مقالاتمقالات مختارة

ملامح الشخصية الحضارية في الإسلام – الشخصية الحضارية

ملامح الشخصية الحضارية في الإسلام – الشخصية الحضارية

بقلم الشيخ محمد مجاهد شعبان -رحمه الله-

من ضرورات العقل الأولى: أنَّ الأثر لابدَّ له من مؤثِّر، ومن أهم المؤثرات في الإنسان العاقل: علائم مبدئه الذي يعتنقه والذي ارتضاه لنفسه، فلابد أن تظهر معالمه وملامحه على سَمْتِهِ وأفعاله وأقواله وكل تصرف من تصرفاته.
فما هي تلك المؤثِّرات التي يتركها الإسلام في الإنسان المسلم، والتي تكون مَعْلَماً عليه يميزه عن بقية الناس من حوله مُخْرِجةً إياه للناس مخلوقاً حضارياً متكاملاً؟.
إنَّ أول تلك الملامح هو:
الطموح والتطلع نحو الأفضل:
يعلم الإنسان المسلم أنَّ السكون والجمود صنوان للموت، فلذا كان لزاماً عليه أن يكون إنساناً وثاباً إلى كلِّ مكرمة، ومُسارعاً إلى كل فضيلةٍ، حاثاً الخطا نحو التقدم بكل شمولية معانية، وسبَّاقاً في ميادين العلم مادية ومعنوية، فهو إنسان كلما وصل إلى عالمٍ فاضل، تطلَّعت نفسه التوَّاقة إلى عالم أفضل، وسعت شخصيته الطموحة سعياً حثيثاً إلى أن تحيا في رخاء مادي ومعنوي مما يتطلب منه بلا شك أن يأخذ بأسباب العلم بكل أنواعه، والثقافة بكل معانيها، والفكر بكل مجالاته، فهو دائماً حريص على ما ينفعه، مستعين بربه لا يعرف القنوط والعجز، فخور بنسبته إلى أمة مدحها الله في محكم تنزيله بقوله:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}[ آل عمران:110].
وعن هذا المعلم يقول شاعر الإسلام النابغة الجعدي على مَسْمَع من صانع تلك الشخصية محمد صلى الله عليه وسلم :
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا      وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فيسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم إلى أين يا أبا ليلى؟ فيجيبه النابغة: إلى الجنة معك يا رسول الله ، فيهش لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: “لا يفضض الله فاك”.[ الإصابة، لابن حجر].
ويعبِّر عمر بن عبد العزيز عمَّا يجول في نفسه التوَّاقة إلى الطموح والعلو بقوله ـ كما يروي عنه ابن عبد الحكم ـ :” إنَّ لي نفساً توَّاقة، لم ترتق إلى منزلة إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة”وبغير هذا التطلُّع والطموح لا يمكن أن يكون الإنسان حضارياً.
العزة:
يضفي الإسلام منذ اليوم الأول على معتنقه ثوب العزة: فهو قد حرّم أن يهون أو يستذل أو يستضعف لأنه عزيز بعزة الإسلام، قويٌّ بإيمانه بالله:{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}[آل عمران:139]، ويقول الله تعالى:{أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}[المائدة:54] فالمسلم تأبى عليه عزَّته أن يكون هدفاً لكل طامع، أو غرضاً لكل مهاجم، فإذا ما اعتدى عليه معتد، أو طمع فيه طامع، أو بغى عليه باغ كان انتصابه للدفاع عن نفسه وماله نوعاً من الجهاد، وليس هو بدفاع عن حقِّه الشخصي فحسب، بل هو إقرار للحقوق العامة والمثل العليا. مصداق ذلك قوله تعالى في وصف عزة المسلم ونبذه للظلم والبغي:{والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}[ الشورى:39] من هنا نلاحظ أن العزة من أهم الملامح التي تميز الإنسان المسلم علماً أنها عزة لا تكبُّر فيها ولا طغيان.
الإلفة والمحبة:
إن المؤمن علم أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ ردَّ أنساب البشر على مختلف أجناسهم إلى أبوين اثنين ليصير من هذا النَّسب صلة رحم تتشابك عندها الصَّلات وتَسْتوثق، ويُبيِّن ذلك سبحانه وتعالى في مُحكم تنزيله:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}[الحجرات:13].
فالتعارف والائتلاف أساسُ العلاقات بين الناس، وكلُّ رابطة توطد هذا التعارف وتزيح من طريقه العوائق يجب تدعيمها، وهذا الإخاء والائتلاف الذي ركِّز عليه الإسلام ما هو إلا تحديدٌ لما دَرَسَ من قرابة مشتركة بين الخلق، وما هو إلا تأكيد للأبوة المادية المنتهية إلى آدم بأبوة روحيَّة ترجع إلى تعاليم الأديان المعلنة في رسالة الإسلام[خلق المسلم للغزالي].
بل وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبِّر عن هذا المعلم المهم من معالم الشخصية الإسلامية الحضارية أصدق تعبير بقوله:”المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس” [ رواه أحمد]. فصاحب تلك الشخصية محبوب من قبل الآخرين محب لهم، حتى إن هذا الدين الحنيف قد نفى الإيمان عمَّن لا يساوي أخاه بنفسه يقول صلى الله عليه وسلم :”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه“[متفق عليه].
وقد ترقَّى الإسلام بهذه النفس، وركَّز على هذا المعلم الحضاري حتى دفع الإنسان المسلم لتقديم أخيه على نفسه، فقد وصف سبحانه وتعالى الرعيل الأول من هذه الأمة:{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}[الحشر:9].
لذلك ترى الإنسان المسلم المتحلِّي بهذه الصفة ليِّن الجانب مع إخوته من بني البشر ليس بفظٍّ ينفر منه الناس، ولا بغليظ يملونه، ولا بفحاش يتحاشونه، بل هو طيب في عمله مهذب في كلماته، باذل نفسه وماله في سبيل نفع الآخرين، وبمثل هذه التربية الإيمانية الواقعية تشكل المجتمع المسلم الذي كان من أهم دعائمه التواد والتراحم والحب:”مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى“[ رواه مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير ].
التكامل:
تحيا الشخصية الإسلامية حياةً متكاملة، بحيث تَتَكافأ فيها الروح والمادة، والعقل والقلب، والإرادة والوجدان، والفكر والعاطفة.
فالإسلام هو جماع ذلك كله إذ في الشخصية المؤمنة لا يطغى جانب على جانب، ولا خُلق على حساب خُلق، ولا يمحو واجب واجباً، ولكلٍّ من الدنيا والآخرة دوره في حياة الإنسان المسلم، يقول سبحانه:{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}[القصص:77].
ولقد كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان أصحابه:” كان عنده لكل حال عتاده“[ حياة الصحابة للكاندهلوي ج1ص43].
وهو الشخصية المسلمة الأولى كما يقول رسول اله صلى الله عليه وسلم عن نفسه:” أنا نبيُّ الرحمة، أنا نبي الملحمة“،[رواه الطبراني].
 ويروي الحاكم وأبو نعيم في وصف ابن الزبير الرجل المتوازن المتكامل:”كان لابن الزبير مائة غلام، يتكلم كل غلام منهم بلغة أخرى، فكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجل لم يرد الله طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين” [ حياة الصحابة]. فالتكامل صفة يلمحها الآخرون في الإنسان المسلم الحق.
الثبات:
المسلم ذو شخصَّية ثابتة على الحق غير هيَّابة في سبيله لومة لائم، فهو إنسان يعيش للحق ومع الحق، ولا يكون المسلم مسلماً إلا إذا اتَّصف بصفة الثبات، ثبات في العقيدة، وثبات في العبادة، وثبات في القيم والأخلاق، فهو مُوفٍ بما ألزم به نفسه من الحق، صادق في القول والعمل، لا يبيع قيمَهُ بعَرَض من الدنيا مهما كبر، ولا يلين أمام البلاء ولا ينماع أما المغريات،ولا يعرف النفاق سبيلاً إلى قلبه، كأنه هو الكلمة التي عناه فيها سبحانه وتعالى بقوله:{ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} [إبراهيم:24ـ25].
والإنسان المسلم ثابت في الدفاع عن الحق، لا تلين له قناة، ولا تكل له عزيمة، ولا تغضبه الدنيا ولا يبالي بعرضها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم :”كان لا تغضبه الدنيا وما كان لها فإذا تعرض للحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له“[ حياة الصحابة ج1ص21].
وما قيمة المعتقد إن لم يكن عنده ثبات على عقيدته، بل وليست الأخلاق بأخلاق إن لم تكن ثابتة، ولقد عانى المسلمون الأوائل وقاسوا جميع أنواع الاضطهاد، وقُدِّمت لهم المغريات فما وهنت لهم عزيمة وما لانت لهم قناة.
وعندما سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :” هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فأجابه أبو سفيان: لا. فقال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب”[ رواه البخاري في صحيحه].
وإن عدم الممالأة والانمياع من أهم معالم الشخصية المسلمة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكِّداً على ذلك :” لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم“.
والإنسان الإمعة لا يمكن أن يبني حضارة أو يؤسِّس مدنية ـ وهو مع هذا الضعف النفسي ـ يقول تعالى:{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}[ الأنبياء:105]، الصالحون إيماناً وعقيدة هم الصالحون حضارة ومدنية.
وأختم مقالي بما كتبه المفكر المسلم النمساوي محمد أسد عن تمسك المسلم بعقيدته، وعن تميزه بها رافعاً بها رأسه:” وكيما يستطيع المسلم إحياء الإسلام يجب أن يعيش عالي الرأس، يجب عليه أن يتحقَّق أنه متمِّيز، وأنه مختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك. ويجب عليه أن يكد ليحتفظ بهذا الفارق على الناس بشجاعة بدلاً من أن يعتذر عنه، بينما هو يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أخرى. على أن هذا لا يعني أن المسلمين يجب أن يصمُّوا آذانهم عن كل صوت يأتي من الخارج، على أحدنا أن يتقبَّل مؤثرات إيجابية جديدة من مدنية أجنبية من غير أن يهدم مدنيته ضرورة”[ الإسلام على مفترق الطرق، ص78].
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى