مقالاتمقالات المنتدى

منهج القرآن الكريم في معالجة الخلافات الزوجية

منهج القرآن الكريم في معالجة الخلافات الزوجية

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

سلك الإسلام في معالجة الخلاف العائلي بين الزوجين الطرق التالية:

1 ـ دعا الزوجين إلى أن يشعر كلُّ واحد منهما بمسؤوليته نحو الاخر، ونحو أولادهما، أما الله سبحانه وتعالى؛ فهو المطلع على أعمالهم سواء كانت خيراً أو شرّاً، وهو الرقيب الحفيظ العليم العزيز الحكيم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *}[التحريم: 6].

وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: «كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته» إلى أن يقول: والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيّتها».

2 ـ فإذا بدأ الخلاف بينهما؛ أوصاهما بأن يتحمل كلاهما أخلاق الاخر، ويصبر على ما يكرهه منه، فالحياة لم تسوِّ بين الناس في عقولهم، وأخلاقهم، وطباعهم، ولابد من إغضاء الإنسان عمَّا لا يُرضيه، وكثيراً ما يكون الخير فيما يكرهه الإنسان، ويتأذى به. وفي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *}[النساء:19].

وقد حكى لي أحـد الأبرار ـ رحمه الله تعالى ـ: أنه تزوج امرأة حدثت بينهما مشاكل، وكاد أن يطلق زوجته إلا أنه أثناء تلاوته لكتاب الله مرَّ على الآية المذكورة، فعزم على الإعراض عن فكرة الطلاق، وصلح حالهما، وبارك الله له في ذريته، وأنجب منها ذكوراً، وإناثاً، وأصبحوا رجالاً ونساء على خير وصلاح منهم ثلاثة من حفظة كتاب الله.

3 ـ فإذا لم يعد أحدهما يحتمل الاخر، ويصبر على الخلاف معه، واشتد الخلاف بينهما؛ بحيث يخشى من الشقاق، والافتراق؛ أوجب الإسلام أن يحكِّما أهلهما في هذا الخلاف، فيختار الزوج واحداً يمثله، وتختار

الزوجة واحداً يمثلها، ويجتمعان كمحكمة عائلية ينظران في أسباب الخلاف وعوامله، ويحاولان إصلاح الأمور بينهما بما يستطيعان، ولا ريب في أن كلاً من الزوج والزوجة إذا كان راغباً في إنهاء الخلاف، وعودة الوئام بينهما إلى سابق عهده؛ فإن الحكمين سينجحان في مهمتهما، وهذا ما تحدَّث عنه القرآن الكريم بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].

فإذا لم ينفع التحكيم، وأصرَّ كلٌّ من الطرفين على موقفه؛ أجاز الإسلام أن يقع الطلاق بين الزوجين لمرة واحدة تعتد فيها الزوجة في بيت الزوجية مدة تقارب ثلاثة أشهر ويعرف ذلك في محله في كتب الفقه، وفي خلال العدة تعيش الزوجة في بيت الزوجية، إلا أن زوجها لا يعاشرها معاشرة الأزواج، والحكمة من جعل العدة بهذا الشكل هو ترك الفرصة الكافية لإعادة الصفاء، وزوال أثر الخلاف السيئ على حياتهما، وحياة أولادهما، فلعلهما يعودان عن الخصام، والنزاع، ويعود الهدوء والحب إلى جو الأسرة.

هذا مع أنَّ الإسلام أجاز إيقاع الطلاق في هذه الحالة كأمر لا مفر منه، فإنه يراه مكروهاً، وينفِّر منه أشدَّ التنفير، ويجعله أبغض الحلال إلى الله.

ثم إنَّ هذه الطلقة التي أوقعها الزوج تعتبر طلقة رجعية ما دامت المرأة في العدة، بمعنى: أن الزوج يستطيع أن يرجع إليها من غير مهر، ولا عقد، ولا شهود، بل يكفي أن يتعاشرا معاشرة الأزواج؛ لينتهي أثر هذه الطلقة، وتعود الحياة الزوجية إلى سابق عهدها، وفي مذهب الشافعي لابدَّ من المراجعة بالقول، كأن يقول لها: (راجعتك) فتحلُّ له رأساً.

5 ـ إذا انتهت العدة، ولم يراجع الزوج زوجته؛ أصبحت الطلقة بائنةً بمعنى: أن الزوج لا يستطيع أن يعود إليها إلا بمهرٍ، وعقدٍ جديدين، وأنَّ المرأة لو رفضت العودة إليه، وفضلت أن تقترن بزوج آخر لا يملك الزوج الأول إجبارها على العودة، ولا منعها من الزواج بالثاني.

6 ـ إذا عادا إلى الحياة الزوجية ـ سواء خلال العدة، أو بعدها ـ ثم تكرر الخلاف؛ نعيد ذات الخطوات السابقة، من إيصائهما بحسن معاملة أحدهما للآخر، وتحمل أحدهما ما يكرهه من الثاني، فإذا اشتد الخلاف

ثانية؛ لجأنا إلى التحكيم العائلي، فإذا لم ينجح في الإصلاح بينهما؛ كان للزوج أن يطلقها طلقة ثانية، ولها ذات الأحكام التي أخذتها الطلقة الأولى.

7 ـ فإذا عاد الزوج إلى زوجته بعد الطلقة الثانية وعاد الخلاف بينهما، عدنا إلى اتخاذ الخطوات السابقة قبل إيقاع الطلاق، فإذا لم ينفع كلُّ ذلك الإصلاح بينهما؛ جاز للزوج أن يطلق زوجته الطلقة الثالثة، والأخيرة، وتصبح بائنة منه بينونة كبرى، بمعنى: أنه لا يستطيع أن يرجعها إليه بعد هذه الطلقة إلا بعد إجراء شديد الوقع على نفس الزوج، والزوجة معاً، وهو أن تكون الزوجة تزوجت باخر بعد انقضاء عدتها من الأول، ثم وقع الخلاف بينها وبين الثاني فطلقها، أو مات عنها؛ عندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود إليها بعد عدتها من طلاق الزوج الثاني (عدة الطلاق أو عدة الوفاة) ويجب أن يكون ذلك كله طبيعيّاً من غير احتيال، ولا تواطؤ.

والحكمة من هذا الإجراء: أن الزوج لا يقدم على إيقاع الطلقة الثالثة بعد كل ما سبق من محاولات التحكيم، وبعد طلقتين سابقتين اعتدت المرأة بعدهما، إلا بعد استفحال الخصومة بينه، وبين زوجته، بحيث أصبح يعتقد: أن استمرار حياتهما الزوجية على هذا الشكل (طلاق، وافتراق، ثم عودة، والتقاء مرتين متتاليتين) أصبح جحيماً لا يطاق، وأنه قرر التخلص نهائياً من هذه الرابطة الزوجية، فأفهمه الشارع: أنه حين يوقع الطلقة الثالثة قد بانت عليه بينونة كبرى لا سبيل إلى رجوعها إليها إلا بعد أن تجري الحياة الزوجية مع زوج اخر، ولو أبحنا له أن يعود إلى الزواج منها بعد طلاقها للمرة الثالثة، ثم يعود فيطلقها حين يختلفان، ثم يعود فيرجعها حين يتفقان؛ لكان ذلك عبثاً في الحياة الزوجية، واستمراراً لتعاسة الأسرة، وشقائها إلى ما لا نهاية، إذاً فلابد من حد يقف عنده الطلاق، وقد قدره الشارع بثلاث تخفيفاً لعذاب الزوج، والزوجة، والأولاد على السواء.

وهذه هي أهم مبادئ الطلاق وخطواته، وهي كما ترى حريصة كل الحرص على ألا تنقطع الحياة الزوجية لأول خلاف يقع بينهما، بل جعلت لهم فرصة يستطيعان فيها إصلاح ما في نفسيهما إن أرادا الإصلاح، والعيش معاً في حياة هانئة مستقرة. وهذا يدل على وسطيَّة القرآن في تشريع أحكام الطلاق قد وضحته السنة، وتابعه الصحابة، واقتفى أثرهم التابعون بإحسان.

 

__________________________________________________________

المصادر والمراجع:

  • علي الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، ص 531-534.
  • محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، كتاب النكاح، باب المرأة راعية في بيت زوجها (6/ 185 ، رقم 5200).
  • المرأة بين الفقه والقانون ، للدكتور مصطفى السباعي (125 ، 127).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى