من التدين الجماعي الصلب إلي التدين الفردي السائل
بقلم محمد فوزي
عادة ما يرتبط الدين بالتدين، باعتبار الدين توجيه إلهي لتنظيم العلاقة بين الإنسان والإله ووضع حدود لها وتحديد معالمها وتوضيح الصلة التي ستكون بين الإنسان والإله وأشكالها المختلفة، وهذا ما يعبر عنه النسك والشعائر والعبادات عموما، وأما التوجيه الأخر فهو يخص تنظيم علاقة الإنسان بنفسه وبأخيه الإنسان في اجتماعهم وما يترتب على ذلك من مصاهرة، وتجارة، وسياسة، الخ.. وإن لم يكن للدين قولا فصلا في هذه التفاصيل فإن له رؤى ومقاصد يراعيها المؤمن في إجراءاته التي تخص هذه الجوان.
وعلي هذا فالتدين هو محاولة امتثال أوامر الدين في المجالين الخاص والعام، وللتدين لحظة تاريخية يتحقق فيها نموذجه المثالي الذي يسعي الكل لاحقا للوصول إليه، وهذه اللحظة تكون في الفترة التي يهبط فيها الوحي ويبعث فيها الرسول ويكون معه أتباعه، فالإيمان وقتها يكون حارا له فاعلية تمكن المؤمنين من التزام اوامر الدين بشكل مثالي، وهذا ما يحقق النموذج التاريخي لاكتمال الأسباب التي تساعد على ذلك، لكن بموت الرسول وموت الأصحاب الذين عاصروا الرسالة وبمرور الوقت يبدأ هذا النموذج في التفكك والتداعي، وهكذا يهبط مستوي التدين، لكن مع هذا يظل نموذج التدين الرسالي يحتفظ برمزيته في وعي اللاحقين الذين يسعون للوصول لهذا النموذج وإعادة تحقيقه وخلقه مجددا على أرض الواقع.
ويعتبر الظرف التاريخي هو ما ينتج نمطا محددا للتدين أو على العكس منه العلمنة التي تسعي لفصل الدين عن مجالات الحياة، بهذا المعطي نستطيع ان نفسر كل حركات التدين أو العلمنة التي ظهرت عبر التاريخ، لأن التدين أو العلمنة لا يتوقف على الدين ذاته فهناك العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية التي تساعد على تكوين صورة للتدين أو العلمنة، فالمجتمع يعتبر هو الألة التي تنتج هذه النماذج والقوالب.
بهذا نستطيع أن نفسر ظهور فرقة المعتزلة في الخلافة العباسية نتيجة لاتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية ورغبة بعضهم في التفلسف وتأويل أمور الدين عقليا حتى العقدي منها، والأمر نفسه بالنسبة لحركات العقلنة التي نمت في عصر التنوير والرغبة العارمة في تحييد الدين جانبا كنتيجة لاضطهاد الكنيسة وطغيانها على الأرواح والعقول، بهذا أيضا نستطيع ان نفسر نماذج التدين التي ظهرت في المجتمع المصري حديثا أو ما تسمي بالصحوة الإسلامية وسبب ذلك سقوط الخلافة والحلم في استعادتها حتى وإن حوت داخلها مقومات سقوطها، وترك الدولة مساحات كبيرة للإسلامين للقضاء على المشروع الاشتراكي الناصري، رغم ما بينهما من فاصل زمني.
هناك العديد من التيارات التي ظهرت لكن يعتبر جماعة الاخوان المسلمين والدعوة السلفية أهلي وزمالك التدين في مصر، حيث كانت لهما قدرة كبيرة على التغلغل وسط عموم الناس والانتشار واسع المدي وهو ما مكنهم من تكوين ظهير شعبي قوي والتأثير على عاطفة الجمهور. سعت جماعة الإخوان طوال تاريخها للوصول للحكم لبناء الدولة الإسلامية واستعادة حلم الخلافة، وهذا ما جعلها حركية أكثر منها دعوية، والسؤال هنا لماذا ينتهي كل سعي الجماعة بالفشل الذريع رغم ان خبرتهم من الممكن ان يطلق عليها بالطويلة؟ سعت الدكتورة هبة رؤوف عزت للإجابة على هذا التساؤل في كتباها الخيال السياسي للإسلاميين فحللت خطاباتهم ومعالجتهم للقضايا المختلفة لتصل من ذلك لمنطق تفكيرهم وخريطتهم المفاهيمية وأقصي ما يمكن خيالهم أن يصل إليه فوجدت أن مراجعاتهم عقب كل فشل سياسي كان حله اللجوء إلى السلمية ونبذ العنف أو المشاركة الحزبية ومحاولة السيطرة عليها لتقليص المساحة البرلمانية لحسابهم أو التسامح البراغماتي في المسألة القبطية أو العودة إلى التربية باعتبارها المفتاح السحري.
هذه مراجعاتهم السياسية فقط أما ما يخص بنية الدولة وفلسفتها وتصور نظم الحكم أو إدراك الفروق بين الدولة القومية الحديثة وأنها مجرد آلة لحماية رأس المال أو أنها أصبحت المطلق نيابة عن الإله، أما عن الخلافة الإسلامية أو مضمون الحكم السياسي أو إيجاد نظرية اجتماعية سياسية إسلامية بعد الاجتهاد العميق والفهم المعرفي المركب للواقع أو كيف يمكن إيجاد سلطة تحقق رسالة الإسلام في العالم الحداثي الذي يفرض تعقيدات كثيرة وطبيعة مختلفة للعلاقات والروابط التي بين الجميع على السواء. فلا يصل خيالهم لهذه الحدود ولهذا فهم أسيروا نسق أفكارهم التي تحكم عليهم بنفس النتائج المعتادة. الحقيقة التي يجب أن يستوعبها جماعة الإخوان أنه لا يمكن اختزال الشريعة الإسلامية في جانبها القانوني فقط وبالتالي محاولة أسلمة الدولة القومية، عليهم أن يدركوا أنه لا وجود لشيء اسمه الدولة الإسلامية وأن هذه مجرد أسطورة أنتجها خيالهم الهزيل.
ونشئت الدعوة السلفية كمحاكاة للنموذج الوهابي الذي اهتم بالإصلاح العقدي لانتشار الشركيات في مجتمعه، ومن ثم بدأت الدعوة بالإصلاح العقدي لكنها لم تنتهي منه بعد ولم تتجاوزه لغيره، بل كانت العقيدة مثل ثقبا أسودا يلتهم كل جهدها حتى وإن تعافى المجتمع أو لم تكن الشركيات بنفس الحدة كانت في مجتمع محمد بن عبد الوهاب ولهذا كثير عندهم التبديع دون منهج ضابط، المشكلة الأخرى التي نشئت في هذا التيار أنهم اهتموا بالخلاص الفردي ولم يهتموا بالإجابة على تساؤلات كبيرة ومهمة مثل ماذا سيكون بعد الإصلاح العقدي وبعد الدعوة، وكيف يمكن أن نعيد للدين فاعليته بدمجه مجددا بالسياسة والاقتصاد، وباقي التساؤلات التي تدخل ضمن هذا السياق؟ إجابتهم الوحيدة هي أننا ندعو الناس ليتوبوا ومن ثم يدخلون الجنة! كما أن هذه الدعوة كانت تتم بشكل عبثي جدا، فتم اختيار حديث بلغوا عني ولو أية حجة قوية لممارسة الجميع على السواء للدعوة قبل التمكن علميا ودون فهم الواقع والخبرة بالأنفس، واعتبار الذي لا يدعو حسب تصورهم مقصر ومتواني في حق الدين، مما أنتج خطابا عقيما في المقام الأول والأخر يلوك عددا من القضايا ولا يتجاوزها لغيرها، كما أنه رسخ بعض التصورات والمفاهيم الخاطئة عند الكثير عن العبادة نفسها وطرق الصلة بالله، أيضا هذا العجز المعرفي جعلهم جلادين بامتياز يرون دوما أن الخلل في إيمان الناس لذلك هم لم يتوانوا في تقريعهم وجلدهم رغم أن أفضل ما في الناس هو إيمانهم، وذلك كله أنتج في النهاية تشوهات نفسية واجتماعية عند الكثير منهم أنفسهم وممن يستمع لخطابهم، وأما طرحهم للمشكلات الحديثة التي فرضتها العولمة والقوي الخارجية فهو مضحك جدا ويدل بوضوح على الجهل المركب بالواقع وبالعلوم التي تخص معالجة هذه القضايا مثل علم النفس والاجتماع، هناك الكثير من الملاحظات على هذا التيار لكن لا يتسع المجال لها هنا.
وعموما ففي فترة ما قبل الثورة كانت هناك نماذج متماسكة من الفكر والممارسة، وهناك أهداف يسعي التيار للوصول إليها بطرق وخطوات معينة، وهناك قدوات وأمثلة عليا، وطرق للتعلم والتركيز على جانب من العبادة، وشكل معين يحدد انتماء الفرد لتيار معين، فكان كل ما على المرء أن يتخذ قرار التدين ثم ينتمي لأحد التيارات فيتبع فكرهم ويسلك طريقهم لامتلاكهم نماذج متكاملة. وهذا ما نسميه بالتدين الجماعي لأنه يتم وسط مجموعة والصلب لأن له قالبا محددا، ثم كانت الثورة وكان ما بعدها، فأبدت جماعة الإخوان مراهقة سياسية رغم خبرتها الطويلة، وولجت الدعوة السلفية لعالم السياسة دون مراجعات رغم إعراضها عنها طوال تاريخها، ففشل الاثنان فشلا ذريعا، وخذل الشباب الذين ضحي البعض منهم بعمره، ثم كان ما كان وعادت الأحوال كأسوء من السابق.
هذا الفشل الذريع كانت أولى نتائجه تفكك هذين التيارين على أرض الواقع، وتحلل نماذجهما تماما، وسقوط رموزهما وانسحاب الكثير من الشباب من تحت لوائهم بعدما اتجهوا إما إلى الإلحاد وإما إلى حالة من القلق الوجودي والتيه والتشظي والسيولة. وكانت الأسئلة التي تراجع الموقف كله من مبتدئه لمنتهاه، المهم هنا إن ذلك كله كان يتم بشكل فردي وهذا ما سميناه بالتدين الفردي لتحلل التيارات الكبيرة الحاضنة، والسائل لأنه لم يعد هناك نماذج بل الكل يسعي وحيدا لبناء نموذجه الخاص.
وهكذا أنتج الظرف التاريخي نمطا جديدا للتدين لمن لم يذهب لخيار الإلحاد أو الانسلاخ من التدين أو الاحتفاظ بفكره القديم رغم ما مر من ظرف، فأصبح الشباب يتساءلون عن التدين وما نمطه الصحيح، وعن التعلم والموازنة بين العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية، وعن تحديد نموذج لفهم الواقع والتعامل معه، وعن سؤال الأخلاق والتعامل مع المرأة التي كانت لها دور وفاعلية في الأحداث الاخيرة؟ تساؤلات كثيرة والكل يسعي وحيدا لإيجاد إجابات، والحقيقة أن الوضع الأن مربك جدا، وشديد الصعوبة والحساسية، والقلق والاضطراب والتشتت وكل ما يدخل تحت معني السائل.
التساؤل المهم هو هل ستنتهي حالة السيولة هذه بالعودة لحالة صلبة، وإن كان فهل سنري نفس الأخطاء السابقة، أم سنري أسئلة جديدة تطرح لتصنع معرفة ووعيا مرتبطين بالواقع والسياق المجتمعي تساعد في نهوض المجتمع، وما ستكون أولويات هذا النموذج، وهل سيلصق الدين بأولوياته ويحاسب الجميع عليها، وهل سيقدم شيئا للمجتمع أم سيكون وبالا عليه، وما العلاقة التي ستكون بينه وبين السلطة والمجتمع وكيف سيدره تلك العلاقة؟ تساؤلات كثيرة سيجيب عنها الوقت بمنتهي الواقعية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)