مقالاتمقالات المنتدى

منهج السنة النبوية المشرفة في مكافحة الفساد

منهج السنة النبوية المشرفة في مكافحة الفساد

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

مقدمة

إن اهتمام منهج السنة النبوية المشرفة بالمشكلات، هو بقدر ما تؤدي إليه تلك المشكلات  من نتائج كارثية على البشر والأرض التي فيها معاشهم ومحل اختبارهم.وليس مثل الفساد في الأرض كارثة. ولهذا يعطي منهج السنة النبوية المشرفة، الأولوية الأولى لمكافحة الفساد، بعد ترسيخ العقيدة السليمة، لأنه أساس هلاك الإنسان وأرضه التي اؤتمن عليها واستخلف في عمارتها.

فمنهج السنة النبوية المشرفة، يدعونا أن نسير في الأرض، وأن نتأمل الأمثال والقصص القرآني والنبوي، عن نماذج المفسدين في التاريخ، فننظر كيف كانت عاقبتهم، وليس هذا وحسب، بل إنه يبين لنا كذلك أنماط الفساد والإفساد المختلفة في تاريخ بعثة الرسول، في الجزيرة العربية وفي الأمم من حولها، لنخرج منها بنموذج لفهم الفساد وكيفية مكافحته في أي زمان ومكان.

                               

 المبحث الأول

حال العرب وقت البعثة[1]

     جاء الإسلام، والفساد ظاهر في البر والبحر، لم يترك جانباً من جوانب حياة البشر عامة، والعرب خاصة، إلا أصابه إصابة بالغة، مهدداً حياة الناس والأرض التي يعيشون عليها.فقد كانت تصورات العرب عن الكون ومكونه، والإنسان وغايته، والاجتماع وأسسه، والسياسة ومبادئها، والأخلاق ومعاليها، والمال ودوره، تصورات غائمة مغلوطة، حتى لم يعد غالب العرب يعرف الحلال من الحرام، ولم يعودوا يبالوا  بما حل بهم أو ما أصابهم من فساد، ولا كيف حل بهم، فقد تمكن الفساد منهم كل التمكن، ولم يفيقوا إلا على آثاره بارزة متفجرة في جميع الميادين، ومتسعة حتى أصبحت شاملة لمجالات الحياة كلها تقريباً، ولم يعد لهم أمل سوى التعايش معه أو الخلاص منه بالموت حيث لا بعث ولا حساب.

ففي المجال الاقتصادي:كان كبار رجال القبائل من التجار وأصحاب الثروات، بالإضافة إلى قبائل اليهود، يحتكرون التجارة والأسواق، وبيدهم عصب الاقتصاد.وفي المدينة المنورة،كان لليهود نفوذ كبير، حيث استحوذوا على سوق بني قينقاع، وهو أهم أسواق المدينة وأشهرها، وسوقها الرئيسي، وكان العرب (الأنصار) يتعاملون فيه بيعاً وشراء.

وكانت البضائع تحتكر حيث يأخذها السماسرة، ويتاجرون فيها كيفما شاءوا دون عدل أو أمانة، وكان الغش في المكاييل والموازين وفي نوعية البضاعة رائجاً، حتى اشتهر عن أهل المدينة تطفيفهم في الكيل والميزان[2].

هذا، بخلاف شيوع كافة أنواع المعاملات والبيوع والقيم الفاسدة؛ بدءاً من الربا الفاحش، وليس انتهاء بالمطل والظلم، وعدم الوفاء بالعقود، وغبن الأجير أو هضمه حقه وتكليفه فوق ما يطيق، وأكل أموال اليتامى ظلماً، وأكل أموال الناس بالباطل، وقول الزور، ورشوة القضاة والحكام.وبالجملة كان هناك غياب تام للفقه المالي والاقتصادي السليم لدى الفرد والمجتمع.

وفي مجال الاجتماع، كان العرب، عند بزوغ فجر الرسالة، قد فقدوا كل مقومات بناء المجتمع السليم؛ فكانوا قبائل متناحرة لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط؛ سوى رابطة الظلم والعصبية والقبلية، وفي داخل كل قبيلة كان القوي يأكل الضعيف، ويفخر الرئيس على الحقير.ولم يكن للعبيد ولا للمرأة حقوق تذكر.

وانتشرت بينهم عادات: وأد البنات، وقتل الأطفال، خوفاً من الفقر والحاجة العار.وليس هذا فحسب، فالأهم أنهم لم تكن لهم عقيدة تجمعهم على رباط واحد، وتنسج عقدهم في نسيج اجتماعي واحد، فقد تقطعت أرحامهم تحت سنابك خيل الطمع والجشع، ولم تعد حقوق الجوار، ولا العقود والمواثيق تحترم، إلا في إطار توازنات القوة والخوف من الانتقام، فإن أمنوا ذلك، فجروا بغيرهم ظلماً وعدواناً.

وفي مجال الأخلاق، انتشر الانحلال الخلقي في جزيرة العرب، وكانت العلاقة بين الرجال والنساء، تنزع إلى الحالة الفوضوية، فقد كثر تعدد الأزواج،  وتعددت أنواعه، وصار الزنا إلفاً وعادة لا يمكن اقتلاعها حسب ظن كثير من القبائل العربية[3]، وثمة عوامل كثيرة سببت ذلك الانحلال الخلقي الذي صاحب فترة الجاهلية، أهمها غياب العقيدة السليمة، والتي هي في العادة الحارس الأمين على الأخلاق.

فقد انغمس كبار القبائل في الملذات جميعها، بعد أن وجدوا أنفسهم يحيون حياة رغدة آمنة، وتابعهم في ذلك كل من وجد لتلك الحياة التافهة المغرقة في اللهو سبيلاً.وكانوا يقضون معظم وقت فراغهم في الألعاب، أو في شرب الخمور أو لعب الميسر، أو ممارسة الفجور، أو في النزاع فيما بينهم.

ولكنهم،لم يكونوا يفكرون أبداً في اللّه، ولا في ما بعد الموت.ومن أشهر ما كانوا يعتقدونه:أنما هي حياتهم الدنيا، وما هم بمبعوثين.وإذا لم تكن ثمة نار ولا جنة، فإن من حقهم أن يمتعوا أنفسها على ظهر الأرض، ويتركوا العنان لشهواتهم، دون أن يخشوا عقاباً بعد الموت.

ولم ينج من هذا، سوى قلة قليلة ممن أطلق عليهم الحنفاء[4] في الجاهلية، الذين رفضوا تلك الحياة الهابطة أخلاقياً.ولكنهم لم يرقوا إلى المستوى الذي يستطيعون معه تغيير الحال الأخلاقي المتدهور هذا المجتمع، فكانوا يكتفون بالوعظ في المواسم والأسواق، ويجتنبون غالب حياة هذا المجتمع.

غياب نظام سياسي وسيادة العنف والقبلية: فقد انتشر العنف بين العرب انتشاراً واسع النطاق.وكان من أسباب قوة النزاع بين القبائل، زوال أثر الأخلاق والعقيدة الدينية، وغياب القانون، ولهذا كان الناس يثأرون لأنفسهم بأنفسهم، وظلت القبائل يقتل بعضها بعضاً جيلاً بعد جيل، حتى كانت الدماء والثأر بين العرب من أصعب العقبات في سبيل توحيدهم. ولم يكن، في المستطاع، وسط هذا التفرق والتعصب أن تكون لهم حكومة جامعة، ولا نظام سياسي مستقر، ولا رئيس يدين له الجميع بالولاء والطاعة.

وبالجملة، فقد عم الفساد كل فرع من فروع الحياة في الجزيرة العربية قبل الإسلام.

شاهد حق على تلك الفترة:

تنقل لنا كتب السيرة، شهادة حق نطق بها أحد أبناء هذا المجتمع، الذي فر بنفسه من الكفر والضلال إلى الإيمان، ثم فر بدينه من الاضطهاد إلى بلاد الحبشة حيث قضى سنوات من عمره في ضيافة ملك عادل.

إنها شهادة، جعفر بن أبي طالب-رضي الله عنه-، عن مجمل حالة مكة والجزيرة العربية قبل الإسلام، في خطبته أمام النجاشي ملك الحبشة، توضيحاً لحال العرب قبل وبعد الإسلام، يقول جعفر-رضي الله عنه-:

“أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان.فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك”[5].

المبحث الثاني

تقسيمات وأنواع وأسباب ومظاهر وآثار الفساد في منهج السنة النبوية المشرفة

أولا: تقسيمات الفساد

  • حسب حجمه

ليس، في منهج السنة النبوية المشرفة، فساد كبير وآخر صغير.فالفساد هو الفساد؛ مهما قل حجمه أو أثره، بل إن الإسلام يعد”محقرات الأمور” وصغائرها، التي يستهين بها كثير من الناس وتهملها معظم المجتمعات، هي البذرة الأولى لكل فساد مستطير، يلتهم المجتمعات ويقضي على أسس عمرانها وأسباب بقائها.

  • حسب مجاله:

ا-الفساد داخلي:

يعود هذا النوع من الفساد، لانحرافات داخل المجتمع ذاته:نظمه وقيمه ومعتقداته.وأسبابه يمكن أن تكون آتية من الجانب الاقتصادي في المجتمع؛ عبر اختلال موزاين العدل في جنبات الاقتصاد والمال.وربما كان هذا الفساد مرتبطاً بتفسخ شبكة علاقات المجتمع الاجتماعية، عبر تقطع الروابط التي تصل أبناء المجتمع بعضهم ببعض.وقد يكون الفساد ناجماً عن اختلال مؤسسات ونظم الحكم والإدارة والقضاء في المجتمع.لكن أهم أسبابه ومداخله: هو انحراف العقيدة التي يعتنقها المجتمع، وتعرضها للتشويه أو التحريف، فتختل موازين قيم المجتمع وأخلاقياته ونظم اجتماعه.

ب-الفساد الخارجي:

 وهذا النوع من الفساد، ينتج عن أسباب خارجية، تنبع من تأثر المجتمع بالمجتمعات الخارجة عنه رضاءً أو قسراً.فربما وقع المجتمع في قبضة مجتمع آخر أقوى منه، فيميل إلى تقليد نظمه وقيمه التي لا تناسبه فيقع في الفساد، وربما يبدأ الفساد من ارتباط بعض أبناء المجتمع بمصالح اقتصادية ومالية مع تلك المجتمعات، تؤدي لقيامهم بتدمير مجتمعاتهم، ونقل قيم ومنتجات هذه المجتمعات لمجتمعاتهم، فيتسببون في الفساد من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

أو عبر تبني بعض أبناء المجتمع، لعقائد فاسدة أو رؤى للحياة باطلة، تسهم في تخريب نفوس أبناء المجتمع وإصابة قلوب أبنائه ومؤسساته، وتؤدي لإحياء التطلعات غير السوية التي تفتح جنبات المجتمع لكل أنواع الفساد.

وفي كلتا الحالتين، الداخلية والخارجية، فإن السبب الرئيسي للفساد، في منهج السنة النبوية المشرفة لمكافحة الفساد، تبدأ من: انحراف عقيدة المجتمع، والتي يتبعها تغير نظرة الأشخاص للحياة وللمجتمع، ونظرة المجتمع لغيره من المجتمعات، مما يؤدي لتفكك شبكة علاقاته الاجتماعية والإنسانية، ويبدأ التعامل مع المجتمع باعتباره ساحة لإلتقاء المصالح، وللعالم باعتباره ساحة للتصارع والتقاتل على المباهج والملذات وحسب، فتبدأ كل ممارسات الجري وراء المصالح والشهوات، فتنفتح أبواب الفساد بكل أنواعه.

ثانياً: أنواع الفساد:

1-الفساد العقيدي:

ونقصد به، جريمة الكفر والشرك بالله تعالى، وهو أخطر أنواع الفساد وأعلاها، ومنه يبتدأ  كل فساد يصيب الفرد والمجتمع.

2-الفسـاد الأخلاقي:

ونقصد به، كل انحراف أخلاقي يصيب الأفراد، وينتشر في المجتمع عبر السكوت عليه، والرضا عنه من أبناء المجتمع.

3-الفساد الاجتماعي:

ونقصد بالفساد الاجتماعي، انحلال شبكة العلاقات[6]بين أفراد المجتمع، فتفقد القيم فاعليتها وإلزاميتها، ويصير المجتمع أفراداً متنافرين، لا يجمعهم رابط ولا يضبطهم ضابط.وهو من أخطر أنواع الفساد، بل هو أخطرها-بعد الانحراف العقيدي.

4-الفساد الاقتصادي:

ونقصد به، انتشار الظلم والغش والغبن في المعاملات الاقتصادية داخل المجتمع، وظهور مجتمع المترفين ومجتمع المدقعين في الأرض.وهو نتاج طبيعي لأنواع الظلم الثلاثة السابقة.

5- الفساد السياسي والاداري والقضائي

ونقصد به، وصول المجتمع إلى مرحلة متقدمة من الفساد الشامل، ينتج عنها ضياع أركانه التي يرتكن عليها بعد سقوط أعمدة: العقيدة والعلم والخلق والاجتماع والاقتصاد.فيفسد نظام الحكم، ويفسد بفساده نظام الادارة والقضاء، ويصير المجتمع فوضى يأكل القوي الضعيف، ويسوم المستبد قومه سوء العذاب؛ بفسقهم وخروجهم من حالة الصلاح بالكلية، ووقوعهم في هاوية الفساد الشامل، وهي مرحلة استعلاء الفساد واستعلانه وظهوره في البر والبحر في المجتمع.

7-الفساد البيئي:

ونقصد به، كل ما يؤدي لإفساد الأرض ومواردها، وهلاك الزرع والحيوان، وتلوث البيئة وعدم صلاحيتها للحياة عبر: استنزاف الموارد، أو قتل الكائنات الحية أو التعامل مع الموارد الطبيعية بشكل يهدد التوازن البيئي.

ثالثاً:أسباب الفساد

1- الخروج على امر الله: ينطلق منهج السنة النبوية المشرفة، في تعليله لأسباب الفساد من حالة الرفض والخروج عن أمر الله.فأصل أي فساد في الأرض-أياكان نوعه-، هو التعدي على حدود الله، ومخالفة شرعه، باتباع سبيل الشيطان والهوى النفس، فيفسد قلب الفرد والمجتمع، ثم تأتي باقي الأسباب تبعاً لهذا الأصل.قال تعالى: ” وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا”[7] ويقول تعالى:” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ” [8].

وأول العتو عن أمر الله، وأول كسب الناس الخاطىء، هو تعديهم على حدود الله ونسيانهم هديه، وهجرانهم له ومخالفتهم إياه، فتنفتح كل مغاليق قلوبهم ومؤسساتهم التي تحصنهم من بأس الفساد والمفسدين، وتنطلق قوى الإفساد من المترفين يشيدون صناعات فسادهم.

2- الظلم:حيث يعد الظلم بكافة أنواعه، هو أول نتائج الخروج عن أمر الله، ليقع المجتمع في متوالية الفساد الهندسية.ففي منهج السنة النبوية المشرفة ” وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ[9]، ” وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ”[10].

فعندما يصبح الظلم ظاهراً في علاقات المجتمع الداخلية، أو في علاقاته مع المجتمعات المحيطة به، فإن هذا مؤذن بفساد العمران كما يقول العلامة ابن خلدون.

3-البطر والترف:وهما نتاج طبيعي لحالة الظلم التي يعيشها المجتمع:” وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ”[11].حيث يشير منهج السنة النبوية، الى ظاهرة البطر والترف، التي تصيب بعض القرى والمجتمعات والدول، بسبب كثرة النعم التي يغرق فيها المجتمع، وما تحصل لديه من موارد وقوى، حتى يظن أن لن يقدر عليه أحد، فيدخل في حالة الكبر والغرور والاستطالة والاستغناء والاستعلاء في الأرض، ويبدأ في ممارسة كل ألوان البطر والترف والزينة، ويصبح البطر والترف صناعة.قال تعالى” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”:  [12]

4-الانحراف الاخلاقي: وهو نتيجة طبيعية، لمجتمع جعل ربه وراءه ظهرياً، وأوتي من كل الثمرات، وتحلل من كل القوانين العقيدية والأخلاقية، فتفشو فيه الموبقات الأخلاقية ” وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ)”[13]، فينتج عن ذلك ظهور أمراض الحضارة في أفولها، ومن أخطرها وأخبثها: الشذوذ الجنسي بكافة أنواعه، وهدم العلاقات الطبيعية بين الجنسين، جرياً وراء التجديد في اللذات، عبر تغيير فطرة الله التي فطر الجنسين عليها، وبها قامت أسس الاجتماع الإنساني من أسرة وزواج.

5-إخراج الأنبياء والرسل وإبعاد المصلحين عن المجتمع أو تهميش دورهم: وهو نتيجة طبيعية لكل ما سبق: فهكذا مجتمع، لا يطيق وجود هؤلاء الأنبياء والرسل والمصلحين بين صفوفه، فهو مجتمع سقط في حمأة الرذيلة والقذارة الروحية والجسدية، فلا يسعه أبداً أن يطيق المتطهرين، والذين يأمرون الصلاح والإصلاح من الناس، وإن قبل وجودهم فهو يهمشه تماماً، ولا يسمح لهم بأي حرية حركة يقاومون بها صناع الفساد.” فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”[14]“. ويقول تعالى:” وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ[15]

الفساد صناعة المترفين

يؤكد منهج السنة النبوية المشرفة، على أهمية فهم ظاهرة الفساد، باعتبارها صناعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.فالفساد، ليس مجرد تصرفات فردية، أو تحالفات مؤقتة بين أطراف فاسدة، يمكن التعامل معها بإجراءات قانونية.وإنما الفساد، صناعة المترفين، ففي كل مجتمع يفشو فيه الفساد دون رادع، تنمو وتتكون طبقة من المفسدين، الذين يحترفون الإفساد ويتفنون في صناعته، يسميها منهج السنة النبوية المشرفة “طبقة”المترفين”، التي تتغول في كافة جوانب حياة المجتمع المعنوية والمادية من: العقيدة إلى الأخلاق، ومنهما إلى الاجتماع والسياسة والاقتصاد، ليظهر الفساد في البر والبحر بما تكتسبه أيدي هؤلاء المفسدين في المجتمع.

ظاهرة مركبة:

والفساد، ليس ظاهرة فردية أو ممارسات عشوائية، لكنه ظاهرة مركبة، وصناعة يمارسها المترفون المفسدون بمختلف أنواعهم في المجتمع، تحقيقاً لرغباتهم ومصالحهم.وهو متتالية تبدأ في التحقق في المجتمع عبر الزمن، منشأوها نفسي قلبي، يبدأ إفساد العقيدة في الله تعالى، وتنتقل إلى الجانب الخلقي في الإنسان، لتصيب الجسد الاجتماعي في قيمه وترابطه وشبكة علاقاته، مما ينعكس على مجمل معاملاته ومؤسساته الثقافية والاقتصادية والسياسية، وانتهاء بعلاقاته مع جيرانه من بني آدم ممن يمكنه التعامل معهم والوصول إليهم، حيث يصير التجبر والعلو والعتو سمة مميزة لتعاملاتهم، في كل شبر من الأرض تصل إليه قواهم الموجهة للشر والفساد.

آثار الفساد:

يترك الفساد، آثاره على الأفراد والمجتمعات، بحسب نوعه ودرجة انتشاره، وتمكنه من نفوس الأفراد، ومفاصل المجتمعات ومؤسساتها، ويمكن إجمال أهم آثاره المدمرة على المجتمعات فيما يلي:

1- إفساد عقائد وأخلاقيات المجتمعات، التي تشكل مرتكز رؤيته للحياة والكون ومكونه، مما يتسبب في تخريب، قلوب أفراد المجتمع ومؤسساته كلها، وتلك أسوأ آثار الفساد قاطبة، والقاطرة التي تجر وراءها كل أنواع الفساد الأخرى..

2-يؤدي هذا الإفساد، لعقائد وأخلاقيات المجتمع، إلى تدمير شبكة العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد، ويحيلهم إلى أفراد متفرقين، لا أمة واحدة مجتمعة، ومن ثم يسهل وقوع هذا المجتمع في كافة أنواع الفساد الأخرى والاقتصادية والسياسية والثقافية.

3-يقود الفساد، إلى فقدان الأمن، وانتشار الجوع والخوف، بما يضر بمصالح النظام السياسي الاقتصادي السليم.

5-يؤدي الفساد إلى وقوع الاستبداد، فالفساد والاستبداد أخوان توأمان.فما إن يتمكن الفساد من مجتمع حتى يستعلي الاستبداد بركنه، لتبدأ حلقة دائرية يسقط فيها المجتمع ويعاني عاقبة سوء عمله وفساده، فيوسّد الأمر إلى غير أهله، وتفسد الادارة، وتدار عبر المصالح والمنافع لا الحقوق والواجبات، ويتبعها النظام القضائي، فيتظالم الناس، وتفشو الرشوة، وتضيع الحقوق، وتهمش الأمة ومصالحها، وتعلو مصالح الأفراد والجماعات المتنافرة.

6-يؤدي لظهور كافة الموبقات، واستعلانها في البر والبحر، وتتحقق اللحظات النماذجية في الفساد في كل المجالات:فيظهر الفرعون في السياسية، والهامان في الاقتصاد والمال، وبلعم بن باعورا وسط العلماء، والمنافقين في الاجتماع، ومن يفعلون فعل قوم لوط في الأخلاق، وقابيل في القتل، ويأجوج ومأجوج في الفساد والظلم العالمي، ومن يجمعون هذا كله مثل: بني اسرائيل.ويرأس هؤلاء جميعاً إبليس النموذج الأمثل للفساد والإفساد في الأرض.

[1] راجع تفاصيل أكثر عن حال العرب قبل البعثة في المراجع التالية

ابن كثير، عماد الدين إسماعيل، صفوة السيرة النبوية، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، الجزء الأول

أبوزهرة، محمد، خاتم النبيين، القاهرة، دارالفكر العربي،1993م، الجزء الأول

شلبي، رءوف، المجتمع العربي قبل الإسلام، القاهرة، دار الكتب الحديثة،1977، ص31-65

الندوي، أبوالحسن،ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، القاهرة،مكتبة السنة،طبعة 1990، ص76-91

[2] رواه النسائي

[3] راجع محاورات كثير من الوفود على الرسول-وخصوصاً وفد ثقيف- في عام الوفود فيما يتعلق بممارسة الزنا في:

ابن كثير، عماد الدين، صفوة السيرة النبوية، مرجع سابق، الجزء الرابع، ص45-55، ص64-119

[4] شلبي، رءوف،المجتمع العربي قبل الإسلام،مرجع سابق، ص38-102

[5] راجع نص الخطبة في

أبو زهرة، محمد، خاتم النبيين، مرجع سابق، الجزء الأول ص365،

الباقوري، أحمد.صفوة السيرة المحمدية،دون رقم طبعة، مكتبة المدني، القاهرة، دون تاريخ، ص47-48

[6] بن نبي، مالك، ميلاد مجتمع، دمشق، دار الفكر، 1989م

[7] الطلاق: 8

[8] الروم:41

[9] الكهف:59

[10] الأنبياء:11

[11] القصص:58

[12] النحل:112

[13] الأنبياء:74

[14]النمل: 56

[15] محمد: 13

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى