنا مثلا بأولئك الفتية الذين وقفوا على مفرق من الطرق طريق الإيمان وطريق الكفر، المفرق نفسه الذي يعترض البشرية منذ اللحظة الأولى لوجودها إيمان أو كفر ولكلٍ حرية الاختيار، والخطوة الأولى مرهونة بصاحب القرار والاختيار، فما كان من الفتية إلا أن اختاروا خطواتهم بعناية ورشد ووضعوا أولى الخطوات بثبات وقد أقبلوا على الله بمحض إرادتهم واختيارهم، لنتلقى بذلك أول الدروس على مائدتهم وهو أنّ من أراد المعونة والتثبيت والتأييد من الله لا بد أن يسبق ويخط أولى خطاه ويظهر لله منه الاستعداد والتحمل ، فما عليك إلا أن تضع الخطوة الأولى ومن ثم ينشر الله عليك رحمة من لدنه ويمددك بمدد من عنده.

نعم، طريقان لا ثالث لهما في هذه الحياة طريق الكفر والدعاة على رأسه خليط من شياطين الإنس والجن يدعون إلى النار، وطريق الإيمان بالله وله دعاته يدعون السائرين إلى المغفرة والرضوان والجنان، وأنه لا بد من الاختيار بينهما إذ لا مساحة للحياد والاكتفاء بالمشاهدة فأنت أمام خيارين لا ثالث لهما حتى إذا وقع اختيارك والذي عادة ما يكون نابعاً من قناعتك وإيمانك به كان لزاماً عليك أن تسعى في ركابه وتبذل حياتك جندياً فيه حسب طاقتك وسعتك محتسباً صابراً، ثم لا بد أن تتحول قناعاتك إلى سلوكيات عملية لا مجرد نظريات فكرية أو خفقات قلبية .

وعندما نفر من ضيق الدنيا إلى سعة الكهف نتعلم الارتباط الوثيق بالله وأنه سبحانه المرتجى بالشدائد والملمات، فلا يكفي أن تختار طريق الصالحين وتسلكه كما لا يكفي أن يمتلئ قلبك بالإيمان إذ لا بد من ركن تلوذ به ليربط على قلبك تماما كما لجأ فتية الكهف إلى الله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، وهب أن بحوزتك جواهر نفيسة أو سلعة غالية أتراك تتركها دون أن تحكم إغلاق الوعاء عليها، وهذا قلبك وعاء متى امتلأ بالإيمان كنت أغنى الأغنياء وأشد حاجة وقتها لمن يربط على هذا القلب ويثبته أمام المحن ويحفظ عليه إيمانه الذي امتلأ به، وبعد اللجوء إلى الله والاستغاثة به يأتي المدد: {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14].

يقول الشيخ صلاح الخالدي معلقاً على هذه الآية: “معنى ربطنا على قلوبهم: ثبتناهم على الإيمان، فثبتوا عليه في شدة وعزم وصبر وتصميم…وهذه القلوب التي اختارت الإيمان والهدى، يخشى عليها أن يتسرب منها ذلك وسط فتنة القوم الكافرين، فربط الله على تلك القلوب، ليحفظ الإيمان والهدى داخلها” (مع قصص السابقين).

وثمة قضية لا بد من تناولها في هذا المقام ألا وهي العزلة التي اختارها أولئك الفتية حيث اعتزلوا قومهم وفروا بإيمانهم وهنا قد يتبادر لأحدنا في وقت تضيق به الدنيا بما وسعت وهو يرى ما ينال أبناء دينه من فتن وخطوب وويلات ويتساءل هل يجوز أن تقتدي بعزلة هؤلاء الفتية، فيعتزل القابض على دينه منا مجتمعه بما فيه من فسوق ومخالفات شرعية لا ينكرها عاقل، فلا يخالط أحد بل يمكث في عقر داره أو يستقر في شعب الجبال؟!

ويجيب على هذا التساؤل الدكتور صلاح الخالدي بأنه لا يجوز للمسلم أن يعتزل الناس عزلة مادية حسية، لا يتصل بهم ولا يخالطهم ولا يدعوهم ولا ينصحهم  لأن ثمة فروق بين واقعنا وواقعهم ومن هذه الفروق:

1.لأهل الكهف شرع غير شرعنا.

2.شرعنا صريح في منع العزلة، وفي وجوب التبليغ والدعوة ومن الآيات الآمرة بذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67].

3. الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا على مخالطة الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” (رواه ابن ماجه).

4. الواقع الذي نعيشه يختلف عن واقعهم الذي كان، فقد كانوا بين قوم كافرين ونحن غالبا نعيش بين المسلمين.

وخلاصة الأمر عليك واجب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تبلغ الناس أمر ربهم وتوضح لهم الطريق المستقيم وأن تخالطهم ضمن حدود لا تسمح لأي شيء وأي كان أن يتخطاها وينال من دينك، فتعتزل بشعورك وفكرك وقلبك عن منكرات القوم فإن خالطتهم ضربت حول نفسك سياجاً شعورياً تتقي فيه فإن لم يتأثروا بك فلا أقل من مناعة تحميك فلا تتأثر بهم أنت.

عليك أن تعتزل بشعورك وفكرك وقلبك عن منكرات القوم فإن خالطتهم ضربت حول نفسك سياجاً شعورياً تتقي فيه فإن لم يتأثروا بك فلا أقل من مناعة تحميك فلا تتأثر بهم أنت

ويعقب القرآن الكريم على هذه القصة تعقيبا يلامس صميم حياتنا فيذكرنا بل يأمرنا الله أن نكون من الصالحين ونلتحق بركابهم ونصبر أنفسنا معهم في درب الصلاح المحفوف بالمكاره والعثرات، فقد قال جل شأنه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، ويحذرنا من عاقبة تجاوز المقبلين على الله الداعين له واتباع وطاعة الذين شغلتهم الحياة الدنيا عن عبادة الله، فهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم هم ومن تبعهم إلى ضياع وخسران.

ويوضح لنا التعقيب الرباني على هذه القصة أنّ للإنسان حرية اختيار الكفر أو الإيمان وكل طريق تختاره وتسلكه له جزاء يوافقه، فإن كان الناس برهم وفاجرهم ظالمهم ومقسطهم يشتركون بالحياة وزخرفها إلا أن المصير النهائي يختلف لكل فريق فإما جنان وسرور وحبور أو نيران وعذاب مقيم وشتان بين زهرة الدنيا وزينتها وبين نعيم الآخرة وديمومتها وخلودها.

وأخيرا اجعل من سورة الكهف كهفك الذي يفيض رحمة على قلبك وروحك تلوذ به من ضيق الدنيا وتتخفف في فسحته من أعباء تثقل كاهلك ويذكرك دائما بامتدادك للسابقين وأنك بداية انطلاقة للآخرين في الصراع بين الحق والباطل والمستمر ما استمرت الحياة، فنتأسى بخطوات الذين مضوا يحملون راية التوحيد فوق هاماتهم شامخين بها لا يضرهم من عاداهم فنستقي من موائدهم دروس التضحية والثبات، وكلما ضاقت الدنيا بك واجتاحتك مشاعر الغربة بالحق الذي بين جنبيك وحاول الوهن أن يتسلل لنفسك والفتور إلى قلبك، كلما وجدت نفسك على شفا التأثر ومجاملة الآخرين على حساب دينك فرّ بإيمانك لسعة الكهف واعتزل شعوريا كل ما يحيط بك أو يحاول أن ينال من معتقدك دون أن تنسى واجبك نحوهم بالأمر في المعروف والنهي عن المنكر.

كن بكهفك النور الذي يضيء دروب الآخرين كما أضاءت لك الكهف مابين الجمعتين في عمرك، وتذكر مآل الأمور في قصص السابقين والنتيجة النهائية في حلبة الصراع بين الحق والباطل إذ لا يأس ولا قنوط وإن تكاثفت الظلمات من حولنا لتطفئ نور الله فلله جنود لا نحيط بهم علما يسخرهم لنا ويمددنا بهم إن صدق منا العزم وخلصت النيات.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى