بقلم أ. محمد إلهامي
منذ سمعت أبيات الشعر هذه حتى حفظتها في لحظتها، كانت قوية ومعبرة عن حال الأمة إلى الحد الذي تخترق فيه القلب والعقل معا:
قد استردَّ السبايا كلُّ منهزمٍ .. لم يبق في أسرها إلا سبايانا
وما رأيت سياط الظلم دامية .. إلا رأيتُ عليها لحم قتلانا
وما نموت على حدِّ الظُبا أنَفًا .. حتى لقد خجلت منا منايانا
كان أكثرها قسوة هذا البيت الأخير، فهو يُصَوِّر الأمة وكأنها في هروب جماعي من تكاليف البذل والجهاد والعطاء، والعدو من ورائها بسلاحه يقتنص ويلتقط وينتقي القتلى والأسرى والسبايا، حتى إن تلك الميتات قد خجلت أن تقع.
وبعيدا عن لغة الشعر والأدب، ومدى مبالغاتها ومفارقتها للحقيقة، فالمهم الآن أن الأمة لم تعد تموت وهي مدبرة، بل هي تخوض أشرف المعارك وتحاول التحرر رغم الثقل الشديد للاستبداد المحلي والطغيان العالمي وما أسفرت عنه سنين الاستبداد والاحتلال من فجوة هائلة علمية وعسكرية وسياسية واقتصادية. فلئن كانت الأمة لا تزال تعاني القتل والأسر –كما يصور البيت الأول والثاني- فإنها لم تعد تهرب من المواجهة، بل يموت شبابها وهم مقبلون لا مدبرون، يدفعون ثمن التحرر من أرواحهم ودمائهم وأموالهم وأهلهم..
على أن كثرة التضحيات لا تناسب الحصاد والثمرات، لا سيما ونحن لا نزال في بداية طريق التحرر، ولا تزال عصور الملاحم قادمة، فالعدو الذي ربض على أرضنا ويتمتع بخيراتنا سيبذل كل ما لديه من طاقة بكل ما فيها من التوحش والشيطانية لئلا نتحرر [راجع: مكافحة الوهم https://goo.gl/jJwjhx وطبقات الاستبداد https://goo.gl/5QD1Hg].
أسباب عديدة تجعل التضحيات أكثر بكثير من المردود، منها الجهل بالواقع وبالسياسة وبالنظام العالمي وأساليبه وبالتاريخ والتجارب السابقة، ومنها حظ النفوس في السلطة والإمارة والوجاهة، ومنها الغلو والإفراط الذي يشوش الرؤية ويستثير الأعداء، ومنها افتقاد الخطة والمشروع والاكتفاء بمنطق رد الفعل… أمور كثيرة، نركز منها في هذا المقال على: الخطة العامة للأمة الإسلامية.
1.نظرة عامة كبرى
تعاني الأمة استضعافا عاما، من أقصى مشرقها إلى أقصى مغربها، إلا أن التفكير في الإصلاح لن يكون بالسعي وراء كل فرد في هذه الأمة المليارية لنصلحه، إن اتساع المكان وكثرة البشر فضلا عن تجارب الأمم لا تقول بهذا.
يصوغ بعضهم “نظرية العواصم”، ومعناها ببساطة في موضوعنا هذا، أن كل هذه الأمة المليارية يمكن إصلاح أحوالها عبر إصلاح أحوال مناطق معينة رئيسية مركزية منها، فنحن إن اجتهدنا في تحديد أهم البلدان التي تصلح بصلاحها مناطق واسعة سنكون قد اختصرنا الطريق كثيرا. ثم لو استطعنا تحديد العواصم المركزية الملهمة في تلك البلاد فسنكون قد اختصرنا الأمة المليارية في مدن محددة.
بعد تفكير وبحث طويل مع العديد من عقول الأمة الذين التقيتهم عبر السنوات الماضية، كانت الآراء تؤول إلى هذه المدن الست: القاهرة، مكة، اسطنبول، دمشق، بغداد، الجزائر.
هنا مفاصل الأمة ومراكزها وعواصمها، إن استطاعت الأمة تحرير هذه العواصم وإقامة دول مستقلة تملك قرارها وتستطيع حماية نفسها، فهي قد خطت أكثر من نصف الطريق نحو التحرر النهائي للأمة. ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا أن هذه العواصم هي أواخر ما سقط من الأمة في رحلة الاحتلال الغربي التي بدأت قبل 500 عام ولا تزال مستمرة، لكنها أخذت في قضم أطراف الأمة، حتى كان سقوط كل عاصمة من هذه ضربة هائلة.
تبدو اسطنبول الآن أقرب هذه العواصم للتحرر ولامتلاك قرارها، وكانت ليلة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا ليلة للأمة كلها. مثلما كانت ليلة فوز الرئيس مرسي وليلة الانقلاب العسكري عليه ليلة للأمة كلها. وقد التقيت من أقليات الصين وإفريقيا وأوروبا ما أدهشني وأفزعني في الوقت نفسه: لم أكن أتخيل أن الانقلاب على مرسي في مصر قد ألقى بآثار بعيدة على المسلمين في الصين وأدغال إفريقيا والأقليات في أوروبا وروسيا والأمريكتين أيضا.
تلك العواصم ذات أثر هائل بعيد في كل الأمة، بما لها من عمق تاريخي وحضور ثقافي وقوة بشرية وموقع استراتيجي.. وهو أمر يعرفه العدو ربما أكثر مما نعرفه نحن، ولذلك فمعركة التحرر في هذه العواصم هي أصعب وأعسر المعارك الحضارية الكبرى. ولذلك لا يجدي الهروب منها بحال فإنها واقعة لا محالة، ولا بديل عنها، اللهم إلا إذا تخيل أحد أنه بالإمكان –تجنبا لمعركة التحرر- هداية مليار ونصف المليار شخص كل على حدة، هذا مع أنهم إذا اهتدوا فسيخوضون المعركة أيضا مع الاحتلال الأجنبي الرابض!
2. الفرصة السانحة
لئن كانت تلك العواصم مؤثرة في الأمة كلها فإن من حقائق الواقع أنه قد صارت لكل بلد منها مع طول فترة انقسام الأمة ظروفها ومشكلاتها وأوضاعها التي تجعل بعضها أقرب من بعض إلى لحظة الثورة والتحرر والتغيير. ولذلك بقدر ما تبدو عواصم كدمشق والقاهرة أقرب إلى إمكانية التحرر، تبدو عواصم أخرى أبعد في المدى المنظور كبغداد والجزائر، ويثور الخلاف حول مكة ما إن كانت قريبة أم بعيدة.
في تقديري أن أهم عاصمة مرشحة الآن لحصول التغيير فيها هي القاهرة، بل إن مجرد انفلات القاهرة من الهيمنة الأجنبية الغربية هو بحد ذاته مسكب واسع للأمة وخسارة واسعة لعدوها، [راجع: عاصمة الثورة https://goo.gl/N1JSKa]
ولهذا فالمعركة حولها ستكون هائلة، لكن كثيرا من الأوضاع الطبيعية والظرفية تجعل الأمر أسهل من أوقات كثيرة مضت:
فمن الأوضاع الطبيعية: أن القاهرة تختزل كل مصر، ولذلك ثورة مصر تندلع في القاهرة وتنتهي في القاهرة، لا كغيرها من البلدان التي ربما تقضي الثورة سنين قبل أن تصل إلى العاصمة. ومن الأوضاع الطبيعية أن الثورات فيها لا تطول لطبيعة القاهرة وناسها وطبيعة موقعها الجغرافي العالمي الذي يجعل كثيرا من الأطراف تحرص وتنحو إلى التهدئة.
ومن الأوضاع الظرفية وجود ثورة لم تنطفئ ولا يزال طيفها يداعب الخيال ويغري بالتكرار لدى كثيرين، ووجود حالة سخط شعبية عارمة على السيسي ونظامه، ولا تزال قوات الأمن والجيش غير محترفة ولا يمكنها الصمود في معركة شعبية غير سلمية، والبديل المتوقع في مصر ليس خطرا جذريا على المصالح الأجنبية والنظام العالمي بما يجعل الدفع الأجنبي مائلا نحو استكشاف البدائل واختبارها لا نحو إشعال معركة دموية حفاظا على السيسي.
مجرد اهتزاز النظام العسكري في مصر يساوي ما يشبه انقلابا في الخريطة السياسية الإقليمية، ويلقي بآثاره على غزة وليبيا والسودان والخليج والشام وتركيا، أما لو توقعنا بأن الثورة استطاعت تحرير مصر فسنكون في مستوى آخر من الآمال والتطلعات، ويكفي فقط أن يتكون محور مصري تركي ليكون هذا بداية وجود الأمة كفاعل على المستوى الدولي [راجع خلاصة هذه الدراسة https://goo.gl/ihRaet].
3. ما يلزم حركة التغيير
أحسب أن لو كان للأمة خليفة يستطيع تجنيد طاقة الأمة في معركة بعينها لم يكن أمامه إلا معركة مصر في الوقت الحالي. ولو أن كل صاحب طاقة ومجهود في خدمة الإسلام أنفق من طاقته في معركة الثورة المصرية لعاد عليه هذا بأكثر مما يعود على المستثمر ما ينفقه في المشروع التجاري والمالي.
أهم ما تحتاجه حركة التغيير في مصر قيادة ثورية راشدة، تجمع بين الفهم للواقع وضغوطه وإكراهاته مع تمتعها بحلم كبير وأمل واسع وثقة في الأمة وقدراتها، فالأمة لم تخذل قيادة ناصحة راشدة من قبل، بل الأمة تفاجئنا في كل مرة بما لم نكن نتوقع.
ويجب أن يكون لهذه القيادة جهاز أمني، يجمع المعلومات ويضعها في صورة الواقع، فلا تكون كالتي تضرب وتخبط خبط عشواء لا تدري أين تضرب ولا من تصالح، من تعادي ومن تصادق ومن تتجاهل، فلا تقع بهذا تحت طائلة التضليل والإشاعات ولا تحت قصف الإعلام ونباحيه ولا تحت خيالات وتصورات المتفلسفة والمنظرين الذين تكونت أفكارهم من الكتب والأكاديميات وحدها، فأولئك ولو كانوا مخلصين وقامات علمية إلا أن حظهم من معالجة الواقع ضئيل ومضلل أيضا.
إذا وُجِد هذان فما سواهما أهون وأيسر، فالطاقات المطلوبة موجودة في الأمة لكنها كالمتناثرة لا تجد الخيط الجامع لها، ولا الملتقي الذي تتكامل فيه.. وصحيحٌ أن الناس كإبل المائة لا تجد فيها راحلة، إلا أن أمتنا أكثر من مليار ونصف المليار، ولهذا فرواحلها ملايين الرواحل.
إذا تمكنت هذه القيادة من تقديم خطاب إسلامي جامع، يجمع بين الرشد والنضج وبين التمسك والحماسة له، وسارت برؤية تهدف إلى تمكين المجتمع وإخراجه من عبودية “السلطة/ الدولة” [راجع طبقات الاستبداد https://goo.gl/R2AfXr] فهنا يكون قد بدأ طريق نهوض الأمة الإسلامية.
بهذا التصور يمكن لجميع المتشوقين لنهضة الأمة أن يكون له عمل ودور، في مجاله وتخصصه، في جمع المعلومات وتكوين خريطة المجتمع والنافذين فيه وشبكة العلاقات المهيمنة عليه وامتداداتها الخارجية والداخلية، في فهم وترتيب الأولويات المتعلقة بإصلاح كل مجال، في صياغة الخطاب الدعوي والإعلامي والسياسي والخارجي لمختلف الشرائح والفئات.. كل هذه الملفات ستشتد الحاجة إليها وسيتلهف عليها كل ساعٍ للإصلاح، وكلما صيغت الحلول على أنماط مجتمعية لا على قرارات سلطوية كلما كان تنفيذها أيسر وأسرع، وكلما رفع عبئها عن تلك القيادة المنتظرة.
ولعلنا في يوم قريب نهجر قول الشاعر الذي افتتحنا به المقال، لننشد مع الشاعر الآخر:
يا أمة الإسلام فجرك نوَّرا .. والروض في ساحات مجدك أزهرا
سُحُب المعالي في سمائك أمطرت .. غيثا، وأجرت في رحابك أنهرا
نشرت رياحك في جوانب كوننا .. أمنا، وإيمانا، وفكر نيِّرا
لبست به الأشجار ثوبا مورقا .. وغدت به الصحراء روضا أخضرا
(المصدر: مجلة كلمة حق)