منهج التدرج والاستدلال المنطقي في دعوة إبراهيم عليه السّلام لقومه من خلال سورة الأنعام
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
نستخلص من الآيات في سورة الأنعام المنهج الدعوي المتدرّج الذي اتّبعه إبراهيم – عليه السّلام – مع قومه عبدةِ الكواكب، فقد تدرج بهم من الكواكب إلى القمر، ثم إلى الشمس التي هي أكبرهم، ويؤكد الرازي: إنَّ الأخذ من الأدوَن فالأدوَن مترقّياً إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان، والتأكيد لا يحصل من غيره، فكان هذا الوجه أولى. (منهجية التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام، د. أمينة محمد، ص274)
عرض الله تعالى لنا قصة إبراهيم مع قومه عبدة الكواكب، فقال: {وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ]الأنعام:75[؛ تشير الآية الكريمة إلى أن تدبّر الإنسان في الكون، أي في خلق السماوات والأرض، إنما هو وسيلة من وسائل التعرُّف على خالقهما وخالقه.
{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}؛ اليقين: هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} ]الأنعام:76-79[؛ بيّنت الآيات الكريمة كيف ناظر إبراهيم قومه وجادلهم؛ ليُبيّن لهم بطلان ما كانوا عليه من تقديس للنجوم وعبادة لها، بسبب اعتقادهم أنّها آلهة تؤثر في الحوادث الحاصلة في الأرض، وعُرف عن إبراهيم – عليه السّلام – أنه كان في مناظرته لخصومه ومجادلته معهم، يلجأ إلى الأسلوب الواقعي العملي؛ ليشدَّ أنظارهم إلى الحقيقة ويجعلها قريبة محسوسة منهم، وها هو – عليه السّلام – عندما أراد أن يبيّن لقومه عجز النجوم وضعفها، وأنها مخلوقة كسائر المخلوقات لا تستحق أن تعظّم وتُعبد، انتظر حتى أقبل الليل وظهرت النجوم تلمع في ظلامه. (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 2/465)
وافترض إبراهيم – عليه السّلام – افتراضاً لا يؤمن به ولا يتماشى مع الحقيقة؛ افترضه ليقود الخصم إلى الصدق الصادق والحق الواضح، فجلس مع هؤلاء الذين يعبدون الكواكب، وربما كانت الجلسة في معبدهم الذي يجتمعون فيه، إذا أمسى المساء يتطلعون إلى الكواكب في صورة شاعرية، وفي نوع من التأمل في هذه الكائنات الظاهرة الخفية، الواضحة المجهولة التي يرونها مضيئة لامعة، ولكنها مقنَّعة لا تُبدى أسرارها ولا تعلن عن خفاياها، وأمسى المساء وبدأت النجوم والكواكب تظهر في السماء، (قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص114) وشرع إبراهيم – عليه السّلام – في مناظرتهم بعقلٍ وذكاءٍ وحرصٍ على هداية قومه لتوحيد الله عزّ وجل.
وقد مرّت منهجية إبراهيم – عليه السّلام – بمراحل وتدرّج مع قومه، ومن ذلك:
أ- مجاراة الخصم:
استمال إبراهيم قومه وأخذ بقلوبهم وأشعرهم أنه غير متحامل عليهم، ويُسمى هذا الأسلوب “مجاراة الخصم”، وقد استطاع أن يصل بقومه على زيف عبادة الكواكب والقمر والشمس، لكنها جميعها تتصف بالأفول، فالآلهة التي مصيرها الأفول متغيرة من حال إلى حال متنقلة من مكان إلى مكان فلا تستحق أن تُعبَد.
ب- تشكيك قومه في معتقداتهم:
استطاع إبراهيم – عليه السّلام – أن يشكك قومه في معتقداتهم المتعلّقة بعبادة النجوم والكواكب من خلال تلك الأسئلة المثيرة للعقل وشككهم في صلاحية الكواكب والنجوم للربوبية، وهيّأ قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له رباً غير الكواكب، ثم عرّض بقومه أنهم ضالّون وهيأهم قبل المصارحة للعلم بأنهم ضالّون، وأدخل في نفوسهم الشك مرة أخرى في معتقدهم أن يكون ضلالاً ويكونون قوماً ضالّين، وبعد أفول الشمي قال لهم {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} وهذا إقناع لهم بأن لا يحاولوا موافقته إياهم على ضلالهم؛ لأنه لما انتفى استحقاق الربوبية عن أعظم الكواكب التي عبدوها انتفى عما دونها. (منهجية التدرج في دعوة إبراهيم، ص273)
ج- الاستدلال المنطقي:
استدلّ إبراهيم – عليه السّلام – بأفول الكواكب والقمر والشمس على أنه لا يجوز أن تكون أرباباً مستحقة لأن يشتغل المرء بعبادتها وشكرها، وتدلّ غيبوبة الكوكب والقمر والشمس على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعدم استحقاق الإلهية؛ لأنَّ شأن الإله أن يكون دائم المراقبة، لتدبير شؤون عباده، وقد بدأ معهم في المناظرة بالسهل، ثم تدرّج، من الكواكب إلى القمر إلى الشمس، والنتيجة واحدة، فإن الموافقة في العبارة، على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج. (منهجية التدرج في دعوة إبراهيم، ص274)
د- إعلان الوصول إلى النتيجة:
وصل إبراهيم – عليه السّلام – بقومه من خلال الحجة المستنبطة من أحوال هذه الموجودات جميعاً، وأن أفولها دلّ على وجود خالق لها ووصل بهم إلى النتيجة الحتمية، (منهجية التدرج في دعوة إبراهيم، ص275) وهي: البراءة من الشرك وأن يعبد خالق السماوات والأرض فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ]الأنعام:79[.
_____________________________________________________
المصدر:
علي محمد الصلابي، إبراهيم عليه السّلام خليل الله، ص 255-260.