مقالاتمقالات مختارة

منهج التعامل مع الشبهات في ضوء أحاديث المسيح الدجال

منهج التعامل مع الشبهات في ضوء أحاديث المسيح الدجال

بقلم لافي بن حمود الصاعدي

ممّا لا يكاد يخفى أنّ من علامات الساعة: كثرةَ الفتن، حيث قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ… الحديث»[1].

وظهور الفتن من لوازم كثرتها، قال ابن حجر رحمه الله: ”وَأَمَّا قَوْلُهُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ: فَالْمُرَادُ كَثْرَتُهَا وَاشْتِهَارُهَا، وَعَدَمُ التَّكَاتُمِ بِهَا. وَالله الْمُسْتَعَان”[2].

 وهذا الظهور للفتن شاملٌ فتن الشهوات والشبهات، إلا أنّ أعظم هذه الفتن هي فتنة المسيح الدجال، وهي من قبيل فتنة الشبهات؛ لما سيأتي في الحديث: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ».

وقد كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أكثر النبيّين تحذيراً من فتنة الدجال: فعن ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: “إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ”[3].

ومن خلال هاتين المقدمتين، وهو أنَّ فتنة الدجال فتنة شبهات، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حذّر منها؛ نستطيع أن نخرج بنتيجةٍ مفادها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وضع منهجاً متكاملاً في كيفية التعامل مع الشبهات (وفتنة المسيح الدجال مثالاً). ويمكن أن يقاس عليها.

وهذا المنهج نستطيع أن نستنبطه من أحاديث المسيح الدجال، وهو ما أحببتُ طرحه في هذا المقال.. وسأعرض هذا المنهج في نقاط:

1-  الأخذ بالمحكمات، وترك المتشابهات، وهذا يؤخذ من حديث عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ، وَلَا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»[4]. قال الطيبي رحمه الله في شرحه للحديث: “(فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ أَمْرُ الدَّجَّالِ بِنِسْيَانِ مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنَ الْحَالِ، أَوْ إِنْ لُبِّسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ عَنِ الْعَادَةِ، (فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ)، أَيْ: أَقَلَّ مَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ التَّنْزِيهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَالْعُيُوبِ، لَا سِيَّمَا النَّقَائِصِ الظَّاهِرَةِ الْمَرْئِيَّةِ”[5].

والذي يعنينا من شرح الطيبي هو المعنى الثاني، إذ هو رجوعٌ للمحكم الواضح (وهو تنزّه الله عن النقائص) عند التباس الأمر واشتباهه (وهو ظهور خوارق العادة على يديّ الدجال).

2-  تأمين مكان للناس عامةً يتّقون فيه من فتن الشبهات، ومن خرج عن هذه الأماكن فلسنا مسؤولين عنه، وهذه ممكنة لمن له ولاية شرعية عامة.. وهذا يدلّ عليه حديث الجسّاسة، وفيه يقول الدجال: “فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً – أَوْ وَاحِدًا – مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا”[6].

3-  منعُ قليليّ العلم أو ضعفاء الإيمان من الذهاب إلى أماكن الشبهات. وهذا يدلّ عليه حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّقَنَاة، فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ، فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا، مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ”[7].

4-  زيادة الإيمان واليقين، ويدل عليه حديث المُغِيرَة بْن شُعْبَةَ رضي الله عنه حيث قال: مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: «مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ». قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، وَنَهَرَ مَاءٍ. قَالَ: «هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ»[8].

“قَالَ عِيَاضٌ مَعْنَاهُ: هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يَخْلُقُهُ عَلَى يَدَيْهِ مُضِلًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُشَكِّكًا لِقُلُوبِ الْمُوقِنِينَ، بَلْ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَيَرْتَابَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الَّذِي يَقْتُلُهُ: مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي فِيكَ.

لَا أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَعَهُ، بَلِ الْمُرَادُ: أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ جَعَلَ فِيهِ آيَةً ظَاهِرَةً فِي كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ يَقْرَأُهَا مَنْ قَرَأَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ زَائِدَةً عَلَى شَوَاهِدِ كَذِبِهِ مَنْ حَدَثِهِ وَنَقْصِهِ..”[9].

5-  الاعتصام والالتجاء بالله من فتنة الشبهات، ويدل عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، حيث قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ”[10].

6-   الفـرار من فتنة الشـبهات والابتعاد عنها، فعن عِمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ رضي الله عنه يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ»، أَوْ «لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ»[11].

7-   تصدّي أهل العلم للشبهات وأهلها، ومحاججتهم، فعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»[12].

8-   الرجوع للقرآن، وتدبر معانيه، والعمل به، قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ»[13]. وهذه الفواتح جاء بيانها في حديث آخر بأنها العشر الأوائل، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ»[14].

قال النووي رحمه الله: “قِيلَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا فِي أَوَّلِهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فَمَنْ تَدَبَّرَهَا لَمْ يُفْتَتَنْ بِالدَّجَّالِ”  شرح النووي على مسلم 6/92.

والقرآن عالج الشبهات من جهتين، من جهة خاصة، ومن جهة عامة؛ فأمّا الجهة الخاصّة: فهو أن يعالج موضوع الشبهة مباشرة، ومثاله ما تقدم في الحديث.

وأمّا الجهة العامة: فهو أنّ القرآن يزيد الحقَّ وضوحاً وبياناً، وإذا زاد وضوح الحق زالت الشبهة؛ لأن الشبهةَ إنّما تنفذ للقلب إذا خفي جانب من الحق.

 وهذا كما قال ابن تيمية رحمه الله: “وَالْقُرْآن شِفَاءٌ لما فِي الصُّدُور، وَمن فِي قلبه أمراض الشُّبُهَات والشهوات، فَفِيهِ من الْبَينَات مَا يزِيل الْحق من الْبَاطِل، فيزيل أمراض الشُّبْهَة الْمفْسدَة للْعلم والتصور والإدراك بِحَيْثُ يرى الأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَفِيه من الْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة بالترغيب والترهيب والقصص الَّتِي فِيهَا عِبْرَة مَا يُوجب صَلَاح الْقلب، فيرغب الْقلب فِيمَا يَنْفَعهُ ويرغب عَمَّا يضرّهُ“[15].

وأخيراً: نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من فتنة الشهوات والشبهات.

:: مجلة البيان العدد  326 شوّال 1435هـ، أغسطس  2014م.

[1] أخرجه البخاري (1036) واللفظ له، ومسلم (157).

[2] فتح الباري 13/18.

[3] أخرجه البخاري (3337)، ومسلم (169).

[4] أخرجه أبو داود في سننه (4320)، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع (22455) 2/317.

[5] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح  8/3478.

[6] أخرجه مسلم في صحيحه (2942).

[7] أخرجه أحمد في مسنده (5353) 9/255، وقال الألباني في كتابه: قصة المسيح الدجال ص 88: إسناده حسن لولا عنعنة ابن إسحاق.

[8] أخرجه البخاري (7122)، ومسلم (2152).

[9] فتح الباري لابن حجر 13/93.

[10] أخرجه مسلم (588).

[11] أخرجه أبو داود (4319)، وأحمد (19875)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6301).

[12] أخرجه مسلم (2937).

[13] أخرجه مسلم (2937).

[14] أخرجه مسلم (257). وهذه الرواية هي المحفوظة، والرواية الأخرى التي فيها أن الآيات عشر من آخر سورة الكهف هي رواية شاذة، كما قاله الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (582) 2/123.

[15] مجموع الفتاوى 10/92.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى