منهج عملي مقترح لدراسة السيرة
بقلم مصطفى البدري
هذا هو المقال الثالث في سلسلة مقالاتي هنا عن السيرة النبوية، وأرجو الله عز وجل أن أكمل ذكر مراحلها وسطر أحداثها على موقع مدونات الجزيرة، وبعدما تكلمت في المقال السابق: السيرة النبوية لماذا؟ عن أهم فوائد ومكتسبات دراسة السيرة النبوية.. أحببت أن أكتب اليوم عن طريقة مرحلية لدراسة السيرة، وأهم الكتب في نظري لمن يريد أن يدرس السيرة بشكل تدريجي متكامل، وقد وضعت على اسم كل كتاب رابط تحميله من على شبكة الإنترنت، حتى أسهل على القارئ الوصول إليه.
تمهيد
منذ المراحل الأولى من عمر أمة الإسلام وقد أولى العلماء اهتماما خاصا بسيرة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام(1)، حتى ابتدأ التدوين فيها منذ عصر كبار التابعين، حيث كتب أبان بن عثمان بن عفان المتوفى 105هـ صحائف عن السيرة والمغازي، وكتب عروة بن الزبير بن العوام المتوفى 93هـ (وكلاهما أبناء صحابة)، وكتب بعدهما الإمام الجليل محمد بن مسلم بن شهاب (الزهري) المتوفى 120 أو 124هـ، وقيل إنّ الزهري هو أول من دوّن في سيرة الحبيب المصطفى.
ثم جاءت طبقة أخرى من كتَّاب السيرة، أشهرهم:
1- موسى بن عقبة المتوفى 141هـ، قال عنه الإمام مالك بن أنس: عليكم بمغازي ابن عقبة، فهي أصح المغازي.
2- محمد بن إسحاق بن يسار المتوفى 152هـ، وهو أشهر كُتَّاب السير على الإطلاق، قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي.. فهو عيال على محمد بن إسحاق. علما بأن كتابه في السيرة قد اشتهر جدا بعد أن هذَّبه أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري المتوفى 213هـ، وهو الكتاب المعروف باسم: سيرة ابن هشام، وقد شرح أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي الأندلسي المتوفى 581هـ كتاب ابن هشام بتوسع في: الروض الأُنف. وهو مطبوع في سبعة مجلدات كبار.
وتتابعت الكتابات في السيرة بشكل منقطع النظير، يقول الدكتور محمد أبو شهبة -رحمه الله-: مهما يكن من شيء.. فلم تَعْنِ أمَّة من الأمم في القديم والحديث بآثار نبيها وحياته، وكل ما يتصل به من قرب أو بعد، مثل ما عنيت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، هذه العناية التي كان من آثارها هذه الثروة الطائلة من الكتب المؤلفة في مولده، وسيرته، وحياته، وشمائله، وفضائله، وخصوصياته، ومعجزاته، وأخلاقه، وآدابه، وأزواجه، وأولاده، وأجداده، وجداته، ونسبه… إلى أن قال: وإن ما يتعلق بالسيرة النبوية وسير آل بيت النبي ليكون مكتبة حافلة قيمة تعدو الألوف عَدًّا. اهـ، من كتاب (السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة). وهو ما يضع دارس السيرة في حيرة شديدة، في أي الكتب يقرأ؟ وبأي كتاب يبدأ؟ وكيف تكون الأولويات في دراسة السيرة؟
المرحلة الأولى
من وجهة نظري الشخصية.. أرى أن الدارس يحتاج في البداية لتحصيل فكرة عامة عن أهم الأحداث في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، لذا.. أُفضّل أن يبدأ بأحد هذين الكتابين:
* (السيرة النبوية دروس وعِبر – مصطفى السباعي) وهذا الكتاب رغم صغر حجمه.. إلا أنه كتاب جيد فيه فوائد كثيرة، كما أنه اشتمل على مقدمة مختصرة لمعرفة مصادر السيرة.
* (روضة الأنوار في سيرة النبي المختار – صفي الرحمن المباركفوري) وهو اختصار لكتابه المشهور (الرحيق المختوم) حاول فيه مؤلفه أن يتجنب ذكر الروايات الضعيفة التي كثُرت في كتاب الرحيق المختوم.
المرحلة الثانية
وبعد استيعاب أحد الكتابين المذكورين -أو كلاهما- يمكن قراءة أو دراسة الكتب التالية:
* (فقه السيرة – محمد الغزالي / تحقيق محمد ناصر الدين الألباني)، وهو كتاب متميز باستنباطات قوية وإسقاطات واقعية فريدة، ولولا المنهج العقلاني الذي اعتمده الشيخ الغزالي في قبول الروايات وردها.. لكان من أفضل كتب السيرة على الإطلاق، لكن تحقيق الشيخ الألباني للكتاب ساهم في ضبط كثير من الخلل الذي وقع فيه المؤلف. وهذا العمل يُعَدُّ مثالًا رائعًا على إمكانية التعاون المشترك بين العاملين لنصرة هذا الدين مهما اتسعت هوَّة الخلاف بينهم، حيث جمع بين أحد أقطاب المدرسة العقلانية الإصلاحية وهو الشيخ الغزالي وأحد رموز وقادة المدرسة السلفية وهو الشيخ الألباني، ورغم ظهور الخلاف بين الشيخين -عليهما رحمة الله ورضوانه- في ثنايا الكتاب، إلا أنه أثرى المكتبة الإسلامية وأفاد الكثيرين من طلبة العلم من كلا المدرستين.
* (السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث – علي الصلابي) وهو كتاب متوسط الحجم نسبيا، أجاد فيه المؤلف في جانب جمع وقائع السيرة وسرد أحداثها تاريخيا، كما أجاد في استخراج الفوائد وترتيبها، لكنه وقع فيما وقعت فيه عامة المؤلفات في السيرة من الاشتمال على الكثير من الروايات الضعيفة، والتي أثرت سلبا على قيمة الكتاب العلمية.
* ثلاثة كتب معاصرة التزمت الصحة في المرويات، أو على الأقل اجتهد مصنفوها في تحري الصحة:
1- السيرة النبوية الصحيحة – أكرم ضياء العُمَري.
2- صحيح السيرة النبوية – إبراهيم العَلِيّ.
3- السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة – محمد الصوياني.
ومن خلال مقارنة بينهم ظهر لي أن كتاب الدكتور أكرم هو أفضلهم من حيث الصناعة السردية والتأليفية رغم صعوبة ذلك عند انتقاء الصحيح من الروايات، كما تميز الثالث من حيث السلاسة وجاذبية العناوين والأسلوب الأدبي المشوق، كما أن الثاني جيد كذلك وقد أثنى عليه وقدم له الدكتور عمر سليمان الأشقر رحمه الله.
وهناك كتاب مشهور باسم (صحيح السيرة النبوية – محمد ناصر الدين الألباني) لم أذكره مع هذه الكتب الثلاثة لأنه عبارة عن تحقيق حديثي لكتاب ابن كثير وليس مؤلفا خاصا، فضلا عن أنه لم يكتمل، حيث وقف الشيخ الألباني عند حادثة الإسراء والمعراج.، لكن يمكن أن يضاف إلى الثلاثة السابقة كتاب (السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة – محمد أبو شهبة) وكتاب (السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية – مهدي رزق الله) فقد اجتهد المؤلفان في الاقتصار على الروايات الصحيحة، لكن يبدو لي أنهما ليسا بمرتبة الكتب الثلاثة الأولى في موضوع صحة الروايات، علما بأن هناك مِن طلبة العلم مَن اعتبر كتاب مهدي رزق الله أفضل الكتب المعاصرة في السيرة النبوية.
* سلسلة الدكتور منير الغضبان حول السيرة النبوية، وهي كالتالي:
1- المنهج الحركي للسيرة النبوية. وهو كتاب فريد في بابه، حتى إن الدكتور راغب السرجاني قد بنى سلسلة محاضراته في السيرة النبوية بالكامل عليه(2)
2- فقه السيرة النبوية (وهو مقرر مادة السيرة في العديد من الجامعات العربية).
3- المنهج التربوي للسيرة النبوية (11 مجلدا) مقسمة كالتالي:
– ثلاثة مجلدات – التربية الجهادية.
– أربعة مجلدات – التربية القيادية.
– مجلدان – التربية الجماعية.
– مجلدان – التربية السياسية.(3)
وهي سلسلة متميزة خاصةً للباحثين والدارسين، يعيبها عدم اعتماد منهج المحدّثين في الحكم على المرويات، ومن ثمّ اشتمالها على الكثير من الروايات الضعيفة، وما ترتب على ذلك من أخطاء في الاستنباط وبناء الأحكام عليها (وهذه آفة أغلب المؤلفات في السيرة).
4- ثم كَتَبَ كتابًا آخر سماه: التربية السياسية للطفل (رؤية من خلال السيرة النبوية) وهذا الأخير فقط قرأتُ عنه، لكني إلى الآن لم أقرأه.
* (فقه السيرة – البوطي) – (وقفات تربوية مع السيرة النبوية – أحمد فريد) وهذان الكتابان أظن أنهما سيندرسان ويُهملان رغم ما فيهما من فوائد بسبب انحياز مؤلفَيْهما لطواغيت الحكم، حيث انحاز الأول لبشار في سوريا -وقد أفضى إلى ما قدم- والثاني للسيسي في مصر ومازال يشارك في جريمة التسويق له ودعوة الناس لانتخابه. وقد ذكرتهما هاهنا لبيان خطورة المفارقة الحاصلة بين عِلْمٍ ينشره الإنسان وبين مواقف عملية لصاحبه تكون مناقضة لهذا العلم، وقد ضرب الله جل شأنه وعز سلطانه مثالين من أسوأ ما يكون لمن هذا حاله، الأول في سورة الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، والثاني في سورة الجمعة: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وأضيف هنا أفضلية مطالعة كتب قصص الأنبياء والمرسلين، خاصة الأربعة المذكورين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}، حيث ذكرت في المقال السابق أن سيرة النبي محمد تمثل التَّتِمَّةَ لمسيرة الأنبياء والرسل في محاربة الجاهلية بالحق الذي أُنزل عليهم من الله تبارك وتعالى، وبمذاكرة سيرة هؤلاء تكتمل المنظومة وتنتظم حلقاتها بشكل سليم في عقل وقلب طالب العلم.
المرحلة الثالثة
وفي المرحلة الثالثة أنصح بدراسة عدة كتب كبيرة هامة:
* (زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن القيم الجوزية) وهو من أفضل ما يمكن قراءته لكل طالب علم مهما كان تخصصه، ففيه فوائد وفرائد في الفقه والأصول والحديث والتفسير، وغيرها من العلوم، أما فيما يتعلق بالسيرة.. فقد تناولها المؤلف من كل جوانبها [السياسية – العسكرية – الدعوية – الاجتماعية – الاقتصادية]، فهو من عنوانه واضح في توسعه عن حياة النبي عليه الصلاة والسلام بشمولها وكمالها. رغم أنه كتبه في طريق سفر (أي من ذاكرته).
* (محمد رسول الله منهج ورسالة – محمد الصادق عرجون) كتاب كبير في أربع مجلدات أشبه بالموسوعة، جمع مؤلفه بين رصانة الأسلوب وبلاغة البيان والجمال الأدبي، مع التحقيق والتدقيق والنقد العلمي.
* الكتابات التي تخصصت في بعض مواضيع أو جوانب معينة تتعلق بالسيرة، مثل: (حقوق المصطفى، الشمائل المحمدية، دلائل النبوة) وكذلك (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة – محمد حميد الله) ، (الرسول القائد – محمود شيت خطاب).
ويضاف إلى ذلك كله أبواب السير والمغازي في كتب الحديث والسنة، وأهمها عندي على الإطلاق ما كتبه البخاري في صحيحه (بدء الوحي، الفضائل، الجهاد، الغزوات) وقد قام الدكتور محمد الأمين الشنقيطي بجمع شرح الحافظ ابن حجر على أحاديث السيرة في صحيح البخاري؛ فأخرج كتابا كاملا في أربع مجلدات كبار أسماه: السيرة النبوية في فتح الباري. وهو كتاب مميز ومفيد، وقد قدَّم له وأثنى عليه الدكتور أكرم ضياء العمري والشيخ عطية سالم.
* وبالطبع يحتاج الدارس لقراءة كتب السيرة التي ألفها المتقدمون، مثل (سيرة ابن هشام، جزء السيرة من تاريخ الطبري وتاريخ الذهبي والبداية والنهاية لابن كثير) وغيرها. والله من وراء القصد..
الهوامش:
(1) انظر للتوسع والاستزادة في تاريخ تدوين السيرة: (دراسات في السيرة النبوية – محمد سرور زين العابدين ص99 : 115) و(السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة – محمد أبو شهبة ج1 ص27 : 40).
(2) والعجيب أن الدكتور راغب لم يقل هذا ولم يعزُ إليه ما ينقله حرفيا عنه، واكتفَى بأن ذكر اسم الكتاب ضمن مراجع دراسة السيرة!! وإن المستمع لهذه السلسلة أو القارئ لتفريغها المنشور ليتعجب من عدم حديث الدكتور راغب عن رحلة الإسراء والمعراج، لكن بعد هذه المعلومة سيزول عجبه، حيث إن الغضبان لم يذكرها في كتابه لأن كتابه كما هو واضح من العنوان متعلق بالجوانب الحركية في السيرة، ورحلة الإسراء والمعراج ليست منها، لأنها معجزة نبوية خاصة؛ ولست أقصد التقليل من قيمة سلسلة الدكتور راغب (فهي من أكثر ما استفدت منه في السيرة)، وقد وفقه الله بشكل كبير في أسلوب عرضها، لكن كان حريًّا به أن يذكر هذه المعلومة.
(3) قد يكون من الأفضل أن توضع سلسلة المنهج التربوي في المرحلة الثالثة، حيث أنها متخصصة تفصيلية، فتوضع ضمن قائمة الكتب المتخصصة في جوانب معينة من السيرة.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)