منهج التجديد والتيسير في الفقه الإسلامي عند الشيخ يوسف القرضاوي
بقلم الشيخ شعيب الحسيني الندوي[1]
لقد برزت على مسرح التاريخ شخصيات كثيرة امتدت سمعتهم الآفاق و ذاع صيتهم في المشرقين و خلد ذكرهم بمآثرهم وخدماتهم التي لا تنقطع ثمارها، ولكل شخصية من الشخصيات البارزة مميزات يفوق بها على أقرانه و يتميز بها على معاصريه، والشخصية الفذة التي أنا بصدد الحديث عنها الشيخ الإمام القائد الرائد المجاهد البطل الأديب الأريب الخطيب المصقع العلامة المحقق المدقق والمفكر الإسلامي النابغ يوسف عبد الله القرضاوي، إنه قد سطر على صفحة قرن كامل أروع النماذج وأمثل القدوة بمآثره العلمية ومساعيه الدعوية ونضاله الفكري وجهاده العملي حتى فاق على الكثيرين و برز طلوع الشمس بعد الليلة الظلماء، وبرحيله إلى عالم الآخرة يفتقد البدر في الليلة الظلماء.
الأمر الذي يقدمه على الآخرين و يفوقه على غيره من معاصريه – حسب نظري وتحليلي – هو منهجه الوسط واتزانه في الرأي واعتداله في الفكر وصلابته في المواقف الفكرية والعلمية واستماتته في سبيل الحق مع مسايرته الزمان وتلبيته لنداء العصر ودعوته إلى التجديد والاجتهاد ومحاولته الصائبة لشرح الإسلام مخاطبا العقلية المعاصرة وغرس معالم الدين في قلوب النشؤ الجديد واجتهاده الخاص في معالجة القضايا الفقهية.
حديثي في هذه المقالة يدور حول منهجه المتميز في دراسة الفقه الإسلامي وتجديده عرضا وتحليلا، فإن منهجه في هذا المجال منهج تأصيلي وتحليلي دقيق لمعالجة المسائل المستجدة والتقليدية بنظرة مستقلة اجتهادية، ومقارنة المذاهب والمدارس الفقهية بنصفة وعدل، والوصول إلى كنه الحقائق و درك الدقائق.
في الآونة الأخيرة ساد الجمود المطبق والتقليد الأعمى وأصبحا الطابع العام المسيطر على شتى المجالات العلمية والفكرية والدعوية، فقام الشيخ في هذه الأوضاع التي كاد أن تجف فيها ينابيع الاجتهاد رائد صحوة التجديد و داعي نهضة الاجتهاد، ودعا بقوة و حكمة إلى صياغة العلوم والمعارف التقليدية من جديد، وتحديث الأساليب للعرض والتقديم، وتجديد الأحكام الفقهية بنظرة اجتهادية مستقلة إلى النصوص الشرعية والأدلة الراجحة، وإلى الإدراك الصحيح “للثوابت” و “المتغيرات” من أمور الدين حتى نتمكن من ترسيخ الثوابت وتحديث المتغيرات، ولكي يسير ركب الإسلام مسايرا للزمان و موافقا للظروف والأحوال، وبتعبير الشيخ: “أن نعرف ما تحتمه علينا الأصالة، وما يقتضيه التجديد والتطور، ونجمع بين الثبات والمرونة”.
التجديد مفهومه وطريقه
قبل الخوض في مفهوم التجديد في الفقه الإسلامي يحسن بيان ضروته في الدين بصفة عامة ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إليه إخبارا حيث يقول: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، والفقه الإسلامي أحوج ما يكون إلى التجديد فإنه جانب عملي وتطبيقي للدين، وعلى ذلك يؤكد الشيخ قائلا: “إن الفقه الإسلامي أولى جوانب الدين بالتجديد، لأنه الجانب العملي المرن المتحرك الذي يطلب منه مواجهة كل طريف وجديد بالحكم والفتوى والبيان”، وبذا يعلم أنه السير المساير للزمان لتحقيق جدارة الإسلام بحل كل قضايا البشر.
والذي يراد بالتجديد في الدين هو نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين كما أنه في الشريعة تحقيق مطالبها وتنقيح عللها وتيسير أحكامها وشرحها شرحا ينفذ في عقلية المخاطبين، وليس التجديد يوما ما موافقة القوانين الوضعية والتقاليد البشرية على حساب محكمات الشريعة، فإنه تحريف وتزييف، يحدد الشيخ مفهوم التجديد مزيلا الشبهات الدارجة: “ليس التجديد هو تطويع الفقه الإسلامي حتى يساير القوانين الوضعية الغربية، لاتينية أو جرمانية، رأسمالية أو اشتراكية، فهذا ليس من التجديد في شيئ، بل هو تحريف وتزييف، إنما التجديد الحق هو تنمية الفقه الإسلامي من داخله وبأساليه هو، مع الاحتفاظ بخصائصه الأصيلة وبطابعه المميز”.
بعد أن تعين مفهوم التجديد في الفقه الإسلامي ينبغي الحديث عن الطرق لتحقيقه والمجالات التي فيها يسيّر مسيره من أصول الفقه وفروعه وقواعده ومقاصده الشرعية وأحكامه التطبيقية ما يجعله قابل التطبيق للعصر المعاصر، و سهل الفهم والإدراك للنشؤ الحديث، وقد تعرض الشيخ لمعالم التجديد ووجوهه في كتابه القيم “الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد”، يبين فيه سبعة محاور يجب العمل فيها، ألخصها إحاطة بالمباحث الرئيسية: (1) تنظير الفقه: أي صياغة الأحكام في صورة نظريات وكليات وقواعد عامة حتى تتشعب منها الفروع الفقهية. (2) الدراسة الموضوعية للمقارنة بين المذاهب الفقهية وبين الفقه والقانون. (3) فتح باب الاجتهاد وممارسته بالفعل بشكل جماعي، وذلك يتحقق بإنشاء مجمع علمي يضم الكفايات الفقهية العالية. (4) تقنين الفقه: أي صياغته وعرضه في صورة مواد قانونية محكمة ترتب على غرار القوانين الحديثة. (5) إعداد الموسوعة الفقهية العصرية مرتبة ترتيبا معجميا على نهج الموسوعات العلمية العصرية[2]. (6) الإخراج العلمي لكتب الفقه وطبعها بتحقيقات جديدة. (7) نشر المخططات الفقهية وتعميم الاستفادة بها.
تجديد الفقه لا ينحصر في الفروع الفقهية بل كان الشيخ يدعو إلى التجديد في أصول الفقه والمسائل النظرية منه، لأنها هي المنابع لاستنباط الأحكام العملية، أما الأصول القطعية التي لا خلاف فيها مثل مصدرية الكتاب والسنة والقواعد الفقهية المتفق عليها مثل “لا ضرر ولا ضرار”، و “الحرج مرفوع” وغيرها فإنها لا تقبل أي تجديد ولا تحتاج إلى تحديث وليست محل اجتهاد، ولكنها معدودة وقليلة، أما المسائل الأصولية العامة وهي أكثر فإنها تقبل الاجتهاد وتقتضي نظرة مستقلة فيها كما عملها السلف واختلفت اجتهاداتهم فيها.
وموضوع مقاصد الشريعة يتطلب أيضا اجتهاد المجتهدين وتحقيق المحققين، وما قام به الأئمة السلف والإمام الشاطبي بوجه خاص من تحقيق نفيس وإخراج مبتكر لم يكن نهاية المطاف في الموضوع وتبعه الآخرون بزيادات في الموضوع، ولا يزال الاحتياج إلى مزيد من الاجتهاد باق في العصر المعاصر.
ألف الشيخ كتابا ضافيا في هذا الأمر سماه: “تيسير الفقه للمسلم المعاصر” فإنه يحتوي على مباحث أصولية مهمة، وكذا كتابه “الحلال والحرام” يكشف الستار عن قواعد الفقه الأصولية وتعليلاته الدقيقة للحكم الشرعي في قضايا الحياة ومسائل العيش.
النظرة الجامعة والفكرة الشاملة لقضايا الفقه الإسلامي
كان الشيخ رحمه الله من أشد الناقمين والمعترضين على حصر مباحث الفقه الإسلامي ومعالجة قضاياه في دائرة ضيقة للشريعة من العبادات والحياة الفردية وبعض المسائل الأسرية مع غض الطرف عن مسائل الاجتماع الإنساني والسياسة المعاصرة وقضايا الدولة وقوانين السلطان، وهو يشكو ويغيظ بأن الناس يسألون عن مسائل الحيض والنفاس والطهارة والعبادة ولا يسألون عن الحكم الشرعي في تسلط الحكام الخونة، ونهب المال العام، وتزوير الانتخابات، والظلم الاجتماعي بشتى الصور، والتنازل عن أرض الإسلام للمغتصبين والاعتراف بهم، فإنه يرى أن الفقه الإسلامي بأمس حاجة إلى الحكم بهذه القضايا العصرية والمباشرة بحياة الناس وأشد اضطرار إلى الاعتناء به دون المسائل التي عولجت منذ قديم الزمان غير أنها تقتقضي التجديد والنظرة الاجتهادية فيها ولا يصح هجرانها والتحجر في آراء السابقين فيها، ولكن أحوج ما يقتضيه الفقه الإسلامي اليوم أن يتعرض الفقهاء ويواجهوا مسائل الاقتصاد المعاصر والسياسة السائدة والعلاقات الدولية والمستجدات من القضايا الدستورية والقانونية والإدارية وجميع قضايا الحياة الاجتماعية بالحوار العلمي الدقيق وبالبحث التحليلي المقارن وبشكل جماعي مجمعي، ألف الشيخ كتابا نافعا في أمور السياسة والدولة باسم: فقه الدولة في الإسلام، ومن الملموس والمعاين في جميع مؤلفات الشيخ وأعماله الفكرية والفقهية الجمع بين حياة الفرد ومقتضيات الأمة، بين العبادة والسياسة، بين الأسرة والدولة، بين روح الورع و رخص الشريعة، وبين الصلاة والزكاة، ومن ميزة كتابات الشيخ عرض الدين بأكمل صورته وأجمع أطرافه ودراسة الفقه من منظور واقعي شامل معالجة للقضايا المستجدة وتطبيقا للشريعة بين مقتضيات العصر و مقتضى الدين، ومن طالع كتابه: المدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية، لاستنار به عقله وانفتحت قريحته وانشرح صدره بحيوية الشريعة وعلم عوامل السعة والمرونة فيها.
منهج التيسير في الفقه
المنهج العلمي والعملي في الفقه ودراسة مباحثه وتحقيق مسائله ووجوه تطبيقه يختلف باختلاف النظر إلى التقليد والاجتهاد، كان الشيخ ملحا شديد الإلحاح على نظرة اجتهادية مستقلة فيما يسوغ فيه الاجتهاد ويطالب بالتنحي عن العصبية المذهبية سأفرد كلاما فيه تحت عنوان مستقل، ولكني الآن أبين منهجه الفقهي في الإفتاء والقضاء والتأليف والتدريس، فهو قائم على تيسير الأحكام والأخذ بالرخص والحكم بالإباحة فيما لا يتعارض مع صريح المعقول والمنقول ورفع الحرج وإزالة المشقة عن الناس في معاملاتهم المعتادة، يقول نفسه مبينا منهجه: “منهجني الذي وفقني الله للالتزام به في الفتوى والتأليف والتدريس هو التيسير في الفروع والتشديد في الأصول، فإذا كان هناك وجهتا نظر أو قولان متكافئان أو متقاربان في قضية أحدهما أحوط والآخر أيسر، فأنا أختار لجماهير الناس الأيسر لا الأحوط”.
إن دعوته إلى التيسير لا تهدف إلى التساهل في أحكام الشريعة وإهمالها أو الاستخفاف بها، ولا تسير بالناس إلى اتباع الهوى وتتبع الرخص المجرد عن روح العمل بالدين، بل كانت غايته بالتيسير ترغيب الناس في العمل بالدين وتطبيق الشريعة على الواقع، ومن اقتضاء الحكمة في العصر الراهن حيث غلبت النزعات المادية و عمّ الانحراف عن الدين واشتد التوغل في الملاهي والمنكرات ويتعايش الناس في عصر العولمة وعصر احتكاك الحضارات والثقافات كأن الدنيا ظلت قرية صغيرة، أن يتعامل العلماء والفقهاء بمعالجة هذا الواقع في ظل الشريعة ويقدموا حلولا صائبة حكيمة على سبيل التيسير والترخيص قدر المستطاع حتى يتم العمل بالشريعة وفق طبيعة البشرية ومقتضيات العصر، وإليه يشير رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث قال: “الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا”.
والقول بالأحوطيات قد يبعد الناس عن الدين لأنها لا تمت إلى صلب الدين بشيئ، ينتقده الشيخ: “كل جيل أخذ يضيف بعض الأحوطيات إلى ما قبله، وقد أدت كثرة الأحوطيات في الفقه المتصل بحياة الناس إلى تضييق وتشدد، لحق بالإسلام منه أذى كثير”، وهذا “المجموع التراكمي” من الأحوطيات يؤدي إلى إلصاق الأوصار والأغلال التي أمر النبي صلى الله وسلم بوضعها عن الأمة، والحق أن الشريعة الإسلامية قائمة على التيسير لا على التعسير، يقول الشيخ: “الشريعة الإسلامية مبناها على اليسر لا على العسر، وتعليمها للناس مبني على التيسير لا على التعسير، والدعوة إليها قائمة على التبسشير لا على التنفير”، وهذا الموقف هو ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو يختار أيسر الأمرين كلما خيّر بينهما.
السؤال المطروح أنه كيف يمكن تحقيق التيسير في الفقه؟
ردا على هذا السؤال نجد الشيخ ينتهج منهجا يتمركز على نقطتين ويدعو إلى محورين: أولهما: تيسير عرض الفقه لفهم المسلم إياه بأسلوب سهل معاصر، ولغة مبسطة غير مغربة، وبيان منطقي سليم يخاطب العقل المعاصر، وصياغة جديدة للمباحث الفقهية، وشرح مقادير الأحكام بالمصطلحات الحديثة والتطبيقات المعروفة المتداولة بين الناس، وربط مقاصد الشريعة بأحكامها كتابة وبيانا حتى يسوغ ذهن الطالب تعليل الحكم الصحيح والحكمة المقصودة من العمل.
وثانيهما: تيسير الفقه العملي لتطبيقه على الواقع ودفع المشقة عن الفاعل، وترجيح التخفيف على التشديد، وتقديم الرخصة على الحيطة أو العزيمة، ومراعاة الظروف والمقتضيات العصرية وأمزجة الناس وطبائعهم، وتضييق أمر الإيجاب والتحريم بتحري الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يشملا ما ليس بمكتوب أو محرم، والاستفادة من جميع المذاهب المتبوعة وأقوال السلف في المسألة واتخاذ موقف أو رأي فيها بعد كل التتبع والتفحص، وما شابه ذلك.
ومن تتبع السيرة النبوية وأحاديث الرسول لوجد الشهادات المتواترة على الأخذ بالتيسير في الأحكام ومراعاة طبائع الناس ومعاملتهم وفق تقاليدهم ما لم يكن إثما أو خطيئة، ومنها إذن النبي صلى الله عليه وسلم باللعب في مسجده الشريف للأحباش والأمر بحفل الغناء للجواري عند الأفراح والأعراس والأعياد.
ولشرح هاتين النقطتين ليراجع القارئ كتاب الشيخ “تيسير الفقه للمسلم المعاصر، في ضوء القرآن والسنة”، فإنه جامع للأصول والتحليلات وحافل بالأمثلة والتطبيقات.
الدعوة إلى نبذ العصبية المذهبية
لا يصح للفقهاء الذين يعرفون الأحكام ويدرسونها، ويعلمون مستدلاتها وتعليلاتها ويقدرون على تحري مقاصد الشرع فيها ومصالح العباد، ويستطيعون المقارنة بين آراء السلف فيها وترجيح بعضها على بعض، أن يضيقوا الواسع ويحجروا الفسيح على الأمة حتى يرون الخروج عن مذهبهم إلى غيرهم شبه الحرام وكأنه خروج عن الشريعة، وإن قوي دليلهم وترجح رأيهم، وفيه موافقة مصالح الناس، هذا الموقف الجاف قد أوقف مسير تطبيق الشرع على الواقع ومواكبة القضايا العصرية.
ومما لا مجال للخلاف فيه أن قضايا الأمة المستجدة والمسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الحديثة تقتضي لحلها نظرة اجتهادية مستقلة، وتحررا من القيود المذهبية والمسلكية، وأخذا مباشرا بالنصوص الشرعية وتنقيحا دقيقا لتعليلات الأحكام، وتوخيا هادفا لإنفاذ مقاصد الشرع حتى تتوفر بديلات لنظام العالم السائد وتحقق جدارة الشرع بتقديم الحلول الأوفق والأصلح في الدنيا المعاصرة، وهذا هو السبيل الذي يضمن الحفاظ على الشريعة وحيويتها ويجعلها قابلة للتطبيق وإلا ينبذ الشرع وراء الظهور ويغيب عن ساحة العمل، يقول الشيخ مبديا مخافته على ضياع الشريعة بهذا التعصب المذهبي والتحجر النظري: “ليس هذا الجمود في مصلحة الشريعة ولا في مصلحة المذهب المقلّد، وقد ثبت أن الذين جمدوا على الأقوال المعتمدة في مذاهبهم، ولم يقبلوا أي اجتهاد آخر من غيرها، تسببوا في غياب الشريعة كلها عن ساحة التقنين والقضاء، وبالتالي غياب مذهبهم أيضا، ومعنى هذا أنهم ضحوا بالشريعة من أجل المذهب فخسروا الاثنين جميعا، إن المنافسة اليوم بين الشريعة الإسلامية بجملتها وبين القوانين الوضعية، فينبغي الانتصار للشريعة بدل الانتصار لمذهب مقلد”.
سلك الشيخ هذا المسلك في فقهه وفتاويه، فكان يأخذ من المذاهب المتبوعة وآراء من اندرست مذاهبهم ونقلت أقوالهم مثل الليث والأوزاعي وغيرهما، فكان يفتي – على سبيل المثال – بإيجاب الزكاة في الخضراوات ومنتجات الحقول على رأي أبي حنيفة رحمه الله ولكن مع تقدير النصاب لها خلافا له، ولا يوجب الزكاة في حليّ المرأة المستعملة على رأي غير الإمام أبي حنيفة.
إنه يجتهد كل الاجتهاد أساسا على أدلة الأحكام أقواها وأصحها، ومراعاة لمصالح العباد أحوجها وأوفقها، ليطبق الشرع قدر المستطاع ويحقق مقاصد الشرع في أحكامه، وكان أهلا للاجتهاد بلا منازع إذ توفرت لديه شروط الاجتهاد، وكانت أدلة الأحكام عنده علاوة على الكتاب والسنة سنن الخلفاء الراشدين واجتهاداتهم العملية، ثم كان يستفيد من أقوال الفقهاء وآرائهم جميعا في تفسير النصوص وتأويلها واستنباط الأحكام منها وهو يؤكد منهجه لأخذ أقوال السلف أو ردّها ويقول: إنه ما كان منها موضع إجماع متيقن فهو حجة لا أعدوه، وما لم يكن كذلك فهو رصيد ثمين أستفيد منه وأنتفع به، ولكني لا ألتزم مذهبا واحدا بكل أقواله واجتهاداته، فقد يسوغ هذا للمرء في خاصة نفسه.
والذي يتتبع آراء السلف في مسائل الفقه ويراجع كتب الحديث والتاريخ لأدرك تراثا قيما للسلف وثروة هائلة للنظرات الاجتهادية والدراسات الفقهية لهم زيادة على ما نقل وأثر عن طريق المذاهب الأربعة المتبوعة، كان الشيخ القرضاوي يدعو إلى الاستفادة من كل التراث المأثور إلينا دون حصر في أقوال المذاهب المتبوعة، وبهذا يحصل العلم الأصيل ويتحقق الاجتهاد المستقل، ولا يعنى بالاجتهاد المستقل نبذ جميع الآراء السابقة واتخاذ موقف مبدع لا نظير له في السلف بل الاجتهاد المطلوب اليوم هو فحص كل التراث وتحقيق كل الأدلة وترجيح الأقوى والأوفق والأنفع.
أذكر مثالا هنا حتى تتبين نظرة الشيخ الاجتهادية ومنهجه التطبيقي، وتتجلى قريحته النافذة وأريحيته الفائقة، إنه حقق مسألة الزكاة في العسل وقارن بين الأدلة والآراء للفقهاء ورجح موقف وجوب الزكاة فيه على نصاب زكاة الزرع من العشر ونصف العشر، ولما بدأ الكلام في زكاة السوائم التي تتخذ للدر والنسل فإنها تجب الزكاة في أصلها بتقديرات شرعية معروفة ولا تجب في منتجاتها لأنها تابعة للأصل كما يراه أصحاب المذاهب وكثير من الفقهاء، وعند تحقيق المسألة درس الواقع دراسة جيدة وبين أن الحيوانات والدواجن غير السوائم التي تتخذ للإنتاج والاستغلال والاستثمار بمنتجاتها لا لتجارة أصلها حيث لا تعتبر عروضا للتجارة، وراجت هذه الصناعات وأصحبت لها مصانع ومزارع ضخمة، فقاس الألبان الحاصلة من الدواجن والمنتجات من الحيوانات على العسل الناتج من النحل وأوجب الزكاة فيها مثل ما يجب على العسل يعني العشر من صافي إيرادها، ووجهه فيه أن الوضع الحالي والاقتصاد الجليل والأرباح الفادحة في الدواجن وتجارة الألبان واقتناص دود القز ومزارعها الخاصة لإنتاج ثروة ثمينة من الحرير الفاخر تقتضي أن تجب فيها الزكاة لأنها أصبحت اليوم صناعات ضخمة ذات ثروات هائلة وأرباح جمة، فتجب الزكاة في المنتجات الحيوانية قياسا على العسل، وللمسألة تفصيل وتفريع وحالات لا يمكن الخوض في بيانها هنا، وهو يؤصل قاعدة جامعة في هذا الصدد: (كل شيئ لا تجب الزكاة في أصله، تجب في نمائه وإنتاجه، كالزرع بالنسبة للأرض، والعسل بالنسبة للنحل، والألبان بالنسبة للأنعام، والبيض بالنسبة للدجاج، والحرير بالنسبة للدود.) وهذا ما ذهب إليه الشيخ كان رأيا للإمام يحيى من فقهاء الشيعة حيث أوجب الزكاة في القز كالعسل لتولدهما من الشجر، لا في دوده كالنحل، إلا إذا كان للتجارة، ويروي عن جماعة من الفقهاء الزيدية إيجاب الزكاة بربع العشر على تقويم هذه الحيوانات نفسها مع نتاجها جمعا وجعلها عروضا للتجارة.
هذا نموذج واحد عرضته لبيان مدركته الاجتهادية ونظرته الثاقبة في تحقيق المسائل وبيان الأحكام، وينبغي هنا التنبيه بأمر حساس، وهو خطورة تلفيق المذاهب الفقهية، الذي نهى العلماء عنه منعا من العبث بالشريعة واتباع هوى النفس، ولكن الأخذ من المذاهب الفقهية المختلفة أساسا على رجحان الأدلة حق مشروع لكل عالم مجتهد بل ربما يصبح مطلبا حسنا إذا كان الشرع يحتفظ به ويسهل العمل به في مواضع المشقة، ويشترط لقبوله شيئ آخر أن لا يكوّن مجموع الجزئيات صورة جديدة للحكم، لم يقل به أحد من السلف ولا يوافق عليه أحد من المذاهب.
كتبه المختلفة في الفقه وأصوله مليئة باجتهاداته النظرية وتطبيقاته الواقعية، يجوز الاتفاق والاختلاف مع آرائه ولكن لا يختلف اثنان في درك علمه وسعة نظره وصلابة اجتهاده، كتابه “الاجتهاد في الشريعة الإسلامية” لهو خير دليل إلى معرفة دواعي الاجتهاد وطرقه وإلى خصوبة حقل الشريعة المطهرة ومرتعها الغني، وقد ألف كتابا مسمى بفقه الزكاة كان أطروحته للدكتوراه، وهو شاهد عدل على مكانته الاجتهادية ومنهجه الرصين إذ يجمع بين التأصيل الفقهي والتناول المعاصر للزكاة، ويمثل موسوعة قيمة معاصرة لمسائل الزكاة تربط بين مقاصد الشريعة وقضايا العصر، ويحسن مطالعة كتابه الضافي “الحلال والحرام” في معرفة معالجة قضايا الحياة العامة من منظور شرعي رشيد على نظرة اجتهادية عائدة إلى أصول الدين.
إزالة لشبهة دارجة أن الشيخ كان داعية إلى نبذ المذاهب المتبوعة على الإطلاق لكل أحد وإلى الاجتهاد برأي مستقل أخذا بحديث أو حديثين وردا في كتب الحديث الصحيحة، أحيل القارئ إلى كتابه القيم: “كيف نتعامل مع التمذهب والاختلاف” ليطالعه بنظرة فاحصة، فيجد أن الأهلية للاجتهاد مطلوبة، والإحاطة بكل جوانب التحقيق في المسألة مفروضة مع ضرورة التسامح بين المذاهب وحقيقة الاختلاف في الأحكام الفقهية ووجوب التحرر من العصبية المذهبية البغيضة.
الحاجة إلى الجمع بين الحديث والفقه
من العادة الجارية والتقليد السائد أن يُدرَّس الفقه في المدارس والكليات الإسلامية من كتب الفقه المرتبة على مذهب من المذاهب الفقهية ويؤخذ الحكم الشرعي للإفتاء من كتب الفتاوى المعتمدة عليها في المذهب ويؤخذ الحديث دليلا للمذهب ومعرفة لمستندات الأئمة، لا تناقش المسائل في ضوء النصوص والأدلة كلها دون انحياز إلى مذهب معين، بل يعتمد في القول الفصل على المذهب المعين فحسب ويحاول إثباته على أي وجه ضعيف، كان الشيخ يحرض دائما على دراسة الفقه وتلقي الأحكام في المسائل والإفتاء في قضايا الناس اعتمادا كليا على أحاديث الأحكام الصحاح أو مقاربتها من الحسان، والقول بما يتبين بعد التحقيق، نعم يسوغ للمرء الالتزام بمذهب واحد في خاصة نفسه ولكن حين اقتضت الحاجة إلى حل قضايا الأمة ودعي إلى الإفتاء في مسائل الناس لوجب على المفتي المجتهد أن يبذل قصارى جهده في تحقيق المسألة وبيان الحكم بناء على رجحان الأدلة وتحقيقا لمقاصد الشريعة.
من الاقتضاء اللازم في دراسة الأحاديث التفريق بين التشريع للأمة واتخاذ رأي في أمور الدنيا، والمعرفة الصحيحة لأحاديث التشريع والسنن التي لا يراد بها التشريع، فما جاء من أمور المعيشة والحياة على سبيل الرأي لا على سبيل التبليغ عن الله فليس بشريعة يجب اتباعها، من الأمثلة له قول عائشة رضي الله عنها: “لا يبقى الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بفركة معزل”، أخذ به الحنفية في تحديد أكثر مدة الحمل وحسبوه حديثا مرفوعا حكما، وهذا خطأ، لأن معرفة مدة الحمل لم تكن من أمر التشريع بل كان اجتهاد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقولها على ظروف عصرها، فإن المدة تعلم بالمتخصصين في الموضوع وبالظروف والأحوال، والمثال الآخر له إيجاب الدم أو الفدية على ترك بعض الواجبات في الحج، أصحاب هذا الرأي أخذوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: “من ترك نسكا فعليه دم”، هذا لم يثبت مرفوعا مسندا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تحليل الشيخ القرضاوي أنه يحتمل أن ابن عباس قاس هذا على قتل الصيد فسوى بين الأمرين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر خلافه إذ سئل عن تقديم وتأخير واجبات الحج فقال: “افعل ولا حرج”، فالقول بإيجاب الفدية تشديد على الخلق وإلزام بما لم يلزمهم الله به، أقصر على هذين المثالين لمخافة إطالة المقال، ومن أراد المزيد في هذا الصدد فليراجع إلى فتاوى الشيخ المعاصرة وكتبه الفقهية الأخرى حيث يجدها زاخرة بالأمثلة للاستنتاج المبتكر واستخراج الأحكام حرا، استنادا إلى الأدلة القوية الراجحة والنصوص الصحيحة الثابتة.
وقد تم إصدار الأعمال الكاملة للشيخ من الدار الشامية، دولة قطر حيث يعدّ هذا خدمة عليا لتراث الشيخ القيم ونشرا لإنتاجاته العلمية والفكرية والدعوية للدارسين والعلماء والفقهاء والمفكرين، نفعنا الله بمآثره وجزاه عنا خير الجزاء.
[2] أصدرت موسوعة فقهية جامعة بين المذاهب الأربعة من قبل وزارة الأوقاف لدولة الكويت