هذا الكتاب: “الإحكام في قواعد الحكم على الأنام“، للشيخ الدكتور: محمد يسري إبراهيم[ 1 ]، جمع فيه القواعد التي ينبغي مراعاتها عند إطلاق الأحكام الشرعية على الناس (كالإيمان والكفر والبدعة والفسق ونحوها).
والكتاب الذي يقع في (125) صفحة: من إصدار “رابطة العالم الإسلاميّ”، ضمن سلسلة “دعوة الحقّ”، السنة التاسعة والعشرين، عام 1437هـ، ويحمل الرقم (268).
وقد رأينا في موقع على بصيرة أنّ من المفيد إعادة نشر هذا الكتاب؛ لما لموضوعه من أهميّة كبيرة لا سيما في العصر الحاضر، حيث كثر تجرّؤ الناس على إطلاق الأحكام والتسرّع فيها.
وقد قمنا بإعداد ملخّص يركّز بشكل مباشر على هذه القواعد التي ذكرها المؤلّف، وشَرَحَها، وأيّدها بنصوص الكتاب والسنّة وأقوال أهل العلم.
-
المقدّمَة:
قدّم المؤلف لكتابه بالحديث عن وسطيّة الإسلام، وأنّ وسطيته تعتمد على نصوص الوحي، وتستند إلى صحيح العقل، وتوافق الفطرة المستقيمة، وعن هذه الوسطية ينبثق يسر الإسلام، وتنبع سماحته.
وبيّن: أنّ البعد عن الوسطية جرّ -منذ بزوغ فجر الإسلام وإلى يومنا هذا- على الأمّة ويلاتٍ كثيرة.
ولقد كان الخلاف في حقيقة الإيمان أوّل خلاف نشأ بين أهل القبلة، وذلك منذ أن خرجت الخوارج الأولى على الأمة ببدعة التكفير بمطلق المعاصي والذنوب، فاستحلّت بالتكفير الغالي دماء المسلمين المسالمين، وتخوّضت فيها بغير برهان مبين، فصدق فيهم قول نبينا -صلى الله عليه وسلّم- كما في الصحيحين: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ).
وتشهدت ساحة الأمّة الإسلامية اليوم صراعًا بين خوارج هذا الزمان، وخلوف أهل التجهّم والإرجاء؛ الذين يغضّون الطرف عن نصوص الوعيد إلى نصوص الوعد، ويخرجون أعمال الجوارح من مسمّى الإيمان بالكلية. ووقعت كثير من المجتمعات بين رحى من يستبيح حرماتها وينتهك أمنها، وبين من يلبّس عليها دينها ويجرئها على المحرّمات. كما شاع في أوساط بعض العاملين للإسلام اليوم التنابز باتهامات التكفير والخروج، والتراشق بمنكرات الإرجاء والتجهّم.
لذا كان من المهمّ العمل على ضبط وتقعيد الجوانب العلمية المتعلّقة بهذه الظاهرة، مع التنبيه إلى أدب الحكم على الناس، على أساس الوسطية التي قام عليها هذا الدين، ووصف بها أئمة الإسلام من أهل السنّة والجماعة.
القاعدة الأولى: الحكم على الناس يجب أن يكون بعلم وعدل. مع مراعاة تقوى الله والوَرَع، وتقديم حسن الظنّ بالمسلمين.
فليس لحاكم على الناس -جرحًا أو تعديلًا- أن يحكم بغير علم، أو أن يجور في حكمه لعداوة أو بغضاء أو لأمر غير شرعي.
وعليه أن لا يعجل على أحد بأمر حتى تقوم بيّنته وتنقطع معذرته وتُزال شبهته.
ثم إذا ثبت خطؤه وبَانَ زلَلُـه: نُظر في سائر أمره وعامّة أحواله، فإن كانت على وجه السداد والمقاربة احتُمِلَ له مالا يحتمل لغيره، وانغمرت زلّته وهفوته في لجّة حسناته.
ومن نواقض الإنصاف في الحكم على الناس:
- تعميم الأحكام بغير تثبّت، والحكم على فرد بمجرّد انتمائه إلى طائفة، والحكم على طائفة من خلال ما يتبنّاه فرد فيها.
- المبالغة والمجازفة في الأحكام بحسب حال الرضا والموافقة، أو حال الغضب والمخالفة.
- محاكمة المجتهد إلى اجتهاده في أول أمره دون آخره، مثل أن ينسب إليه قولًا ثبت رجوعه عنه؛ فالعبرة بالخواتيم. أو الحكم عليه في مرحلة بعينها من حياته.
- الحسد الذي لا يجتمع معه عدل ولا إنصاف.
- تعمّد تتبع العثرات والسَّقَطات من غير وَرَع أو تثبّت.
- اجتزاء كلمة أو جملة من سياقها من كلام أحد الأشخاص، وبناء أحكام عليها من غير نظر إلى سائر كلامه ومنهجه الذي عُرف به.
- أغفال القرائن المحتفّة بالأخبار قبل قبولها أو ردّها، فربّ قائلٍ كلمةَ حقّ أراد بها محض الباطل، كما قال علي -رضي الله عنه- للخوارج. مع تقديم حسن الظنّ لاسيما بأهل الفضل.
- الخلط بين مقامي الردّ على خطأ أو مخالفة أو بدعة، وبين مقام تقويم من تلبّس بشيء من ذلك.
فالأصل: الردّ على كلّ مخالفة من غير مجاملة، ومن غير التفات إلى صاحبها إن كان جليلًا. أمّأ عند الحكم على الرجال حكمًا عامًّا فلابدّ من الإنصاف؛ إذ لا يسلم من الخطأ أحد.
القاعدة الثانية: الحجّة في تعريف الإيمان ونقيضه بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم.
وقد دلّت النصوص على أنّ الإيمان: قول باللسان، وعمل بالقلب والجوارح. ولا ينفع قول القلب مع انتقاض عمله، ولا يثبت عقد الإيمان إلا مع إقرار اللسان، والأعمال داخلة ﻓﻲ مسمّى الإيمان.
والكفر ﺷﺮعًا نقيض الإيمان، ويكون بالقلب أو اللسان، أو اﻟﺠوارح، ومنه: أكبر يخرج صاحبه من الإسلام، ومنه: كفر دون كفر، وهو الأصغر، وصاحبه مسلم، ولا يخلّد في النار.
وعليه:
– يتعيّن على كل قادر أن ينطق بالشهادتين ليدخل في الإسلام فإن لم يفعل مع القدرة فهو كافر ظاهرًا وباطنًا.
– من نطق بالشهادتين يريد دخول الإسلام ولم يقرنها بما يناقضها؛ فإنه يُحكم بإسلامه، وتجري عليه أحكام المسلمين في الدنيا.
– من أقرّ بلسانه وكذب بجنانه: حُكِم بإسلامه ظاهرًا في أحكام الدنيا وإن كان منافقًا عند الله تعالى.
القاعدة الثالثة: الإيمان والكفر كلاهما أصل ذو شعب،
فمن كان عنده أصل الإيمان، وترك بعض شُعَبِهِ فيقال: إنّ معه بعض الإيمان لا كلّه، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه.
ومن فعل شيئًا من شُعَبِ الكفر فإنّه لا يصير بذلك كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر.
وبناء عليه: فإنّه يمكن اجتماع إيمان وكفر -غير ناقل عن الملّة- في الشخص الواحد. وقد دلّت النصوص بمجموعها على اجتماع الإيمان والكفر الأصغر- أو العملي- في المسلم، كقوله صلى الله عليه وسلّم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ).
القاعدة الرابعة: من ثبت إسلامه بيقين لم يزل بالشك.
فلا ينتقل إلى الحكم بكفر مسلم بعد ثبوت إسلامه بيقين إلا بيقين مثله؛ فالإسلام الصريح لا ينقُضُه إلّا الكفر الصريح، بعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة.
القاعدة الخامسة: الأحكام في الدنيا تجري على الظاهر وآخر الأمر.
فالحكم على النّاس في الدنيا بحسب ما يظهر منهم من غير تفتيش بواطنهم، فمن كان ظاهره الإيمان حكم له به، ومن كان ظاهره خلاف ذلك حكم عليه به.
والمعتبر في ذلك: آخر أمر الإنسان وخاتمة حاله، ومن التكلّف المذموم والتنطّع الباطل: الحكم على السرائر والقطع فما في الضمائر.
القاعدة السادسة: الحكم المطلق لا يستلزم الحكم على المعين.
فهناك فرق بين الحكم المطلق والحكم على المعيّن،
فالحكم المطلق هو الحكم على القول أو الفعل أو الاعتقاد من غير تعيين لأحد بعينه، ولا نظرٍ لحاله.
والحكم على المعيّن هو الحكم على شخص بعينه بكفرٍ أو فسق أو بدعة، بعد مراعاة ضوابط إجراء الأحكام وتحقيق استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
وعليه: فيصح القول بأنّ هذا القول كُفر، لكن لا يلزم من ذلك أنّ قائله كافر، ويصح القول بأنّ هذا الفعل كُفر، لكن لا يلزم من ذلك أّن فاعله كافر؛ لاحتمال
قيام ما يمنع من الحكم عليه بذلك، أو لتخلّف شروط هذا الحكم ولوازمه.
القاعدة السابعة: لا تجري الأحكام على المكلّف إلا بعد انتفاء الموانع وتحقق الشروط.
فلا يُكفّر أحد ولا يفسّق ولا يبدّع إلا بعد قيام الحجّة وظهور المحجّة، وتحقق العلم، وانتفاء الجهل، وارتفاع عارضَي الخطأ في التأويل والإكراه.
والمقصود: التحقق من أهلية المكلّف وصلاحيته الشرعية لإجراء الأحكام عليه، وهو ما يعبّر عنه العلماء عادة بـ (ثبوت الشروط وانتفاء الموانع).
والموانع أربعة هي: الجهل وعدم بلوغ الخطاب الشرعي، والخطأ، والتأويل، والإكراه.
والشروط ثلاثة: التحقق من انتفاء موانع الكفر بحقّ من تلبّس بقول أو فعل كُفري، والتثبّت من الفعل والقصد، وقيام الحجّة على وجهها الصحيح، وذلك ببلوغها، وفهمها وانتفاء الشبهة.
القاعدة الثامنة: لا يحكم بمآلات الكلام ولوازم الأقوال إلا بعد التزامها.
ويُقصد بمآل الكلام ما يفضي إليه كلام المتكلّم من المعاني ولو لم يقصدها، والعلماء متّفقون على عدم جواز الحكم على المكلّف بتكفيره أو تبديعه بمآل كلامه ولازم قوله إلا أن يُعرض عليه هذا المآل فيقول به، أو يعرض عليه هذا اللازم فيلتزمه؛ فعندئذٍ يحكم عليه به.
لتحميل الكتاب كاملاً.. اضغط هنا