من الفطنة سوء الظن !
بقلم د. موفق السباعي
إن سوء الظن بالناس، ليس حسناً على الإطلاق، وليس سيئاً أيضاً على الإطلاق! فالحياة تتطلب تارة سوء الظن، وتارة أخرى حسن الظن.
فسوء الظن بالناس جميعاً، وبكل ما يبدر منهم من تصرفات، وأعمال، غير حسن؛ وعمل غير صلح. لأنه يولد عدم الثقة بين الناس؛ ويؤدي إلى تعطيل الأعمال؛ ويصبح الناس في تيه، وضَياع؛ وشك وارتياب!
كما ويمزق الروابط الاجتماعية؛ ويخلق نوعاً من الجفاء بين الناس، فتنعدم الألفة؛ والمودة؛ والمحبة بينهم؛ ويزول الصفاء من النفوس، فيحل محلها الغِلُ، والشحناء؛ والبغضاء؛ وتمتلئ القلوب بالشكوك؛ والريبة؛ والهواجس؛ والوساوس؛ ويصبح الناس خائفين من بعضهم البعض، لا يطمئن واحد منهم للآخر.
وبالمقابل فإن حسن الظن بجميع الناس، وفي كل الأوقات، غير سليم أيضاً، لأنه يؤدي إلى الوقوع في الخداع، والتضليل، والغش؛ والنصب؛ والاحتيال، كما ويشجع الفاسدين، على استغلال طيبة الناس؛ وبساطتهم؛ وسذاجتهم؛ وثقتهم بهم، لإيقاعهم في أحابيلهم؛ وشباكهم التي ينصبونها، ليتصيدوا بها المغفلين، والطيبين، للاحتيال عليهم – سواء كان في قضايا تجارية، أو قضايا فكرية – ولترويج بضائعهم الفاسدة مادياً، أو خُلقياً، أو دينياً، أو فكرياً، أو سياسياً.
إن نتائج حسن الظن مع كل الناس، برهم وفاجرهم، صالحهم وطالحهم، وفي كل الحالات، وفي كل الظروف، دون تمييز؛ ولا تفريق بين حالة وأخرى، وبين إنسان وآخر، لهي أخطر وأسوأ بكثير من سوء الظن، وخاصة في القضايا الدينية؛ والفكرية، والسياسية.
لأن أساطين الغش؛ والاحتيال؛ والخداع يضعون خططاً جهنمية؛ وخبيثة؛ وماكرة.. لاستغلال طيبة الناس؛ وبساطتهم؛ وغفلتهم، وانتهاز ضعف وعيهم، وإدراكهم، وقلة علمهم بكل الناس، وقلة معرفتهم بما يجري على الأرض من أحداث، لما يُخطط لهم وراء الكواليس، وفي الغرف المظلمة، بسبب انشغالهم بتأمين لقمة العيش لهم ولعوائلهم.
ودائماً! أصحاب القلوب المريضة؛ والضمائر الفاسدة؛ والأفكار المنحرفة.. يتمتعون بقدرة عالية من الدهاء؛ والمكر؛ والخداع؛ والاحتيال؛ والرَوَغَان كما يَروغ الثعلب.
وحتى يتمكنون من اقتناص فرائسهم، واصطيادها بسهولة بالغة.. يضعون خطة ماكرة طويلة الأجل، بحيث لا تنكشف إلا بعد عمر مديد، فيتظاهرون في البداية، بثوب قشيب وحلو وجميل، وكلام منمق معسول، وصوت جَهْوَري رنان، يصدح بألحان عذبة جذابة، وكلمات جَزْلة مترادفة، ومتناسقة بصنعة بديعية، ومؤثرة!
ويتظاهرون ابتداءً! بأنهم من المُصلحين الأتقياء، الأنقياء، الغيورين على الإسلام، ومن الدعاة إلى الله، ومن المجاهدين في سبيل الله، باللسان، والقلم، والقرطاس! فينتقون المواضيع المُحَببة إلى العامة، والمؤثرة فيهم، فيجذبونهم؛ ويغسلون عقولهم تماماً، ويُفرغون قلوبهم من حب سواهم.
ومن ثَمَ! يسيطرون على سلوكهم، وعلى أفكارهم، ويوجهونهم في الطريق الذي يريدونه، دون أي اعتراض من التابعين، فيحصلون على ولائهم، وطاعتهم، وانقيادهم!
ومن ثَمَ! يتحكمون في تصرفاتهم، وحركاتهم، كما يتحكم الشيخ في مريديه، أو كما يتحكم مُغَسِل الموتى، في موتاه، إلا قليلاً منهم!
وهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَیۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن یَقُولُوا۟ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبࣱ مُّسَنَّدَةࣱۖ یَحۡسَبُونَ كُلَّ صَیۡحَةٍ عَلَیۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴾ [المنافقون ٤].
ومن الملاحظ تاريخياً، وواقعياً، وعملياً، وتجريبياً، واجتماعياً.. أن الذين يتقنون فن الخطابة، والكلام الارتجالي، والبلاغة الفصيحة، بألفاظ جَزْلةٍ! يميلون إلى الخداع، والتضليل لعامة الناس، وفي الوقت نفسه! الانبطاح والخنوع، والرضوخ، لذوي الجاه والسلطان، والحكم والأهواء، إلا قليلاً منهم!
وبعض الناس الطيبين! يصفون أولئك.. بأنهم أذكياء! والحقيقة ليست كذلك، إذ إن الذكي هو: الذي يعمل لمصلحته المستقبلية البعيدة، التي تعود عليه بالنفع الدائم، والباقي، وليس لمصلحته القريبة، والحصول على المنفعة المؤقتة، الزائلة!
وهؤلاء – في حقيقة عملهم – يكرسون حياتهم، ويفنون أعمارهم، كادحين ومناضلين، ومكافحين.. ليعيثوا في الأرض، والعقول، والقلوب، فساداَ! لكي يحصلوا على لُعاعةٍ من الدنيا الزائلة، ويستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو خير، فهم ليسوا أذكياء، ولا حكماء.. بل هم بلهاء وحمقى!
والذكي هو: الحصيف، والحكيم، وكما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، بالكَيِّس، كما جاء في الحديث عن شداد بن أوس ( الكيِّسُ من دان نفسَه ، وعمِل لما بعدَ الموتِ ، والعاجزُ من أتْبعَ نفسُه هواها ، وتمَنَّى على اللهِ الأمانيَّ ).
وبناءً على هذه المقدمة! فقد قالت العربُ قديماً: من الفطنة سوء الظن.. وهذا من الحكم الرائعة، البديعة، العملية.
لكن مع الانتباه الشديد! إلى أنه لا يُطبق على كل الناس، بشكل عشوائي، واعتباطي، وبشكل مطلق، ولا محاسبتهم على ما في قلوبهم، وعلى نياتهم! فهذه الأمور، لا يعرف عنها، إلا علام الغيوب.. وإلا حصل المحذور الذي ذكرناه في البداية، وإنما يُطبق بشكل محدد، وفي أنواع معينة من البشر.
ضوابط سوء الظن
1- يُطبق على الأشخاص الذين يكشفون عن حقيقتهم – سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر – ويُظهرون مخالفتهم، ومعارضتهم بشكل واضح – لا لُبس فيه – لما كانوا تحدثوا عنه، ودعوا إليه، في بداية مسيرتهم، من الدعوة إلى الإسلام، وإلى المبادئ والقيم الخلقية، المرتبطة به، بحماس لا نظير له!
2- فبمجرد ظهور التناقض، والتعارض الواضح مع أساسيات المنهج الإسلامي، لدى أي واحد منهم، يجب فوراً التشكك والارتياب به، ووضع إشارات، واستفهامات، وتساؤلات عن طبيعة هذا التغير والتحور! لكن قبل إساءة الظن به!
3- وهل – يا ترى – حصل هذا نتيجة الجهل، وعدم الوعي، أو نقص في المعرفة، أو خطأ في الاجتهاد، أو خطأ في التصور، أو سوء فهم للفكرة التي طرحها على الملأ؟!
4- فإن تبين بعد مناقشته، ومحاورته، ونصحه، أنه بريء النية، صافي القلب، والسريرة، ولا يُضمر أي رغبة في المخالفة، وتراجع عن خطئه – فوراً وبدون أي تلكؤ – بمجرد نصحه، واعتذر، وتاب إلى الله تعالى، فيُقبل عذره، ويُغلق الموضوع نهائياً.
5- ولكن إن عاند، وجادل بالباطل، واستكبر، وطغى، وأخذته العزة بالإثم، أو قام بعملية التفاف ودوران، ومراوغة، وتبديل لبعض الكلمات، لخداع عامة الناس، مع الإبقاء على جوهر المخالفة – كما هي – وأصر وصمم على موقفه المخالف، وأخذ يبرر انحرافه، ويأتي بالأدلة الضعيفة، والواهنة، والهزيلة، والمجتزأة من النص الكامل، لتدعيم موقفه، وترسيخ، وتثبيت رأيه واعتقاده..
6- فهذا يجب وجوباً قطعياً، إساءة الظن به، وتوجيه أصابع الاتهام له بالانحراف. وخاصة إذا كان يعمل على تشكيك المسلمين في دينهم، ونزع اليقين من قلوبهم، بأنه هو الحق المبين، والوحيد الأوحد على وجه الأرض، ووضع المسلمين والكافرين في مستوى واحد، وجواز دخول الجنة للجميع!
7- وفي هذه الحالة! يجب تحذير الناس من خطره، ومن فساده العقدي، وضرره الشديد على عقول الناس، وخاصة الناشئة منهم، والمتابعين له، وتبيان حقيقته، كما وصفه الله تعالى ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یُجَـٰدِلُ فِی ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ وَلَا هُدࣰى وَلَا كِتَـٰبࣲ مُّنِیرࣲ﴾ [الحج ٨]. ووصف أمثاله، بأن لديهم كِبرٌ وغطرسة ( إِنَّ ٱلَّذِینَ یُجَـٰدِلُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَیۡرِ سُلۡطَـٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِی صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرࣱ مَّا هُم بِبَـٰلِغِیهِۚ ) غافر 56.
8- والخطير في الأمر! أن الله تعالى، قد حكم، وقرر حقيقة واضحة جلية للعيان، بأنه لا يجادل في آيات الله، إلا الذين كفروا ( مَا یُجَـٰدِلُ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ كفروا ) غافر 4. ويعلق على هذه الآية القرطبي فيقول: ﴿ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ سَجَّلَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِالْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ، مِنَ الطَّعْنِ فِيهَا، وَالْقَصْدِ إِلَى إِدْحَاضِ الْحَقِّ، وَإِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر 5.
9- ويظهر بين الفينة والأخرى، بعض الأشخاص ذوي الشهرة الكبيرة، في الإنتاج العلمي، والفكري الكثير، يحمل فكراً شاذاً منحرفاً، يتجلى بالعمل على ترويض الإسلام، أو تهجينه، أو تدجينه، أو محاكاته للفكر البشري – سواء كان غربياً، أو شرقياً، أو يسارياً، أو تحررياً، أو إلحادياً، أو رافضياً – فيقوم بنشر شذرات من الأفكار الشاذة المنحرفة، عبر الوسائل الإعلامية المختلفة، لكي يكون الإسلام مقبولاً، ومنسجماً مع العقائد الفاسدة المتوارثة، لدى البشر – سواء كان لها أصل سماوي، أو أرضي – فيدس السم بالعسل، فلا يشعر به إلا أولو الألباب.
11- يعني بصريح العبارة، فإنه يتهم الله تعالى بالطغيان – سبحانه وتعالى عما يصفون – لأنه هو الذي أعلن: أن كتابه ودينه، هو الحق المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأمر المسلمين بالتمسك به، وعدم الشك والريبة بأنهم، على الحق، وقرر أن سواهم يقيناً على الباطل.
12- وهذه بعض الآيات القرآنية، التي تؤكد؛ وتثبت بشكل قاطع، تلك الحقيقة الخالدة، الثابتة، الدائمة دوام الله الذي لا يفنى؛ ولا يموت:
أ- ﴿ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ ﴾ [البقرة ١٤٧].
ب- ﴿ لِیُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَیُبۡطِلَ ٱلۡبَـٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ﴾ [الأنفال ٨].
ج- ﴿ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ﴾ [التوبة ٣٣].
- ( فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَـٰلُۖ ) يونس 32. ه- ( وَأَتَیۡنَـٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ ﴾ [الحجر ٦٤].
- ﴿ وَقُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا ﴾ [الإسراء ٨١].
- ( ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَـٰطِلُ ) الحج 62.
ح- ﴿ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِینِ ﴾ [النمل ٧٩].
- ( ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱتَّبَعُوا۟ ٱلۡبَـٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبَعُوا۟ ٱلۡحَقَّ مِن رَّبِّهِمۡۚ ) محمد 3.
13- هذه تسع آيات بينات، تتحدث كلها عن، أن المسلمين، هم الوحيدون على الحق، وأن الكافرين الذين رفضوا التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ والدخول في دينه، هم على الباطل، حتى ولو زعموا، أنهم يؤمنون بالله واليوم.. فدعواهم كاذبة، وغير مقبولة عند الله تعالى، طالما لم يدخلوا في الإسلام، الذي هو الدين الوحيد المقبول عنده.
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران ٨٥].
14- فمثل هذا الرجل! يجب وجوباً شرعياً، وخُلقياً، على كل من يزعم أنه مسلم، أن يُسيئ به الظن، وبأنه يعمل جاهداً على تشكيك المسلمين في دينهم، ونزع اليقين من قلوبهم، بأنهم على الحق، ومحاربة الله، بتكذيب آياته، والاعتراض على حكمه، بأن الكافرين هم على الباطل – سواء كان من تلقاء نفسه، أو بطلب من جهات معادية للإسلام، تريد تحوير الإسلام، وتقزيمه، وتعتبره أفضل شخص، يستطيع تحقيق ذلك، بما يمتلك من مكانة مرموقة، لدي عدد غير قليل من المسلمين -.
15- هذا عدا عن انحرافاته الكثيرة، في اعتراضه على أحكام عديدة، قضاها وأبرمها الله ورسوله.
(المصدر: رسالة بوست)