مقالات مختارة

منزلة الاجتهاد في الإسلام

بقلم الشيخ وليد بن فهد الودعان

قد يظن بسبب تأخير الأصوليين مباحثَ الاجتهاد إلى آخر أبواب الأصول: أن الاجتهاد لا أهمية له عند الأصوليين، أو أنه قليل الأهمية بالنسبة لهم، وهذا الظن لا صحة له؛ فالاجتهاد والمجتهِد لهما منزلة عظيمة في الدين، ومكانة كبيرة في نفوس العلماء العاملين، بل إن الاجتهاد لهو غاية تترامى إليه أنظار ذوي الهمم من أهل العلم، وتطمح له نفوسهم، وإنما أخَّره العلماء؛ لأنه كالثمرة لما قبله، والطريق له في آنٍ واحد.

وهذا هو الشَّاطبي يتحدث عن مكانة الاجتهاد ومنزلة المجتهد، علمًا أن الشَّاطبي إنما عرض لذلك في أثناء كلامه، ولو قصد ذلك قصدًا لجف المداد، وانكسر القلم، لا سيما وهو صاحب اللسان والبيان والعلم والقرآن، غيرَ أن فيما طرق كفاية، وهو لأصحاب الإشارة في منتهى الغاية، والله الموفِّق.

يرى الشَّاطبي أن للاجتهاد أهمية عظيمة في الدين؛ فهو بمنزلة الإرث للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالعلم هو ميراث الأنبياء، والاجتهاد فيه تحصيل لذلك الإرث، وكلما كان المجتهِد أكملَ وأرسخ في العلم كان أكثر أخذًا لميراث النبوة[1].

والاجتهاد سبيل من سبل بقاء الدين واستمراريته؛ ذلك أن النصوص الشرعية قليلة لا تفي بالحوادث الكثيرة، ولا سبيل إلى شمولية النصوص لأحكام الحوادث إلا عن طريق الاجتهاد[2].
ويرى الشَّاطبي أن منزلة المجتهد منزلة رفيعة في الشريعة؛ فالاجتهاد حماية للدين، والمجتهدون هم حماة الدين[3].
ولمنزلة الاجتهاد الرفيعة كان الاجتهاد شرطًا لنيل الإمامة العظمى، ولنيل منزلة القضاء[4].
والمجتهِدون بالاتفاق داخلون في الجماعة، وهم أصحاب الفرقة الناجية.
قال الشَّاطبي بعد ذكر الأقوال في معنى الجماعة: “وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد، سواء ضموا إليهم العوام أم لا”[5].

وبالجملة فالمجتهد هو أولى من ينطبق عليه مسمى العلم، وقد قال الشَّاطبي: “لا ينكِر فضلَ العلم في الجملة إلا جاهلٌ”[6].
ولذلك جاء مدح العلماء في القرآن بذكر أوصافهم الحميدة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]، ثم قال: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].
قال الشَّاطبي: “فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم، لا من أجل غيره”[7].

وقال الشَّاطبي في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، “والذين يخشَون ربهم هم العلماء؛ لقوله: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾[8] [المائدة: 83].

وقال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، فحصر تعقُّل الأمثال في أهل العلم، والعلم بما في المثل هو مقصد الشارع من ضربه.
وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ [الرعد: 19]، ثم وصَف أهل العلم في سياق الآيات بقوله: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 20] إلى آخر الأوصاف، وكلها راجعة إلى العلماء العاملين.

قال الشَّاطبي: “وقال في أهل الإيمان – والإيمان من فوائد العلم -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2]، إلى أن قال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ [الأنفال: 4]، ومِن هنا قرن العلماءَ في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾[9] [آل عمران: 18].

وعلى كلٍّ، فما وصف به أهل العلم فأولى من يندرج في ذلك هم المجتهدون، وهذا يبين أهمية منزلة الاجتهاد، وعظم مكانته في الدين.

—————————————–

[1] انظر: الموافقات (1/ 85، 2/ 416).
[2] انظر: الموافقات (2/ 13).
[3] انظر: الاعتصام (1/ 126).
[4] انظر: الاعتصام (2/ 362)، وذكر الشاطبي أنه لحاجة الناس لهذين المنصبين وعدم وجود المجتهد المطلق جاز أن يتولاهما من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق.
[5] الاعتصام (2/ 452).
[6] الموافقات (1/ 85).
[7] الموافقات (1/ 91).
[8] الموافقات (1/ 91).
[9] الموافقات (1/ 92).

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى