منظومة التَّعليم القرآنيّ.. حصانةٌ مجتمعيّة
بقلم جمال غول
تعملُ جميع دول العالم على حماية مجتمعاتها ثقافيّاً وفكريّاً من خلال تقوية موروثها الحضاريّ بكلِّ الوسائل المتاحة، وتعزيزه في نفوس الأجيال، بدءاً من الألعاب الموجَّهة للأطفال في سنِّ الحضانة إلى مختلف الأعمار، والوقوف سدّاً منيعاً ضدَّ الأفكار المتطرِّفة الهدَّامة للمبادئ والثَّوابت.
وممَّا هو معلوم أنَّ أخطر مرحلة عمريَّة هي المرحلة التي تتشكّل فيها شخصيَّة أولادنا، والتي غالباً ما تصلُ إلى عشر سنوات، وهي المرحلة التي تسعى فيها الدُّول إلى تطعيم الأطفال بكلِّ ما يغرس فيهم محبَّة وطنهم ودينهم وأمَّتهم، كسعي أوليائهم إلى تطعيمهم باللّقاحات ضدَّ مختلف الأمراض، ولذلك فإنَّ الباحثين لا يتوقّفُون عن الغوص في تمحيص النَّظريّات التي تُعنى بهذا الجانب وتطويرها وفق تطوُّر المجتمعات، وما يصحبُه من تغييرات.
فإذا كانت كثير من الدُّول تبذل تلك الجهود الكبيرة إلَّا أنَّها ما لم يخالط الإيمان بشاشة قلوب مسؤوليها فلن تصلَ إلى المنظومة التي جاء بها الوحي الإلهيّ، ألا وهي منظومة التَّعليم القرآنيّ التي لا تدانيها أيُّ منظومة تحصينيَّة في الوجود.
إنّ وظيفة التَّعليم القرآنيّ وظيفةٌ تربويَّة تُنمِّي الرُّوح الإيمانيَّة، وتُهذِّبُ النَّفس الإنسانيَّة، وتُغذِّي العقل بالأفكار والمعارف النُّورانيَّة، فهي تربة خصبة لتنشئة أجيال مشبَّعة بالعقائد الإسلاميَّة الصَّحيحة، والأخلاق الفاضلة الرَّفيعة، والقيم الإنسانيَّة النَّبيلة، والولاء الصَّادق لأوطانهم، والمنافحة عنها بالنَّفس والنَّفيس.
كما أنَّ لها دوراً أساسيّاً في تفتُّق المواهب واكتساب كثير من المهارات، كتقوية الذّاكرة، وتوسيع مخزون المفردات، وتقويم اللِّسان، والتَّزوُّد بالمعارف التَّاريخيَّة والعلميَّة والحقائق الكونيَّة من خلال تعلُّمهم قصص الأنبياء والرُّسل، وتاريخ الأمم السَّابقة، وأخبار القرون الغابرة، كلُّ ذلك يُصدِّقُه التَّاريخ، فالفاتحون الأوائل وقادة ثورتنا المباركة ما هم إلَّا نتاج هذه الوظيفة العظيمة.. وكان أكبر الدَّوافع في نبوغ علماء الإسلام تفوُّقهم في شتَّى مناحي المعرفة هو القرآن العظيم الذي يُحفِّزُ على العلم والتَّفكُّر والتَّدبُّر واستكشاف قوانين الكون وسُننه، حيث كانت مسيرتهم التَّعليميَّة بالقرآن الكريم في الكتاتيب والمدارس القرآنيَّة والزَّوايا. وما زال الحاضر يشهد بهذا التَّفوُّق إلى يوم النَّاس هذا، فما خبر الفائزين الأوائل في الامتحانات النِّهائيِّة في كلِّ عام عنَّا ببعيد.
إنَّ وظيفةً بهذه الأبعاد وهذه الفاعليَّة حقُّها أن يُعضَّ عليها بالنَّواجذ، كيف لا، وهي وظيفة تضمن لنا -بإذن الله تعالى- أجيالًا واعية، ومنتجة، وسالمة من الآفات المجتمعيَّة التي أعجزت المنظومات العقابيَّة في العالم كلِّه عن معالجتها والحدِّ منها، أليس من الحكمة أن ألا يُستغنى عنها، كما لا تستغني الدُّول عن منظومتها العسكريَّة؟
عندما تُعتمد هذه الوظيفة كمنظومة تعليميَّة رسميَّة ستضمن لنا -بإذن الله تعالى- تخريج القاضي العادل، والتَّاجر الصَّدوق، والمهندس المؤتمن، والطَّبيب الثِّقة، والبنَّاء المتقن، والمواطن الصَّالح، لنوفر بذلك عديد الفواتير الضَّخمة الناتجة عن الفساد الذي ينخر تلك المجالات وغيرها.
ولا يكون اعتماد هذه المنظومة رسمياً إلَّا بجعلها إلزاميَّة، وتعميمها على المقرَّرات الدِّراسيَّة في جميع الأطوار، بما فيها المرحلة الجامعيَّة، ولا يمكن أن تكون منظومة رسميَّة وهي قائمة على التَّطوُّع دون الارتقاء بها إلى الاحترافيَّة المهنيَّة، ودعم المتفرِّغين لها من المتعلِّمين بما يفتح لهم من آفاق دراسيَّة أو مهنيَّة، وتقديم المساعدات والمنح التي يحتاجونها خلال مسارهم التَّعليميِّ.
كما أنَّ من حقِّ المعلِّمين وأساتذة التَّعليم القرآنيِّ أن يَحضَوا بمقام اجتماعيٍّ لائق، يجعلهم من أعلى القدوات المجتمعيَّة، ويُطبَّق عليهم مبدأ الخيريَّة الذي نطق به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما في الصَّحيح: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ).
إنَّ أيَّ تعطيل أو تأخير لاعتماد هذه المنظومة التَّعليميَّة سَيُعمِّقُ من تخلِّفنا، ويُهدِّد أمننا الرُّوحيّ والحضاريّ بالتَّلاشي والزوال لا قدّر الله “ولات ساعة مندم”، وإنَّ الإسراع في اعتمادها منظومة رسميَّة سيفتح كلَّ أبواب الخير على المجتمع والأمَّة في شتَّى المجالات، وفي الآخرة رضوانٌ من الله وجنَّاتُ خُلد، فرحِمَ الله من سعى في ذلك بحسْب مقامه الذي أقامه الله عليه.
(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)