من إحياء الهوية الدينية إلى ترسيخ المواطنة.. تحوّلات مسلمي أوكرانيا في 30 عاما
إعداد صفوان جولاق
يقول رئيس قسم “تاريخ الفلسفات الشرقية” في الأكاديمية الوطنية للعلوم إن رفض التتار المسلمين احتلال القرم، ثم مشاركة مسلمي أوكروانيا في محاربة المسلحين الروس على جبهات الشرق من العوامل التي غيّرت نظرة المجتمع جذريا نحو الإسلام والمسلمين، وكشفت عن حقيقة ولائهم وحبهم للدين والوطن معا.
كييف- أُعلن في العاصمة الأوكرانية “كييف” تأسيس “مجلس مسلمي أوكرانيا”، ليكون “منصة جامعة” لمختلف المؤسسات والجمعيات والهيئات ذات الطابع الإسلامي في البلاد، حسب القائمين على “مبادرة التأسيس”.
وفي مؤتمر صحفي بوكالة “أوكر إنفورم” الرسمية، تحدّث المبادرون، وهم ممثلو مؤسسات إسلامية ناشطة، عن متغيرات وتحولات فرضت نفسها على طبيعة الوجود والعمل الإسلامي في أوكرانيا، على مدار 30 عاما تلت الاستقلال في 1991.
من إحياء الهوية إلى ترسيخها
ولعل من أبرز هذه “التحولات”، التي ذكرت في المؤتمر، انتقال الوجود والعمل الإسلامي من طور إحياء الهوية إلى ترسيخها.
يقول رئيس اتحاد المنظمات الاجتماعية (الرائد) -سيران عريفوف- إن عودة المسلمين إلى دينهم، خاصة بعد عقود الحكم السوفياتي الذي حرمهم من الدين وتعاليمه، كانت أولوية في البداية، حتى أواسط العقد الماضي.
وأوضح، للجزيرة نت، أن معظم النشاطات الثقافية والأعمال الإغاثية الخيرية كانت موجّهة في التسعينيات صوب إحياء الهوية والدفع نحو الاعتزاز بها، بتحقيق معاني الرحمة والتكافل والأخوة الإسلامية.
أما اليوم، حسب عريفوف، “فيركز العمل على الجانب التعليمي، من المدارس والمؤسسات التعليمية النظامية التي ترسخ الهوية الإسلامية الأوكرانية وتحصّنها، وتُفعّل أدوارها في الوسط المسلم، وفي المجتمع ككل”.
من الطلاب إلى المحليين
وينسب رئيس “الرائد” جزءا كبيرا من هذا التحول إلى أدوار اضطلع بها الطلاب العرب والمسلمون في بادئ الأمر، حتى انتشار “الوعي” بين المسلمين المحليين، من سكان البلاد الأصليين.
ويقول “أنا قرمي تتري، وحقيقة لا أعرف بيتا تتريا لم يدخله طلاب مسلمون، بهدف التذكير بالهوية وإحيائها بعد أن ذابت وكادت أن تطمس، وقد مدّوا يد العون، مهما كان رمزيا”.
ويسوق عريفوف (42 عاما) مثالا على ذلك، فيقول “أذكر جيدا عندما كنت صغيرا، وكنت أسخر من دعواتهم ومصطلحاتهم الدينية، لكنني اليوم، وكثيرين غيري، نقدّر لأولئك الطلاب الدعاة صبرهم وجهودهم، وفضلهم في إحياء الإسلام في نفوسنا، وبقائنا مسلمين”.
يترأس اليوم عريفوف اتحاد “الرائد”، وهو أكبر مؤسسة تعنى بشؤون المسلمين في أوكرانيا، ويقول “ندرك جيدا أن همّ التعريف بالإسلام والدفاع عنه وخدمة المسلمين بات على عاتقنا نحن، سكان البلاد الأصليين”.
وكانت تُقدّر أعداد المسلمين قبل احتلال روسيا شبه جزيرة القرم وسيطرة الانفصاليين على أجزاء واسعة من إقليم دونباس بنحو 2 مليون نسمة من أصل نحو 42 مليونا، في حين تُقدّر أعدادهم اليوم بنحو المليون، بحكم أن توزعهم الرئيس على أراضي القرم والدونباس (تتار القرم وتتار كازان).
من “إرهابيين” إلى “وطنيين”
وتطرّق المؤتمر إلى مرحلة عانى فيها المسلمون الأوكرانيون من اتهامات بالتطرف والإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، ولاحقا أصبحوا رمزا للوطنية، بعد أحدث 2014 المحلية.
وفي حديث مع الجزيرة نت، قال مستشار وزير الثقافة الأوكراني إيهور كوزلوفسكي، وهو أيضا خبير في شؤون الأديان، “لا أستطيع القول إن مظاهر الإسلاموفوبيا كانت كبيرة في أوكرانيا، وقد لا تقارن بما هي عليه في دول أخرى، لكن الأكيد أن النظرة العامة تغيرت سلبا تجاه المسلمين، بسبب الضجة التي سببتها أحداث نيويورك في 2001، وما تبعها من حرب على تنظيم القاعدة”.
وفي سياق متصل، يقول أوليغ ياروش رئيس قسم “تاريخ الفلسفات الشرقية” في الأكاديمية الوطنية للعلوم “يجب أن نقرّ أن رفض التتار احتلال القرم، وتحمّلهم لاحقا تبعات هذا الموقف، ثم مشاركة المسلمين إلى جانب غيرهم في محاربة المسلحين الروس على جبهات الشرق كلها عوامل غيّرت نظرة المجتمع جذريا نحو الإسلام والمسلمين، وكشفت عن حقيقة ولائهم وحبهم للدين والوطن معا”.
وذكر ياروش أمثلة لأسماء رأى أنها باتت “رموزا” أوكرانية، كالشيخ سعيد إسماعيلوف مفتي الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا “أمّة”، الذي نشط ضد العدوان الروسي، وكان “مرشدا روحيا” في صفوف الجنود المسلمين، وأمينة أكويفا الناشطة التي قاتلت إلى جانب زوجها ضد انفصاليي الشرق واستشهدت في عملية اغتيال قرب “كييف” في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
وتابع “أستطيع القول من دون مبالغة إن عامل الحرية الدينية في أوكرانيا يساعد المسلمين على أداء أدوار إيجابية في المجتمع، وأذكر هنا، نقلا عن كتب عربية، مصطلحات (العدل) و(العدالة الاجتماعية) التي إذا توفرت، حسب الكتّاب، ترك المسلمون أثرا كبيرا في الحياة والحضارة”.
مشاركة المرأة
ويرى مسلمو أوكرانيا أن مشاركة المرأة بقوة إلى جانب الرجل تحوّل لافت في حد ذاته، بخاصة أنه انتقل من النشاط التقليدي إلى التخصصية.
وفي هذا، قالت رئيسة “اتحاد مسلمات أوكرانيا” نيارا ماموتوفا إن العمل النسائي الإسلامي كان شبه غائب في تسعينيات القرن الماضي، بحكم ضعف الهوية، والانشغال بهموم وأعباء الدراسة والأسرة.
ولكن شيئا فشيئا -تضيف ماموتوفا للجزيرة نت- تمأسس هذا العمل، من خلال وجود أقسام نسائية في جمعيات تُعنى بشؤون الأسرة وثقافة المرأة. واليوم “لدينا عشرات المؤسسات النسائية المستقلة في شتى المدن، ومؤسسات علمية وحقوقية تخصصية، نحاور من خلالها الدولة، ونخاطب المرأة والمجتمع على نطاق أوسع”.
وذكرت في هذا السياق كيف تمكنت مسلمات أوكرانيا من إقرار حق التصوير بالحجاب للوثائق الرسمية في يناير/كانون الثاني 2019، اعتمادا على مؤسساتهن، وعلى القضاء.
ميثاق مسلمي أوكرانيا
وينظر المشاركون في مؤتمر التأسيس إلى “ميثاق مسلمي أوكرانيا” على أنه أساس جامع للوحدة تحت ظل “مجلس مسلمي أوكرانيا”، ومرجعية تدعم العمل المشترك، وتحقق المواطنة.
يقول بافلو فيدوسوف، وهو مدير المركز الثقافي الإسلامي في مدينة دنيبرو، إن الميثاق الموقع في 2016 رسم خريطة طريق تتجاوز عقبات الاختلاف بين مكونات المجتمع المسلم في أوكرانيا، “وحدد مبادئ دينية ووطنية، لكي لا نكون عرضة لأي تأثير داخلي أو خارجي، ولكي يمارس المسلمون المواطنة بحق، من خلال معرفة الحقوق وأداء الواجبات”.
تحديات الحاضر والمستقبل
وفي استشرافهم للمستقبل، يتطرّق مؤسسو مجلس مسلمي أوكرانيا إلى التحديات التي يرون أنها كانت ولا تزال وستبقى، وإن خفّت أو اشتدّت من حين إلى آخر.
ويقول سيران عريفوف إن “حال أمتنا ينعكس علينا، ويمسّنا من السوء ما يمسّ كثيرا من المسلمين في شتى أنحاء العالم، من تشويه ومحاولات إقصاء وما شابه”.
ويتابع “مع الأسف، ربما يكون التحدي الخارجي أشدّ علينا من التحديات التقليدية والمحلية، وحتى من الحرب التي خسر مسلمو أوكرانيا بسببها عشرات المراكز والمؤسسات التعليمية والتخصصية، ودفعت كثيرين منهم إلى النزوح، أو أدّت بهم إلى الاعتقال”.
المصدر: الجزيرة