منهجية الإفتاء في نوازل «كورونا»
الشريعة الإسلامية بطبيعتها فيها من الصلوحية والعموم والشمول ما يجعلها قادرة –بفعل المجتهدين فيها– أن تبسط سلطانها على الواقع، وتفي بحاجة المستجدات والنوازل.
فأما صلوحيتها فلما تضمنته من أدلة تشتمل على مرونة وسعة تستوعب كل جديد: قياس، مصلحة مرسلة، استحسان، قواعد، مقاصد.. الخ.
وأما أنها عامة، فهي رسالة إنسانية لكل الخلق، لم تنزل لمكان دون مكان، ولا لزمان دون زمان، ولا لقوم دون غيرهم، وإنما هي رسالة الزمان والمكان والإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما أنها شاملة، فهي تشمل تشريعات لكل مجالات الحياة، فليست مقصورة على مجال دون مجال، وإنما لكل مناحي الحياة.
وفي هذا يروي شيخنا الإمام يوسف القرضاوي عن الإمام حسن البنا في «خصائص رسالة الإسلام» قولة وافية معبرة؛ إذ يقول: «إنها الرسالة التي امتدت طُولاً حتى شملت آباد الزمان، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة»(2).
دقة الإفتاء وخطورته:
ولا شك أن الإفتاء منصب عظيم، حتى أطلق عليه ابن القيم مقام «التوقيع عن رب العالمين»؛ ولهذا فهو شديد ودقيق وخطير، وقد كان الصحابة يتهربون منه ويحيل بعضُهم على بعض الفتاوى والاستفتاء.
وفي هذا المعنى يقول الإمام مالك رحمه الله: «ما شيء أشد عليَّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حُكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه في بلدنا، وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب، وعلياً، وعلقمة، وخيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذٍ يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يُفتح لهم من العلم»(3)، هذا في عصر الإمام مالك، فكيف لو عاش لعصرنا ورأى وسائل التواصل فماذا عساه أن يقول؟!
معالم منهجية في الإفتاء بشأن «كورونا»:
وللنظر في المستجدات عامة، ونازلة فيروس «كورونا المستجد» خاصة، منهجية من اللازم اتباعها للوصول إلى حكم شرعي صحيح، ومن أهم هذه المعالم:
أولاً: لا ينظر في النوازل إلا المؤهلون لها:
لا بد للناظر في نصوص الشريعة عامة، والنوازل خاصة، أن تتوفر فيه مؤهلات مذكورة ومقررة في كتب الأصول، وهناك من الأئمة من أجمل خصالاً وآداباً فضلاً عن المقومات، ومن ذلك ما قاله الإمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولهاً: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس».
قال الإمام ابن القيم معلقاً على هذه الخصال: «وهذا مما يدل على جلالة أحمد، ومحله من العلم والمعرفة؛ فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه»(4)، ثم شرح الإمام ابن القيم كل خصلة منها شرحاً وافياً في الموضع نفسه.
وفي التأني وعدم التسرع في الفتوى، جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: «إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن»(5)، وقال أيضاً: «ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي»(6).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في ذلك: «حقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب»(7).
هذه جملة من الخصائص والخصال التي ينبغي أن يتحلى بها من يتصدى للنظر الشرعي في النوازل؛ فضلاً عن شروط المفتي أو المجتهد التي تشمل العلم بالقرآن والسُّنة ومواضع الاختلاف ومواضع الاتفاق ومقاصد الشريعة وعلوم العربية ونحو ذلك مما هو مكرر ومقرر في كتب الأصول.
ومن المؤسف أن الفتيا في عصرنا تتعرض للانتهاك من غير المؤهلين لها؛ فيفتي من يعرف ومن لا يعرف، من هو مؤهل ومن ليس مؤهلاً، في حين أنهم عند التخصصات الدنيوية في الطب والهندسة وعلوم الأرض بل علوم الدنيا لا يتجرؤون هذه الجرأة، وإنما يستمعون للطبيب ولا يناقشون، وللمهندس ويستمعون، ولعالم الفلك ولا يجادلون، وللصيدلي وينصتون، إلا الفتوى في دين الله فإنها –مع الأسف– أصبحت مباحة الحِمَى!
ثانياً: فقه النازلة:
إن فقه النازلة والواقع المحيط بها وملابساتها وطبيعتها والتعرف إلى تفصيلاتها الجزئية بدقة وأمانة يعتبر الفيصل في الاجتهاد، وتنزيل الحكم الشرعي وتحقيق مناطه، فإن عين المجتهد تقع أول ما تقع على النازلة وفقهها والوقوف على كل ما يتعلق بها، ثم يذهب للشرع الشريف ونصوصه المقدسة يلتمس لها العلاج والدواء والحكم الشرعي الصحيح.
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله»(8).
فابن القيم هنا يبين مركزية فقه النازلة وما يلابسها في الواقع، ويعتبرها الخطوة الأولى في الاجتهاد التي يتأسس عليها فقه الواجب فيها، فبعدما يتعرف إلى النازلة يذهب للشرع الشريف بنصوصه ومقاصده ليبحث لهذه النازلة عن حكمها الصحيح.
ومن فراسة المفتي وفطانته أن يستفسر عن كل شيء خاص بالنازلة؛ كي يستوعبها تماماً، وهذا يناظر عمل الطبيب؛ فإنه يسأل المريض أسئلة كثيرة حتى يقف على التشخيص السليم للمرض ليصف له العلاج الناجح والدواء الناجع؛ ولهذا دائماً هناك شبه كبير بين تعامل المفتي مع الأديان وتعامل الطبيب مع الأبدان.
ثالثاً: العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالنازلة:
ومن معالم المنهجية الواجب اتباعها في الفتاوى بالنوازل –بعد الاطلاع على النازلة بتفصيلاتها كما سبق- أن يكون المفتي أو المجتهد على علم بالأبواب الفقهية والمسائل التي تندرج تحتها النازلة إن كانت مما يندرج تحت باب أو يتخرج على مسائله.
وقد تكون النازلة جديدة غير مسبوقة؛ فيتلمس لها المجتهد بعلمه وخبرته وملكاته ومهاراته حكم الشرع لها من خلال ما استقر لديه من الكليات والمعاني والمقاصد وروح التشريع بشكل عام.
فإذا كانت المسألة النازلة أو المستجدة تقع في باب العبادات فيجب استحضار مسائل العبادات ومقاصدها ومراد الشارع العام منها، وإذا كانت تقع في أحكام الأسرة فعلى هذا النحو، وهكذا في الأبواب كلها.
وفي نازلة «كورونا»، فإنها تتصل بأحكام المساجد والصلوات والصيام والاعتكاف والحج والجنائز وبعض الأحكام الاجتماعية؛ فيجب على الفقيه الذي تأهل للنظر ويتصدى للإفتاء والاجتهاد أن يكون محيطاً إحاطة كاملة بهذه المسائل ويستحضرها ويستظهرها؛ شكلاً وروحاً، أحكاماً ومقاصد، بالأسباب والشروط والأركان والموانع والعزائم والرخص والصحة والفساد والبطلان؛ حتى يتمكن من التخريج والإلحاق، أو الاجتهاد من جديد إنشاءً؛ مستحضراً مقاصد الشارع من الباب الذي تنتمي له المسألة محل الاجتهاد والنظر والإفتاء.
رابعاً: رعاية المقاصد:
ومن المعالم المنهجية في الإفتاء بالنوازل رعاية مقاصد الأحكام؛ فإنها ضابطة للعقل الفقهي، وناظمة لحركة الإفتاء والنظر في النصوص والاستنباط منها، فوظائف المقاصد متنوعة ومهمة ومحورية.
وهذا ما حدا الإمام الشاطبي أن يحصر مقومات درجة الاجتهاد في وصفين: فهم مقاصد الشريعة، والقدرة على الاستنباط في ضوئها، يقول: «إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: الممكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
أما الأول؛ فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف؛ إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً، فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
وأما الثاني: فهو كالخادم للأول؛ فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً، ومن هنا كان خادماً للأول»(9).
ونص الشاطبي هذا واضح وجلي ومعبر عن المراد بهذا المعلم، وأهميته في النظر الشرعي، ومحوريته في الاجتهاد وشرعيته وصحته.
خامساً: رعاية المآلات:
قد يكون المجتهد متمكناً من استيعاب النازلة، وقد يكون متضلعاً من علوم الشريعة، ومتحققاً بمقومات الاجتهاد وشرائطه، ولكنه لا يملك مهارة التنزيل التي تتضمن النظر إلى الموازنات بين المصالح بعضها وبعض، والمفاسد بعضها وبعض، والمصالح والمفاسد، وكذلك رعاية المآلات واعتبارها قبل التنزيل وأثناء التنزيل.
فقد يكون الأمر واجباً، ثم يتحول إلى حرام؛ بسبب ما يفضي إليه من مآل فاسد أو ضار، وقد يكون محرماً لكنه يباح أو قد يصل للوجوب بسبب رعاية المآل، وهكذا.
ولهذا قرر الإمام الشاطبي أن «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة»(10).
وبهذه المعالم يكون المجتهد أقرب للسلامة، ويكون الاجتهاد أدنى للصحة، وتكون الفتوى محققة لمقاصدها؛ صحة في النظر، وتحقيقاً للمناط، واستيعاباً للواقع، وتحكيماً للمقاصد، ورعاية للمآلات، والله تعالى أعلى وأعلم أحكم.
_______________________________________________________________
(1) الرسالة: 20. محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق أحمد شاكر. مكتبه الحلبي، مصر. الطبعة: الأولى، 1358هـ/ 1940م.
(2) الخصائص العامة للإسلام: 105. لشيخنا الإمام يوسف القرضاوي. مؤسسة الرسالة. بيروت. لبنان. الطبعة الثانية. 1404هـ 1983م.
(3) ترتيب المدارك 1/ 179. مطبعة فضالة المحمدية. المغرب.
(4) إعلام الموقعين 4/ 152. للإمام ابن قيم الجوزية. تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. 1411هـ/ 1991م.
(5) ترتيب المدارك 1/ 178.
(6) المرجع السابق: 1/ 144.
(7) إعلام الموقعين 1/ 9.
(8) إعلام الموقعين 1/ 69.
(9) الموافقات للشاطبي: 5/ 41-43. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى. 1417هـ/ 1997م.
(10) الموافقات: 5/ 177-178.
(المصدر: مجلة المجتمع)