ملاحظات على فتوى (دفع قيمة الرقبة لمن أفطر في نهار رمضان) للدكتور القرداغي
بقلم وليد أبو النجا – عضو الاتحاد العالمي علماء المسلمين
نشر أستاذنا الدكتور علي القرداغي فتوى مطولة، وصفها بالمؤصلة حول (جواز دفع قيمة الرقبة وهي (3500) دولار، في حالات انتهاك صيام رمضان، وفي الكفارات التي يجب فيها عتق رقبة).
ومن جميل ما أفادته الفتوى أن كل ما يقال عن فك الرقاب في هذا البلد أو ذاك، ما هو إلا أكل لأموال الناس بالباطل، ينبغي أن يحذر المسلمون منه.
وقد أحسن الدكتور علي حين قال: (بحثت هذا الموضوع منذ فترة طويلة، مستعينا بالله تعالى وتوفيقه، وتوصلت إلى هذه الفتوى، التي إن كانت مصيبة، فهي بفضل الله تعالى وحده، وإلا فأسأله تعالى أن لا يحرمني من أجر واحد). وهذا من تواضعه، وحسن خلقه، ومعرفته بحق العلم، وأسأل الله ألا يحرمه الأجر على اجتهاده.
على أنه قد بدت لي بعض الملاحظات عند قراءة الفتوى، أحببت أن أضعها بين يدي فضيلته لينظر فيها، وهي كالتالي:
أولا: ابتدأ الدكتور فتواه بما يستشعره تجاه المرتبة الثانية لكفارة الجماع في نهار رمضان، وهي صيام شهرين متتابعين، حيث وصفها بأنها (صعبة جدا … ومن هنا يبحث الناس عن بعض المخارج والحيل)، ثم عاد فوصفها في موضع آخر بأنها (لا تخلو من حرج لا سيما لمن لديه المال). وكأنه بهذه الفتوى يريد إيجاد مخرج شرعي بعيدا عن صيام الشهرين. على أنه لو عاد لنص الحديث، لوجد النبي ينتقل بالرجل المجامع في نهار رمضان بمنتهى اليسر من صيام ستين يوما إلى إطعام ستين مسكينا، لمجرد أن ذكر الرجل أنه لا يستطيع الصوم. ومن ثم انتفى الحرج والمشقة.
على أن مذهب الإمام مالك يرى الكفارة على التخيير، خلافا للجمهور، بل يرى الإطعام أفضل من العتق والصيام. ويمكن الأخذ برأيه في ذلك، كما رجح ذلك العلامة القرضاوي لبعض الحالات.
ثانيا: ذكر د. القرداغي أنه يؤمن إيمانا جازما أن كلمات القرآن وتشريعاته خالدة، (فلا يمكن أن تكون تشريعاته زمنية تنتهي بزمن معين، وإنما هي دائمة وخالدة إلى يوم القيامة). وبناء على هذه المقدمة، علل استخدم القرآن لكلمة (الرقاب) دون كلمة الرق أو العبودية، بقوله: (ولذلك استعمل كلمة قابلة لتجديد معناها وهي كلمة (رقبة) … ولم يستعمل لفظ (الرق) مثلاً الذي هو نص في المملوك، أو لفظ (العبد) وذلك لأن لفظ (رقبة) … ليس نصا في الرق) ولكن ما قول الدكتور في الآيات المحكمة الأخرى التي استعمل فيها القرآن ما يدل على الرق صراحة، والأحكام التي بناها على ذلك، في الزواج وإبداء الزينة والاستمتاع وغيرها، وهي ألفاظ نص في الرق بإجماع أهل اللغة والدين، مثل: (ما ملكت أيمانكم) الواردة في القرآن في ثلاثة عشر موضعا، و(عبادكم وإمائكم) مرة، و(فتايتكم) مرة، و(عبد) أي رقيق ثلاث مرات. فماذا نصنع في هذه الآيات بناء على هذه القاعدة التي قررها فضيلته؟!
ثالثا: سيطرت فكرة الاستطاعة المالية على الدكتور في فتواه، وكأن الكفارات الثلاثة كفارات مالية، لا ينتقل من واحدة إلى أخرى إلا عند العجز المالي عن التي قبلها، ولو كان الأمر كذلك، لم كان لتوسط كفارة صيام شهرين متتابعين، بين كفارة عتق الرقبة، وإطعام ستين مسكينا، معنى.
ثم لماذا نتصور أن من وجبت عليه الكفارة في الماضي سيذهب ليشتري الرقبة التي يعتقها من سوق الرقيق، حتى نربطها بالاستطاعة المادية، فربما كان مالكا رقبة – بالشراء، أو الهبة، أو قسم الغنيمة، أو بالوراثة – وقت وجوب الكفارة، ومن ثم لا مناص أمامه من إعتاقها.
رابعا: يقول الدكتور: (فإن جميع النصوص الشرعية التي ذكرت انتقال الشخص الذي وجب عليه تحرير رقبة في الكفارات إلى الصيام قيدت هذا الانتقال بعدم استطاعته المالية). ثم ذكر الآيات التي فيها الأمر بعتق الرقبة، وليس في واحدة منها عدم الاستطاعة، وإنما الانتقال إلى الكفارة التي بعدها مترتب على عدم الوجود بنص القرآن: (فمن لم يجد)، وعدم الوجود لفظ عام، يشمل: عدم وجود الرقبة، أو ما لا يتوصل به إليها، كما نص على ذلك المفسرون. وتخصيصه المعنى بعدم الاستطاعة المالية، تخصيص للِّفظ بلا دليل أو قرينة. لذا من العجيب أن يعقب الدكتور بقوله: (وبناءً على هذه النصوص الواضحات فإن الانتقال إلى قيمة الرقبة وهي محددة بالإجماع بخمسة جمال أولى وأوضح وأقوى من الانتقال إلى الصيام؛ لأنه انتقال إلى البدل المباشر)!!
فجعل اجتهاده الذي لم يُسبق إليه، (أولى وأوضح وأقوى) من اتباع النص، وما عليه عمل الأمة كلها، وهو بهذا يخالف عنوان الفتوى (جواز إخراج قيمة الرقبة)، إذ رفعه من درجة الجواز إلى ما يقارب الوجوب!!
خامسا: قاس الدكتور إخراج قيمة الرقبة، على إخراج قيمة الزكاة، وقيمة الديات، وقيمة إطعام المساكين أو كسوتهم في الكفارات، لكن هناك فوارق بين المقيس والمقيس عليه: فمقصود الزكاة سد خلة الفقير، وهو يتحقق بدفع القيمة، كما يتحقق بإخراج جنس ما وجب عليه من زكاة الأنعام والزروع. لكن مقصد تحرير رقبة إنسان من ذل الرق، لا يتحقق بدفع قيمة هذه الرقبة.
كما أن لكل من الزكوات، والديات، وإطعام المساكين أو كسوتهم، مَن تدفع إليه هذه القيمة، وليس كذلك في قيمة عتق الرقبة، فقيمة الزكاة تدفع لمستحقها، وقيمة الديات تدفع لأولياء الدم والمعتدَى عليه، وقيمة إطعام المساكين أو كسوتهم تدفع للمساكين ليقوموا هم بإطعام أنفسهم أو كسوتها، لكن لمن يا ترى قد تدفع قيمة الرقاب؟!
ومن ثم لا يصح قياس دفع قيمة الرقبة، على كل ما ذكر.
سادسا: رغم تحفظي على المسألة من أساسها، إلا أنه قد شابت مسألة تحديد القيمة عدة إشكالات، فقد سلك الدكتور عدة مسالك في التقدير، وذلك بقيمة خمسة جمال، أو نصف عشر الدية، أو عشر دية الأم على تقدير دية المرأة بنصف دية الرجل، أو خمسون دينارا من الذهب ما يساوي (215) جرام، وهي تقديرات متفاوتة تفاوتا كبيرا.
إذا قدرناها بقيمة الجمل على الحقيقة في السوق القطري، (4000) ريال للجمل × (5) جمال = (20000) ريال = (5480) دولار. مرة ونصف من القيمة المذكور (3500).
فإذا قدرناها بخمسين دينارا ذهبا ما يساوي (215) جرام × (136) ريال = (29240) ريال = (8010) دولار. أكثر من ضعفي القيمة المذكور (3500).
وقد حاول الدكتور الخروج من هذا الإشكال بقوله: (معظم العلماء على أن الأصل الذي يرجع إليه هو الإبل، لأنها من السلع المهمة الضرورية، أو الحاجية، وبناءً على ذلك نُقدِّر بها، وهي خمسة جمال متوسطة، وقيمتها في حدود عشرة آلاف ريـال قطري أو سعودي، وحتى لو قدَّرنا الدية بالنقود اليوم، فأكثر الديات المعتمدة لا تزيد عن مائتي ألف ريـال، وأن نصف عشرها هي عشرة آلاف ريـال، وهي تعادل (2740) دولارا، ولمن أراد الاحتياط فليدفع أكثر).
ولم يضع الدكتور في الحسبان أثر (تغير الزمان) على قيمة الرقبة لو فرضنا وجودها في هذا العصر، لقدرت بمئات الآلاف وربما الملايين من الريالات، وهذا المبلغ الذي فرضه الدكتور قيمة لرقبة إنسان، تدفعه الأسر الخليجية أو قريبا منه لاستقدام خادمة أو سائق للعمل، مقابل راتب، وعقد، وشروط محددة، فكيف يتصور قيمة للرقبة؟!
سابعا: لم يقدر الدكتور ما يمكن أن يترتب على فتواه من التشنيع على الإسلام – الدين الذي كرم العبيد، وكفل حقوقهم، ورغب في تحريرهم، ووعد عليه الأجر الجزيل، وأوجب ذلك في أغلب الكفارات والجزاءات والعقوبات الدينية، ووسع مخارج الرق وضيق مداخله، بحيث ينتهي بالرقيق إلى التحرير الكامل – وذلك بأن ينسب إليه أحد علمائه أن الإسلام يقدر قيمة رقبة الإنسان بـ(3500) دولار، أو بقيمة خمسة جمال!! في ظل واقع ملتبس، يريد بعض شذاذ الآفاق أن يعيدوا الإنسان فيه سلعة تباع وتشترى، وكأننا نمدهم إلى ذلك بسبب من حيث لا ندري.
وأخيرا: أشكر الدكتور القرداغي على جهده واجتهاده، وأدعوه إلى مراجعة الفتوى بناء على هذه الملاحظات، لا سيما الأخيرة منها، وغيرها مما سيرد إليه من إخوانه من العلماء ومن طلبة العلم، فليس في العلم كبير، وكل يؤخذ منه ويرد عليه، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلى وأعلم.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.