من الصين إلى المطبعة الأوروبية.. كيف نقل المسلمون أسرار صناعة الورق ومهدوا لثورة الطباعة؟
بقلم عمران عبدالله
كانت الصين تحتفظ بسر صناعة الورق، لكن مع تقدم الزمن نقل المسلمون التقنية الصينية وطوروها لتصبح صناعة كبرى، ولعبوا الدور الأكبر في تعميم هذه الصناعة ونقلها إلى أوروبا، مما مهد الطريق لثورة الطباعة.
قبل صناعة الورق كان البشر يكتبون على الألواح والأواني الفخارية والحجارة وعظام الحيوانات وأوراق النباتات والجلود والرق، وصنع السومريون في جنوب بلاد ما بين النهرين أقراصا طينية وتركوها تجف للكتابة عليها.
من ناحية أخرى، طور المصريون القدماء الكتابة على لحاء نبات البردي الذي انتقل منها لليونان وإيطاليا القديمة.
في المقابل، كانت الصين تحتفظ بسر صناعة الورق، لكن مع تقدم الزمن نقل المسلمون التقنية الصينية وطوروها لتصبح صناعة كبرى، ولعبوا الدور الأكبر في تعميم هذه الصناعة ونقلها إلى أوروبا، مما مهد الطريق لثورة الطباعة.
وبالقرب من نهر طلاس في جمهورية قرغيزستان الحالية اصطدم جيش القائد العباسي أبو مسلم الخراساني بجيش صيني في المعركة التي عرفت باسم النهر عام 751 م، وبعد المعركة انتشر الإسلام في منطقة آسيا الوسطى التي جاء منا علماء كبار مثل البخاري والترمذي، وأيضا أسر المسلمون صناع ورق صينيين مهرة وجرى نقلهم إلى مدن إسلامية، وكشفوا بدورهم عن أسرار صناعة الورق.
وكان الصينيون يصنعون الورق من سيقان البوص ومن ألياف نباتية، بينها البوص والبامبو وخرق بالية تجري معالجتها لتكون أوراقا مرنة يمكن الكتابة عليها.
سر الشرق
يعود اختراع صناعة الورق في الصين لعام 105 م عندما استخدم الصينيون أليافا نباتية بطريقة رخيصة وفعالة، ومع ذلك اقتصر هذا الاختراع الاستثنائي على مكان مولده لأكثر من ستة قرون قبل الشروع في رحلته الطويلة والشاقة نحو الغرب.
ومن المحتمل جدا أن الصينيين أبقوا على صناعة الورق سرا من أسرار الدولة، حيث تم اختراعه في الأصل من قبل أحد كبار المسؤولين في القصر الملكي، وقد يفسر ذلك الفترة الطويلة (حوالي 650 عاما) التي استغرقها الورق للوصول إلى قاموس أوكسفورد الكلاسيكي، بحسب الكاتب والأكاديمي بجامعة ييل عبد الواحد الحناوي.
وعلى الرغم من أن إنتاج وبيع ورق البردي المصري ظل يخضع لضوابط وسيطرة حكومية صارمة فإنه لم يكن لدى الحكومات في مصر ما تخشاه، فقد كان ورق البردي نباتا أصليا في مصر فقط، وبالتالي حتى لو كان سر تصنيعه معروفا لدى الشعوب الأخرى فلن يكون بمقدورها توفير مواده الخام، وقد حاول الخليفة العباسي المستعصم إدخال صناعة ورق البردي في عاصمته الجديدة سامراء نظرا للاضطرابات المتكررة في مصر القرن التاسع الميلادي لكن هذه المحاولات لم تؤت ثمارها، بحسب دراسة الحناوي المنشورة في دورية رابطة مكتبيي الشرق الأوسط.
أما بالنسبة للاختراع الصيني فالحالة مختلفة بحسب دراسة الحناوي، فالمواد الخام اللازمة لإنتاج الورق متوفرة في كل مكان، وطريقة إنتاجها تسهل تعلمها والتدريب عليها.
وعندما أُسر صانعو الورق الصينيون ساهموا بإنشاء أول معامل لصناعة الورق في سمرقد، وبعد ذلك بفترة قصيرة انتقلت صناعة الورق لخراسان، وهكذا تعلم العرب فن صناعة الورق رغم أنه من المحتمل أن يكونوا قد أحضروا بعض الأوراق الصينية في وقت ما في القرن السابع الميلادي أو قبل ذلك عبر طرق التجارة التقليدية مع الشرق القديم أو عبر البحر بواسطة التجار والبحارة العرب.
وازدهرت مصانع الورق في أنحاء العالم الإسلامي، وفي بغداد عرف العرب صناعة ورقة أكثر سمكا، وأصبحت الطواحين التي تعمل بالطاقة المائية عاملا مهما في إنتاج الورق مبكرا، وجرى تصنيع الورق الدمشقي في الشام والحجاز بداية القرن الثامن الميلادي، وكذلك صناعة الورق من الكتان والقنب في المغرب العربي.
وفي القرن الثاني الهجري أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بالتوسع في إنتاجه بسمرقند واستخدامه في المجمعات العلمية والدواوين ببغداد لينهي استخدام الرق وورق البردي، وانتعشت صناعة الورق في عهد المنصور، ونقلها الخليفة هارون الرشيد إلى بغداد التي أنشأ فيها مصانع الورق بعد أن أثبتت فعاليتها.
هدية العالم الإسلامي
وفي كتابه “الورقة قبل الطباعة.. تاريخ وأثر الورق في العالم الإسلامي” يدرس أستاذ الفن الإسلامي والآسيوي في كلية بوسطن جوناثان بلوم دور المسلمين في صناعة الورق، ويقول إنه قد يكون اكتشف عن طريق الصدفة في الصين، لكنه سرعان ما أصبح معتمدا في الهيئات الحكومية والمحافل العلمية، إذ جرى خلال حكم سلالة تانغ للصين 618-906 استخدام الورق لتدوين آلاف الكتب.
ويقول بلوم إن الاحتكاك العسكري بين المسلمين في زمن الفتوحات المبكرة والصينيين في آسيا الوسطى هو ما عرف العرب والعالم بالورقة الصينية، لكن من المحتمل أيضا أن يكون الورق قد تحرك غربا لكن بدون انتشار واسع.
واستخدم الورق في الصين والعالم الإسلامي للتدوين لأغراض التسجيل الحكومي، واعتبر أقل عرضة للكسر أو الخدش، كما تمتع بمزايا امتصاص الحبر وصعوبة محو وتبديل ما كتب عليه، مما يجعله أفضل وسيلة لتدوين البيانات الرسمية وحفظها.
وعرف العرب بالحفظ والتقاليد الشفوية، فقد جرى تدوين القرآن والنصوص الدينية في وقت مبكر، وأسهم ذلك في نشأة الفن الإسلامي المبكر وتزايد أهمية الورق الذي جرى أيضا تدوين النصوص العلمية والرياضية والخطط المعمارية عليه.
وكنتيجة لتوفر الورق عرفت مهنة الوراقين والنساخين في الحضارة الإسلامية، حيث تمكن الخطاطون من الاستفادة من مزايا الورق في كتابة ورسم الخط العربي وأدخلوا الزخارف وطرق التزيين والتجليد والتذهيب، وهي العوامل التي تتضافر بمجملها لإنتاج المخطوطات العربية والإسلامية المميزة.
ويقول بلوم إنه جرى تجاهل الإسهام الإسلامي الكبير في نقل الورق لأوروبا التي كانت جاهلة بالورق حتى القرن الـ13، ومع ذلك ضعفت صناعة الورق في العالمين العربي والإسلامي، وانتهت فعليا بحلول القرن الـ16 بعد أن انتقلت من الصين إلى غرب آسيا الإسلامي وشمال أفريقيا العربي، ومنها للأندلس وصقلية والأناضول.
ويستكشف بلوم تأثير الورقة على تطور الرياضيات والموسيقى والفن والهندسة المعمارية وحتى الطبخ، ويناقش لماذا كانت أوروبا سريعة في تبني الورق من الأراضي الإسلامية، ولماذا كانت البلاد الإسلامية في المقابل بطيئة للغاية في قبول الطباعة.
(المصدر: الجزيرة)