منهج الغزالي في الدفاع عن القدس ومقاومة الصليبيين
بقلم محمد سبرطعي
لا يشك أحد من العقلاء المنصفين في المكانة المرموقة التي يحتلها حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في صرح العلم الشرعي والتاريخ السياسي والفكري لهذه الأمة المرموقة، فهو المعدّ من قِبل كثير من العلماء مجدد القرن الخامس الهجري، نتيجة لما حملته أفكاره من تجديد للدين ودفاع عن حياضه أمام الحملات الشرسة التي تعرض لها وخاصة من فئة الفلاسفة والباطنية الذي كان عصر الغزالي يمثل العصر الذهبي لانتشارهم وقوتهم فدان الناس لهم بل والعلماء خوفا وطمعا، ومن جميل شهادات علماء عصره فيه ما قاله السبكي في طبقات الشافعية: «جاء والناس إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء، فلم يزل يناضل عن الدين الحنيفي بجلاد مقاله، ويحيي حوزة الدين، ولا يلطخ بدم المعتدين حد نصاله حتى أصبح الدين وثيق العرى، وانكشفت غياهب الشبهات، وما كان إلا حديثا مفترى».
ومن المعلوم أن العلماء لا تظهر مكانتهم واضحة جليّة كما تظهر وقت الأزمات الخانقة، فيكونون بذلك قرون استشعار للأخطار فينصحون ويوجهون ويواجهون ويكونون أمناء على الأمة ووَقفًا لنصرتها وعزتها، ومن أجل هذا تساءل عدد من الباحثين والعلماء تساؤلا مشروعا، تمحور حول السر في عدم تطرق الغزالي للحروب الصليبية ولا لسقوط القدس وتدنيس المسجد الأقصى المبارك خاصة وأن تلك الحروب كان هدفها استئصالي لفكرة الإسلام واجتثاثا لأمته من الوجود، في الوقت الذي يتقرر تاريخيا أن القدس تمثل قيمة عظيمة عند أبي حامد كما أنه كان شاهدا على تلك الفترة وتلك الأحداث، وكأن قائلا يقول إن أمر المسلمين ومقدساتهم لم يكن ضمن اهتمامات الغزالي ولا إحدى عظيم أولوياته.
ولكن بعد نظرة إجمالية في أطوار حياة الغزالي يمكن أن نخلص إلى نقاط مهمة تعيننا على سبر أغوار هذه القضية تجردا للحق وإنصافا لهذا العَلَم.
لقد نشأ الغزالي في بيئة يتقاتل الناس فيها من أجل خلاف في فروع الفقه أو إحدى تفصيلات الأمور الغيبية، واستشرى في المجتمع التعصب للمذهب والشيخ والرأي والطائفة فولّد هذا تحجرا في العقول ساهم إسهاما كبيرا في ترك الناس للإبداع الدنيوي والاجتهاد الديني ما أثمر التكلس في جسم الأمة والجمود في عقل علمائها.
سمح هذا الركود والتعصب بانتشار العقائد الفاسدة كالباطنية والأفكار الضالة والمناهج التدميرية للعقائد الإسلامية ولوحدة المسلمين مما أسهم في تفتيت الجهود وفتح المجال للغازي الأجنبي ينهب البلاد بعد أن تقاتل أهلها واختلفوا.
عاش الغزالي في هذا الجو الموبوء سنين طويلة وبلغ أعلى المناصب ووصل إلى أرقى المنازل، ولكن سرعان ما أخذ يراجع نفسه ويدرك أن هذا الطريق ليس الطريق الموصل لله، بل هو لون من ألوان التلبيس الشيطاني والزيغ المزيَّن، فسافر من بغداد للشام ومكث بين الجامع الأموي والمسجد الأقصى المبارك 10 سنوات، اعتزل الناس وألف موسوعة التزكية الفريدة المسماة بإحياء علوم الدين في ربوع المسجد الأقصى وتحديدا في خلوته التي تحمل آثاره وهي موجودة لليوم.
بعد انقضاء فترة العزلة الطويلة ترك التعليم في المدرسة الرسمية النظامية ببغداد واتجه إلى مدينته طوس وأنشأ مدرسة له يبث فيها علومه وفق المنهجية الجديدة التي استقاها من وحي الجلسات المطولة ولحظات التأمل في فترة العزلة والصفاء، حيث ركز في مهمته الجديدة على هدفين:
الأول: إخراج جيل من العلماء العاملين الذين ينبذون التعصب ويفتحون المجال للعقل حتى يفكر ويبدع ويتعاملون مع مختلف التيارات الموجودة في الساحة في ذلك الوقت.
لقد نظر الغزالي في واقعه فلاحظ أن الداء هو انعدام الطبيب، فبادر بإصلاح الوضع من أجل تحرير القدس بالبدء بإنتاج الرجال وتحرير العقول والرفع من قيمة العلماء الذين يتخففون من حِمل الدنيا ويحيون رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبتعدون عن مجالسة ومنادمة السلاطين وحاشيتهم، كما يحاربون المادية الجارفة والسلبية الدينية والتيارات الفكرية الهدامة، ويبتعدون كل الابتعاد عن التعصب المقيت والجدل العقيم.
ثانيا: الاهتمام بالأدواء التي تنتشر في جسد الأمة من حب الدنيا وتكالب على المناصب بدل الاهتمام بالعوارض الخارجية أو الانهماك بالعدو الأجنبي بدل السرطان الداخلي.
لقد أدرك الغزالي أن أساس وجود الأمة الإسلامية هو حمل رسالة الخير للناس كل الناس، وما دامت هذه مهمتهم وهم قاعدون عن أداء مقتضياتها فيجب البحث عن أسباب القعود من داخل أنفس المسلمين للنهوض والعلاج لا لتعليق الإخفاقات على شماعة العدو الخارجي وتضييع الأوقات والأعمار في التلاوم والتلاسن بين من يجب عليهم المبادرة لانتشال أمتهم من الوحل.
لذا كانت فلسفته تتنافى مع منهجية التباكي على الأطلال ولطم الخدود والتحسر على القدس بعد سقوطها لأنه يرى الأمر مجرد نتيجة منطقية وطبيعية لتلك المقدمات والأسباب المعاشة التي أسلفنا ذكرها، فلسفة التباكي المجرد تمثل للغزالي شطر البيت القائل: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر.
لقد عاش الغزالي على فكرة أن الجهاد الثقافي والتربوي والفكري مقدَّم مرحليا على الجهاد العسكري، وهذا صحيح إلى حد كبير، وفي زمنهم كما في زماننا، فهل يعقل أن ننصر القدس ونحن لا نعرف أحقيتنا بها وتراثنا فيها، وهل يعقل أن ندافع عن المسجد الأقصى ونحن لا ندرك أبجديات الصراع ولا تاريخ السجال بيننا وبين اليهود، بل لا نعرف حتى طبيعة هذا المسجد ولا حدوده وشكله ومكانته.
لا يمكن لأحد أن يدافع عن شيء لا يعرفه وإذا دافع عنه فسرعان ما تخور قواه لأنه ينطلق من فراغ ويتحرك من لا شيء، ولكن في المقابل من ينطلق من عقيدة راسخة ومعرفة ثابتة لا يتزحزح ولا يترنح وقد صدق من قال: المثقف أول من يثور وآخر من ينكسر.
لقد أثمرت جهود الغزالي جيل صلاح الدين الأيوبي الذي أعاد القدس لعرين الإسلام وقضى على الدولة الفاطمية التي كانت تمثل خنجرا مسموما في خاصرة الخلافة ووحّد أقطار المسلمين، ونأمل أن تثمر الجهود المعرفية والفكرية الحالية كذلك جيلا يقوم لله قومة الحق ويدحر الصهاينة من أرض الأنبياء ويعيد للقدس هيبتها ويعيدها لأمتها عزيزة مكرمة وما ذلك على الله بعزيز.
(المصدر: ساسة بوست)