من الرابح الحقيقي من فتح الأندلس.. المسلمون أم الأوروبيون؟
بقلم عبد الكريم بولعيون
كثير من الشعراء والكتّاب تأسفوا على ما صارت عليه حالة الأندلس بعد استرداد القوات القشتالية لجميع الأراضي من يد المسلمين في القرن 14م، بعد ما قضوا هنالك قرابة ثمانية قرون، ولنا في شعر ابن عبدون أروع الأمثلة في الرّثاء الموسوم بالأسى على مآل الأندلس؛ وما زال الأمر مستمرا لغاية الآن، حيث يتم استرجاع ذكريات ذلك الزمن الخالد، زمن تحقيق الانتصارات وما لحقه بعد ذلك من انهزامات.
إن ما يغلب على هذه الكتابات عموما انقسامها إلى وجهتي نظر مختلفة، فرأيٌ يُحمّل المسؤولية للموحّدين لانهزامهم في “معركة العِقاب” وما أعقب ذلك من تجزؤ وتوسّع لسيطرة الجيش المسيحي على بقية المناطق الإسلامية، لتبدأ بعدها نهاية الحكم الإسلامي داخل الجزيرة الإيبيرية، ورأي يذهب إلى انتقاد القصّة منذ بدايتها، فلو أنه لم يتمّ الشروع في كتابتها أول مرّة مع الفاتح طارق بن زياد باتخاذ قرار النّزال في معركة الحسم “برباط” ومن ثم فتح الأندلس، معتبرا أن هذا الخطأ التاريخي كارثة أخلاقية كان من الممكن أن نتفاداها.
ويظهر الانقسام في وجهة النظر عند الحديث كذلك عن مبررات هذا الدخول، حيث يذهب اتجاه إلى أن الدّاعي في خوض معركة الفتح هو الظّلم الذي لحق بالشعب الإيبيري جرّاء احتلاله من قبل القوطيين، مما حذى بالمسلمين بدافع نصرة المظلوم وتحقيق العدل إلى التدخل العسكري، خصوصا مع تواجد أطراف نزاع منافسة للسلطة الحاكمة التي استدعت دخول القوات المسلمة إلى شبه الجزيرة؛ و يذهب طرف آخر إلى انتقاد هذه المبررات معتبرا إيّاها واهية، لأن الهدف من وراء ذلك غايته التوسع والاغتنام بكل الوسائل المتاحة ليس إلاّ، إن الأمر يتعلق باحتلال واستعمار حسب نفس الرأي.
في رأينا يمكن القول، أن وجهات النظر السابقة ناقشت قضية الفتح الإسلامي من حيث جوازه أو عدم جوازه شرعيا وأخلاقيا، لتظهر كما رأينا وجهتين من النظر مختلفتين بين من يؤيد ومن يعارض؛ في حين أن ورقتنا هذه ستكون بعيدة شيئا ما عن هذه النظرة الأخلاقية والشرعية، رغم أهمية الأخيرة في مجال السياسة الشرعية. فنحاول أن نطرح القضية من منظور آخر، سنتساءل فيه من منطلق واقعي عن مدى استفادتنا “نحن” من فتح الأندلس. بمعنى آخر، بعد ستة قرون تقريبا من نهاية الحكم الاسلامي بالأندلس، هل نحن نعيش الآن على بركات وحسنات هذا الفتح، أم أننا منذ ذلك الحين – أي بعد نهاية الحكم الاسلامي – عشنا وما زلنا نعيش آثارا سلبية؟ أو لنقل بصريح العبارة، من استفاد بالضبط من الفتح هل المسلمون أم الغرب؟
إن بهذا الأسلوب ستتضح لنا الصورة بكل موضوعية، بعيدا عن كل انفعالات الذات واضطرابات العاطفة، لوضح الحدّ أمام كل تخبط في الرؤية، وحتى لا تستمر أزمانا أخرى طالما لم نفهم الواقع بوضوح! لذلك لسنا هنا بصدد مناقشة شرعنة الفتوحات الإسلامية من عدمها، وإنما من منطلق “برغماتي” أو “نفعي” نحاول أن نقدّر الربح الذي ناله المسلمون من فتح الأندلس.
من وجهة نظري، أعتقد أن ما خسرناه وما نخسره نحن المسلمون الآن، لا يُقدر بثمن مقارنة مع ما ربحه الآخر الأوروبي من فتح الأندلس؛ ولنا في ذلك مجموعة من الاعتبارات والحجج:
أولا: إن دخول الإسلام إلى شبه الجزيرة الايبيرية ساهم في إيقاظ ذات حضارية كانت نائمة أو في طور الاحتضار، لتستجمع قوّتها من أجل خوض حرب ضروسة، لاسترداد ما تعتبره مُلكا تاريخيا لها وَقَع ضحية تدخّل لا مشروع من قبل القوات المسلمة، لذلك فكلّ ردّ فعل من جانبها مهما كان درجة جُرمه يعتبر مشروعا وسائغا، كظهور محاكم التفتيش وجرائم التصفية العرقية والدينية وتهجير المورسكيين؛ كما أن الحروب الصليبية ليس إلاّ تعبيرا عن انتقام تاريخي مبرّر؛ أضف إلى أن التوسّع الإمبريالي الحديث وجد مبررات كافية من التاريخ المتأزم والمشحون بالعنف والعنف المضاد لاغتصاب أراضي المسلمين.
ثانيا: لقد ساهم دخول الإسلام إلى أوروبا في إحياء هوية ثقافية قوامها المسيحية التي كانت جدّ منهكة حينها، لتنبعث من جديد في حلّة جديدة أكثر قوة وصرامة لِما أصبحت تعيش تحدّيا في مواجهة دين جديد وافد، وبالتالي هي مرغمة على تعبئة ترسانتها الفكرية والعلمية لتعلّم اللغة العربية وترجمة الكتب والتنقيب في تاريخ الإسلام استعدادا للّنيل من الإسلام ذاته وتشويه صورته بتلفيق اتهامات مختلفة كالزعم بهرطقته وعنفه…، إن هذه الصورة بقيت راسخة في مخيال المجتمع الغربي عبر التاريخ وما تزال مستمرة، حتى أصبحت مرجعا يفسّر بها بعض الفلتات والأخطاء التي يقع فيها المسلمون حاليا.
ثالثا: إن من أهم ما حققه المسلمون في الأندلس تلك الإسهامات الفكرية والعلمية والفلسفية والفنية والمعمارية، باعتراف كبار المؤرخين الغربيين المنصفين. هذه الإسهامات شكّلت حلقة أساسية في النهضة الغربية على مختلف المستويات ولا زالت الدّراسات والبحوث مستمرة من أجل سبر مجمل تأثيرات العلماء المسلمين في تقّدم العلوم والمناهج. ليبقى السؤال مطروحا: ماذا استفدنا “نحن” من أنفسنا؟ لنجيب، لا شيء! ولنا في مشهد نقل رفات ابن رشد من مراكش إلى قرطبة مسقط رأسه مع تواليفه وكُتبه انذار شؤم على نهاية حقبة مجيدة، وما تلي ذلك من إهمال للعلوم العقلية والعلمية وإغلاق باب الاجتهاد والاهتمام بشرح الشروحات.
رابعا: إن ما نعتبره “نحن” كمنجزات وإسهامات بطولية لعلماء هُم أجدادنا، يعتبره الكثير من المستشرقين الإسبان مِلكا أصيلا لهم، لأن الروح التي كانت تُحرّك هؤلاء العلماء وتدعمها هي روح غربية وليست عربية حسب زعمهم؛ أما إذا أصررنا على خلاف ذلك، فتجدهم يذهبون إلى أن الحضارة الإسلامية كانت مجرد خزّان، استعاد الغرب ما أخذه الإسلام من اليونان حسب نفس الرأي.
خامسا: إن تلك الأثار المادية الباقية من ذلك التاريخ الغابر كالقصور والمساجد والقناطر… تعتبر من المزارات السياحية التي تدرّ ربحا كبيرا لإسبانيا، ومن أجل زيارتنا لها لا بدّ من أداء الواجب!
سادسا: إن ازدياد عدد المسلمين في الغرب وارتفاع عدد المساجد فيه، يتمّ استغلاله من قبل أغلب الإعلاميين الغربيين المعادين للإسلام لتذكية مشاعر الخوف والحذر في صفوف الأوروبيين، إن ظاهرة الإسلاموفوبيا هذه لا يمكن النظر إليها بمعزل عما ترسّخ من صورة تاريخية مشوهة عن الإسلام تاريخيا، لذلك فكثرة المسلمين في الغرب يعتبر عودة لفتحٍ ثاني في اعتبار هؤلاء، يستوجب التعبئة السياسية والعلمية والفكرية: صراع الحضارات لصمويل هنتغتون كمثال.
سابعا: كان بالإمكان الاستفادة من تجربة المورسكيين المهجّرين رغم قلة أعدادهم، لِما لتواجد هؤلاء في مرحلة بدأت تعرف فيها أوروبا نقلة حضارية مهمة.
لذلك في اعتباري أن ما خسرناه من الفتح الإسلامي أكبر مما استفدنا منه واقعيا، ليبقى الرابح الأكبر هو الأوروبي المسيحي وليس العربي أو المسلم. من الضروري إذن تقصّي حقائق ذلك الماضي وإبراز مفارقاته وامتداداته مع واقعنا الحاضر لتقييم الأوضاع، بدل التغنّي بذات الماضي الزائل دون أن نعرف حقيقة تبعاته لواقعنا الحالي!
(المصدر: مدونات الجزيرة)