مقالاتمقالات مختارة

منزلة العلماء .. وحق مشورتهم

بقلم فضيلة البروفيسور الأمين الحاج محمد (رئيس رابطة علماء المسلمين)

إن الأمور إذا الأحداث دبرهـــــــــا دون المشايخ ترى في بعضها خللاً
الدعوة إلى الله عز وجل وظيفة الأنبياء والمرسلين، وورثتهم من العلماء الحكماء الربانيين، ولا تكون إلاَّ على بصيرة وعلم: “أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي” [سورة يوسف: 108.]، “ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ” [سورة النحل: 125.]، ولا بصيرة ولا حكمة إلاَّ بالاتباع والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والسلف العظام: (فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً) [رواه عنه القاضي إسماعيل بن اسحاق في المبسوط كما قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم صـ 394.]، كما قال مالك الإمام.
فهي تحتاج أول ما تحتاج إليه بعد توفيق الله عز وجل إلى تضافر الجهود واستنفار الجميع: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ” [سورة آل عمران: 104.]، فحاجة الدعوة إلى الله إلى المشايخ والكبراء لا تقل عن حاجتها إلى الشباب الجرآء الأقوياء، وحاجتها إلى العامة والدهماء لا تقل عن حاجتها إلى الصفوة والعلماء، فكل ميسر لما خلق له، وكل شريحة من هذه الشرائح تقوم بدور لا يستطيع غيرها القيام به كما ينبغي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر” [متفق عليه.]، ففجوره لنفسه وشجاعته واقدامه ينفع الله بهما المؤمنين، وقال: “إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم” [سنن الترمذي رقم [2702]، عن أبي الدرداء.]، وقد قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى سعد بن أبي وقاص ان له فضل على من دونه.
لا ينبغي لشريحة من هذه الشرائح أن تستهين بالأخرى أو تسخر أو تستهزئ بها، لا بلسان المقال ولا بلسان الحال، دعك أن تسعى لعزلها أو تهميشها سيما إن حدث شيء من ذلك من الشباب نحو المشايخ ولو بطريقة عفوية فإنها مصيبة وأي مصيبة!، أمَّا إن حدث ذلك نتيجة تدبير وتخطيط فالمصيبة أعظم والعاقبة أوخم؛ لأنَّ هذه هي الحالقة التي تحلق الدِّين وليس الشَّعر كما قال الناصح الأمين والرسول الكريم: “دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدِين” [صحيح سنن الترمذي للألباني رقم [2510]، وقال: حسن.]، الحديث.
لقد حث الشارع الكريم على توقير المشايخ والكبراء، وأمر أن ينزلَ الناسُ منازلهم، وعرف قدرَهم الخلفاءُ الراشدون والأئمة المهديون، وحث على ذلك السلف والحكماء، وإليك طرفاً من ذلك.
من الأحاديث:
1. جاء في قصة مقتل عبدالله بن سهل بخيبر، وقد قتله اليهود وانكروا قتله.
فعندما ذهب محيصة وأخوه حويصة ـ وهو أكبر منه ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام محيصة وهو الذي كان بخيبر ليتكلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كبر كبر”، ـ يريد السن ـ فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة [صحيح سنن أبي دواد للترمذي رقم [4521]، والبخاري ومسلم.].
2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر كبر، فدفعته إلى الأكبر” [مسلم رقم [2271].].
3. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من إجلال الله تعالى، إكرام ذي الشيبة المسلم….” [صحيح سنن أبي داود للألباني رقم [4843]، وقال: صحيح.]، الحديث.
4. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ عبدالله بن عمرو ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا” [الترمذي رقم [1921]، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم [4943].].
• وفي بعض الروايات: “يوقر كبيرنا”.
• وفي بعضها: “من لم يجلَّ كبيرنا”.
• وفي بعضها: “من لم يعرف حق كبيرنا”.
5. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن ننزل الناس منازلهم” [الترمذي رقم [4842]، وفي سنده انقطاع، ورواه مسلم تعليقاً.].
6. وقال صلى الله عليه وسلم: “اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر” [صحيح سنن ابن ماجه للألباني رقم [3662]، وقال: صحيح.].
من الآثار
1. عن ابن عباس: (وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً) [البخاري.].
2. وعن سَمُرة بن جندب قال: (لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، فكنت احفظ عنه، فما يمنعني من القول إلاَّ أنَّ هاهنا رجالاً هم أسن مني) [متفق عليه مسلم رقم [964].] .
3. عندما جاء عمر رضي الله عنه لاستلام مفتاح بيت المقدس سنة 18هـ ووقع الطاعون بـ (عمواس)، استشار عمر المهاجرين في الدخول وعدمه فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: ادخل، ومنهم من قال: لا تدخل ومعك هذا العدد من المسلمين، فقال لهم: ارتفعوا عني، ثم قال: عليَّ بالأنصار، فاختلفوا عليه كما اختلف اخوانهم المهاجرين، فقال لهم: ارتفعوا عني، ثم قال عليّ بمسلمة الفتح، فلم يختلف عليه اثنان منهم واجمعوا على عدم الدخول، فقال عمر رضي الله عنه: إني صابح على ظهر [مختصر صحيح مسلم للمنذري، كتاب الطاعون رقم [1485].].
هذا كله قبل مجيء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً وكان معه حديث المنع من الدخول على الطاعون، (من سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه) [مختصر صحيح مسلم للمنذري، كتاب الطاعون رقم [1484].] ، فعندما سمع عمر ذلك من عبدالرحمن، حمد الله على توفيقه.
الشاهد أن مسلمة الفتح لكبر أسنانهم، ووافر خبرتهم، وعظيم تجاربهم لم يختلفوا على عمر في هذا الأمر فقدَّم عمر قولهم ومشورتهم على قول السابقين للإسلام حيث لا نص عنده في المسألة.
الحِكم:
1. من الحكم البليغة والأقوال السديدة البديعة التي نطق بها بعض العلماء الحكماء: (يجب أن يكون عند الحاكم شيخ عالم بمصالح الرعية، لأن نظر الشيخ أتم من نظر الشاب).
ما قاله هذا العالم الحكيم، هو الذي كان عليه رسولنا وخلفاؤه الراشدون، والعقلاء من الخلفاء والأمراء قبل.
• لقد كان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• وكان عمر وزيراً لأبي بكر رضي الله عنهما.
• وكان علي وزيراً لعمر رضي الله عنهما.
2. ولله در القائل:
إن الأمور إذا الأحداث دبرهــا دون الشيوخ ترى في بعضها خللاً
3. وقال أبو الطيب:
الرأي فوق شجـــاعة الشجعان هــو أول وهي المحــــل الثـــــاني
يعني الرأي السديد من ذوي الأسنان والخبرة والتجارب العقلاء.
الأمر بإجلال الشيخ وتوقيره (لا لكبر سنه، ولا لكمال قوته، بل لتناهي عقله الذي هو منبع العلم ومطلعه وأسه، والعلم يجري منه مجرى الثمر من الشجر، والنور من الشمس، والرؤية من العين).
والأمر بإجلال المشايخ لا يكون بالادِّعاء والتظاهر، ولكن بمعرفة قدرهم، وانزالهم منازلهم، وألاَّ يُقطع أمر دونهم.
أيها الشاب الحبيب، إذا أنعم الله عليك بنعمة من نعمه نحو: العافية، أو السلامة من العيوب، أو الغنى، أو الجاه، أو العلم، أو الذكاء، أو النباهة وسرعة الفهم والحفظ، أو الستر، أو زلاقة اللسان وسرعة البيان، فاحذر أن ترتد عليك هذه النعمة نقمة بالسخرية والاستهزاء، وانتقاص الآخر، والترفع على عباد الله، سواء كان ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال، الذي قد يكون أشد من لسان المقال.
بل واجب هذه النعمة، بعد الشكر عليها لمسديها، المواساة والرحمة والاحسان والرفق والتلطف بفاقديها أو بعضها.
واحذر سلب هذه النعمة فهي من فضل الله ورحمته عليك، وليس بجدك وكدك.
قال القرطبي رحمه الله: (فينبغي ألاَّ يجترىء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينيه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبق ـ حاذق ـ في محادثته، فلعله أخلص ضميراً، وأنقى قلباً ممن هو ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظمه.
وقد بلغ السلف إسراف توقيرهم وتصونهم من ذلك أن:
• قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه، لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع.
• وعن عبدالله بن مسعود قال: البلاء موكل بالمنطق، لو سخرت من كلب لخشيت أو أحول كلباً) [الجامع لأحكام القرآن جـ16/327.] .
وقال ابن سيرين: عيّرت رجلاً بالدَّين فابتليت به.
روي عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام أتاه راهب شيخ كبير مُتَقَهٍّل [أي شعث وسخ.]، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقال له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك؟، قال: هذا المسكين طلب أمراً لم يصبه، ورجا رجاءً فأخطأه [المصدر السابق جـ20/27.].
أيها السلفيون الأخيار، شيباً ورجالاً، وفقكم الله لكل خير وجنبكم كل شر، لا يستخفنكم الشيطان فإنه لكم عدو فاتخذوه عدواً، احذروا سلوك المغرورين المتعجلين المستخفين بالانداد والقرناء الذين لا يرغبون في كبير ولا شيخ ولا عالم إلاَّ ولا ذمة.
فالترابي عندما خلا له الجو، وأصابه الزهو والغرور، ووصل إلى سدة الحكم، أراد التخلص من كل رجالات الحركة الإسلامية بحجة أنّ دورهم قد انتهى وجاء دورالشباب، فدعاهم وأمر أن يعطى كل واحد منهم مصحفاً، وكأنَّ لسان حاله يقول لهم: تفضلوا غير مشكورين ولا مأجورين (بارك الله فيمن زار وخف)، كما يقول السودانيون.
هذه الحجة الكاسدة والدعوى الباطلة، والعذر الذي هو أقبح من الذنب، هو الذي سعى البعض ليبرر به محاولة عزل وتهميش بعض المشايخ عن بعض اللقاءات والمنتديات، بحجة أنها منتديات شبابية تفاكرية، الهدف منها العصف الذهني، واستخراج بنات الأفكار، فما للمشايخ ولها؟!.
من العيوب التي دبت وتسربت إلى بعض الأشخاص والهيئات السلفية أخيراً من بعض الجماعات التي بالساحة الآن، الضيق بالرأي المخالف في المسائل التي ليس فيها نص، ولا مفسدة ولا ضرر لا على الهيئة ولا على فرد من أفرادها، فيما يسوغ فيها الاجتهاد، ويسع الناس فيها ما وسع السلف الصالح.
هذا السلوك فيه مخالفة لما كان عليه سلفنا الأخيار، بل وخلفنا من المُحْدَثين الأبرار.
وهذا هو الدافع الأساس لعزل وتهميش بعض المشايخ الذين يعتقد أنهم يقيناً غير مقتنعين بما يريد البعض إجازته والموافقة عليه من غير اعتراض يذكر.
بينما نجد سلفنا الصالح الذين ينبغي علينا الاقتداء بهم والتأسي بطريقتهم، يحرصون أشد الحرص على سماع الرأي أو القول الآخر، ويأخذون ويردون على المعترض إلى أن يشرح الله صدره، وإليك هذه النماذج:
• روى عبدالرزاق وغيره عن الحسن رحمهما الله قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مغيبة ـ غاب عنها زوجها ـ كان يدخل عليها الرجال، فأنكرت ذلك، فأرسل إليها عمر، فقيل لها: أجيبي عمر، فقالت: يا ويلها مالها ولعمر؟، قال: فبينما هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت داراً فالقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات.
فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء، وقالوا له: إنما أنت والٍ ومؤدب، قال: وصمت عليّ، فأقبل عليه ـ أي عمر ـ، فقال: ما تقول؟، قال: إن كانوا قالوا برأيهم، فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها بسببك، قال: فأمر عمر علياً أن يقسم عقله على قريش [سنن البيهقي جـ8/322، تلخيص الجبير جـ4/39، ومصنف عبدالرزاق جـ9/458.].
• عنما عزم أبوبكر رضي الله عنه على حرب المرتدين ومانعي الزكاة لم يوافقه أحد على ذلك في أول الأمر، وشق عليه خاصة عدم موافقة عمر وأبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، فظل يناقشهم ويناظرهم حتى شرح الله صدورهم لما شرح الله له صدر أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً.
• وكذلك اعترض أبو عبيدة رضي الله عنه وانتقد عمر عندما عزم على عدم الدخول في الوباء لما نزل بالشام، فقال لعمر: أتفر من قدر الله؟، فرد عليه عمر بأريحية: ليت غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله.
• وروىالإمام الأوزاعي رحمه الله أن عمر بن عبدالعزيز قال لجلسائه: (من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال:
1. يدلني من العدل إلى مالا اهتدي له.
2. ويكون لي على الخير عوناً.
3. ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها.
4. ولا يغتاب عندي أحداً.
5. ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس.
فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلاَّ فقد خرج عن صحبتي والدخول عليّ.)
فعدم الضيق بالرأي المخالف، والصبر والتحمل لذلك، والأخذ والرد والمناظرة بالحسنى وأن يتهم كل منا رأيه ولا يغتر به، هي التي تقنع أو تقرب الشقة بين الآراء.
أمَّا الإقصاء والتهميش للمخالف ـ وقد يكون رأيه أوفق وأصوب ـ، هي التي توغر الصدور، وتزعج النفوس، وتولد سوء الظن.
أخيراً وليس آخراً أقول: لا خير فينا إن لم ننصح لاخواننا واحبابنا، ولا خير فيهم إن لم يقبلوا ذلك، ولا أخالهم إلاَّ قابلين له مسرورين به.
اللهم اغفر لاحبابي وقومي فإنهم مجتهدون، وأحسبهم ـ والله حسيبهم ـ أنهم مخلصون لعلمي أنهم أتوا من أمرين، هما:
1. حرصهم على إنجاح المشروع الذي قدموه، ومعلوم ان حب المرء وحرصه على الشيء يعمي ويصم.
2. عدم استشارتهم لبعض المشايخ من ذوي السن والخبرة والتجارب، واكتفوا باستشارة واختيار بعض الشباب المتحمس لهذه الفكرة.
أيها الأحباب اتهموا الرأي، واحذروا الاعتداد به والتعصب له فإن ذلك من المهلكات، ولنتذكر جميعاً قول الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائل: (أيها الناس اتهموا الرأي، فإنا كنا يوم أبي جندل، ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله لرددناه) [البخاري.] .
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى