مقالاتمقالات مختارة

مناهج العلوم الشرعية وإشكالية التعريف والتصور

مناهج العلوم الشرعية وإشكالية التعريف والتصور

بقلم مسعود صبري

تظل إشكالية المناهج العلمية والتربوية إشكالية كبرى، تؤرق الكثير من المعنيين من الأكاديميين والتربويين بشكل عام، وبشكل خاص في العلوم الشرعية، التي تعد أقل المجالات استفادة من المناهج التربوية الحديثة ومناهج طرق التدريس واستراتيجياته.

إن علوم الشريعة مازالت هي أقل العلوم تطورا ، سواء على مستوى تطوير المحتوى التدريسي، أو تطوير الشكل، أو تطوير وسائل التعليم وأدواته، وإذا أردنا أن نسعى لتطوير تدريس علوم الشريعة والعربية من باب أنها تبع لها، فيجب أن تتضافر الجهود لوضع منهج تجديدي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يحافظ على القديم الصالح، والجديد النافع.

وسوء التعليم في بلاد المسلمين ليس وليد اليوم، فلقد نبه إليه ابن خلدون[1] في مقدمته، وهو الذي عاش أواخر القرن الثامن وأقل من عقد في القرن التاسع.

والتخوف من خوض غمار إصلاح التعليم الشرعي كان يداعب عقول المصلحين الكبار، أمثال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور – رحمه الله- الذي قال: (ولطالما كنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأعلم أن نور عقلي هو دون إضاءة هاته المجاهل التي صفدت عليها منافذ الأنوار والأهوية الخالصة فامتلأت بالحوامض الرديئة منذ أزمان)[2].

غير أن تلك المخاوف لم تكن مانعا من خوض الغمار، يقول الشيخ ابن عاشور (إذن كان واجبا علينا خدمة للأمة وتهيئة للنشأة العلمية التي تزين مستقبلنا وتجمّل ماضينا أن ندخل تلك المجاهل، نرفع بإحدى أيدينا مشاعل النور، ونقطع بالأخرى ما يمانع من حجرات العثور، فإن لم نصل بعد إلى غاياتها، فعسى أن لا نبعد، وإن سلمنا من أن نشقى باللئام، فما ضرنا أن لا نسعد، ولنا في ذلك كله معذرة العارفين وشهادة وتزكية المنصفين)[3]

إن نجاح العملية التعلمية في علوم الشريعة يجب أن يتناول خمسة جوانب هامة، هي:

  1. العناية بالمؤسسات التعليمية.
  2. تأهيل جمهور الطلاب، وهل هناك معايير معينة لقبول الطلاب في الدراسات الإسلامية أم  أن يتاح لكل الطلاب؟
  3. إعادة النظر إلى مضمون المقررات التعليمية، بما يتناسب مع روح العلم من ناحية وروح العصر من ناحية أخرى.
  4. طريقة تدريس علوم الشريعة لإيصال المحتوى بطريقة جيدة، وتأهيل المعلمين والأساتذة القائمين على تعليم علوم الشريعة.
  5.  وضع مقاييس لمدى كفاءة العملية التعليمية في علوم الشريعة.

إن مستقبل علوم الشريعة يحتاج إلى منهج متكامل يجمع بين فقه الشرع من ناحية، وفقه الواقع من ناحية أخرى، وفقه تنزيل الشرع الثابت على الواقع المتغير، حتى يكون منهجا قريبا من المنهج النبوي ومنهج الراشدين في التعليم، فذلك يسهم في الفقه الحضاري للأمة كلها.

وقد بُذلت جهود كثيرة، وعقدت عدة مؤتمرات علمية تعنى بالتعليم الشرعي، وكتب عدد من العلماء والباحثين في تطوير ونقد العملية التعلمية فيما يتعلق بالتعليم الشرعي، وهو أمر يحتاج إلى مزيد بذل الجهد.

ويأتي هذا البحث معالجا فكرة وضع معايير يمكن بها قياس جودة التعليم الشرعي.

معنى المنهج:

المقصود بالمنهج هو المحتوى التعليمي الذي يدرسه المعلمون للطلاب، ويقوم الطلاب باستذكاره، وهو تعريف ضيق لمعنى المنهج.

ولكن المنهج – بمفهومه الأوسع- يمكن أن يعبر عنه بأربعة أسئلة هي:

  1.  لماذا نعلم؟ وهو يشير إلى الأهداف المراد تحقيقها، أو هي مقاصد العلم.
  2.  ماذا نعلم؟ ويشير إلى محتوى المادة الدراسية، يعني مباحث العلم.
  3. كيف نعلم؟ ويشير إلى طرق وأساليب التدريس والأنشطة المستخدمة لتحقيق الأهداف.
  4. كيف يمكن الحكم على النتائج؟ ويشير إلى أساليب التقييم.

والفارق بين المنهجين هو أن المنهج بالمفهوم الضيق يشمل توضيح الألفاظ والمصطلحات الغامضة، والاستدلال على المسائل التي ذكرت دون دليل، والتفريع على بعض المسائل، وذكر الخلاف وأدلة المخالفين، مع ذكر بعض الأسئلة لبيان الفهم.

المعنى الأوسع للمنهج:

أما المنهج بالمفهوم الأوسع، فهو يشمل التخطيط الجيد للموقف التعليمي، وتوزيعه على المجالات الثلاثة: (المعرفي والمهاري والوجداني)، مراعيا كافة المستويات: (التذكر، الفهم، التطبيق، التحليل، التركيب، التقويم)، كما تشمل طرق التدريس تحقيق الأهداف التعليمية، وبناء جوانب الشخصية، كالتعليم التعاوني الذي ينمي مهارات العمل الجماعي، والحوار والتواصل، وتنمية طرق التفكير والعمليات العقلية العليا لدى المتعلم ونحوها. كما يشمل النشاط خارج الموقف التعليمي، كالبحث والكتابة وإعداد التقارير، وكذلك استعمال تقنيات التعليم ووسائله، والتقويم بالأساليب المتنوعة التي تقيس مدى تحقق الأهداف ومدى النمو في شخصية المتعلم[4].

أهمية التعليم الشرعي:

لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنّما العلماء من الأمّة بمثابة القلب إذا صلح؛ صلح الجسد كلّه، وإذا فسد فسد الجسد كلّه، وصلاح المسلمين إنّما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنّما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل؛ فكذلك المسلمون تبعا لهم. فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم.

ولن يصلح العلماء إلاّ إذا صلح تعليمهم. فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره، فإذا أردنا أن نصلح العلماء؛ فلنصلح التعليم، ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالماً من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به فيه[5].

مجالات المعايير في المناهج:

للمناهج مجالات متعددة يجب النظر إليها، واعتبارها بشكل مستوعب، وتلك المجالات هي:

  1. المواصفات المعيارية في مجال الأهداف
  2. المواصفات المعيارية في مجال المحتوى
  3.  المواصفات المعيارية في مجال طرائق التدريس وإستراتيجياته
  4. المواصفات المعيارية في مجال الوسائل التعليمية وتقنياتها
  5. المواصفات المعيارية في مجال الأنشطة التعليمية
  6. المواصفات المعيارية في مجال إستراتيجيات التقويم

المواصفات المعيارية في مجال الأهداف:

إن نجاح المؤسسات التعليمية الشرعية قائم على معرفة مقاصد العلوم، أو ما يسمى في علم التربية بـ( معايير الأهداف) لأنه كما أشار الإمام الغزالي[6] في كتابه: ( المستصفى) أن الدارس لا يتحصل العلم إلا بثلاثة أمور، هي: معرفة التصور العام للعلم، وإدراك مقاصد العلم، وتحصيل مسائل العلم.

ومما قاله في هذا: ” فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه”[7]

وهذا النظر غاية في الأهمية، فحين يدرس الطلاب مصطلح الحديث دون امتلاك مهارة تمييز الحديث الصحيح عن غيره، فلن يتملكوا مقصد العلم، وإن عرفوا مباحثه، وإن درسوا قواعد العربية دون امتلاك مهارة النطق الصحيح والكتابة الصحيحة وتصويب الخطأ، فلن يمتلكوا مهارة العلم، وهكذا.

إدراك مقاصد العلم:

لكل علم مقاصد تبتغى من دراسته، بحيث يتحصل عليها الدارس بعد انتهائه منها، وإلا كان دراسة العلم ضربا من الترف الفكري لا جدوى له، ولعل هذا ما أشار إليه الشاطبي[8] من أن كل مسألة لا ينبي عليها عمل لا فائدة منها وهي ليست من العلم، فقال: ” كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي”[9].

فعلم المقاصد له مقصد كلي، أشار إليه الغزالي بقوله:  “إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة”[10]

وقال أيضا: ” وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني فلا مندوحة لأحدهما عن الثاني، فصنفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب يطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه، فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه” [11].

إن دراسة علم الحديث مثلا، وهو يمثل السنة التي هي مصدر التشريع مع القرآن، تتوقف الدراسة عن حد صحة الحديث من عدمه، ويتوقف دراسة الجرح والتعديل عند دراسة السند، ومن الأولى أن تكون دراسة علم الحديث مثمرة لها أثر في حياة الطلاب من التوثق من الأخبار المنقولة، وعدم قبول الشائعات، وأن لا يقبل قول إلا بسنده ومصدره الصحيح.

وأن دراسة الخلاف الفقهي وبيان أسبابه وتنوع المناهج لم يثمر إلا أن نقف عند معرفة سبب الخلاف في المسألة، دون أن يعلم الطلاب مهارة قبول الخلاف وعدم التعصب للآراء واحترام الآراء المبنية على الدليل، مع قبول نقدها بشكل علمي بأدب واحترام، وأن الخلاف الفقهي والفكري لا يكون سببا لاختلاف القلوب، فالأولى جائز في دين الله، والثاني محرم.


[1] – ابن خلدون : هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن ، أبو زيد ، الحضرمي ، الأشبيلي الأصل التونسي ثم القاهري ، المالكي ، المعروف بابن خلدون ، عالم ، أديب ، مؤرخ ، اجتماعي ، حكيم .ولي في مصر قضاء المالكية . وأخذ الفقه عن قاضي الجماعة ابن عبد السلام وغيره . ولد سنة  732 هت، وتوفي سنة 808هـ .من تصانيفه : ” العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ” و ” تاريخ ابن خلدون ” ، و ” شرح البردة ” . راجع: شذرات الذهب 7 / 76 ، والضوء اللامع 2 / 145 ، والأعلام 4 / 106 ، ومعجم المؤلفين 5 / 188  .
[2] – أليس الصبح بقريب، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ص:6
[3] – السابق
[4] – راجع: تطوير التعليم الشرعي ..حاجة أم ضرورة، د. محمد بن عبد الله الدويش، ص: 61-65  ، كتاب الأمة، العدد: 158، ذو القعدة 1434هـ، السنة الثالثة والثلاثون
[5] – آثار ابن باديس، عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359هـ)، (3/ 217)، تحقيق: عمار طالبي، دار ومكتبة الشركة الجزائرية، الطبعة: الأولى (عام 1388 هـ – 1968 ميلادية)
[6] – الغزالي: هو محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزَّالي ،. فقيه شافعي أصولي ، متكلم ، متصوف . رحل إلى بغداد ، فالحجاز ، فالشام ، فمصر وعاد إلى طوس . ولد سنة: 450هـ، وتوفي سنة 505: من مصنفاته : ” البسيط ” ، و ” الوسيط ” ، و ” الوجيز ” ، و ” الخلاصة ” وكلها في الفقه ، و ” تهافت الفلاسفة ” ، و ” إحياء علوم الدين ” . راجع: طبقات الشافعية 4 / 101 – 180 ، والأعلام للزركلي 7 / 247 ، والوافي بالوفيات 1 / 277 ]
[7] – المستصفى (ص: 4)
[8] – الشاطبي: هو إبراهيم بن موسى بن محمد ، أبو إسحاق ، اللخمي الغرناطي ، الشهير بالشاطبي ، من علماء المالكية . كان إماما محققا أصوليا مفسرا فقيها محدثا نظارا ثبتا بارعا في العلوم  له اجتهادات لم يسبق لها، وله القدح المعلى في علم المقاصد.من تصانيفه : الموافقات ، و ” الاعتصام ” ، و ” المجالس ” شرح به كتاب البيوع في صحيح البخاري .  لا يعرف متى ولد، وتوفي سنة 790 هـ.راجع: نيل الابتهاج بهامش الديباج ص 46 ، وشجرة النور الزكية ص 231 ، والأعلام للزركلي 1 / 71 ] .
[9] – الموافقات (1/ 43)
[10] – المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)، (ص: 7)، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1413هـ – 1993م
[11] – المستصفى، (ص: 4)

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى