مقالاتمقالات مختارة

مكانة الأحداث التاريخية في أحكام غير المسلمين

بقلم أ. عصام تليمة

من أكبر الأخطاء التي تحدث في النقاش الفقهي، وبخاصة في الفقه السياسي، وأحكام غير المسلمين، أن يستدل الباحث بأحداث تاريخية للدلالة على صحة ما ذهب إليه من رأي فقهي، ولذا يفرق العلماء بين أمرين مهمين يحدث فيهما خلط كبير، ينبغي علينا أن نفرق بين: الإسلام، والفكر الإسلامي، فالإسلام هو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تكفل الله بحفظه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: 9، وهذا الوحي له عند المسلم مكانته، من التقدير والتقديس والاحترام والاتباع، وهو يمثل أهم الثوابت التي تتفق عليها الأمة الإسلامية.

أما الفكر الإسلامي: فهو فهم المسلمين وعلمائهم لهذا الوحي، وتطبيقهم له، فكل رأي لإمام من الأئمة ـ فيما هو مختلف فيه ـ يعد فهما منه لهذا الوحي، وليس ملزما للأمة، ولا مقدسا لديها، قابلا للأخذ والرد، ولذا وجد في أمتنا مذاهب فقهية متعددة، لها قدرها واحترامها، ولكنها ليست موضع تقديس، بل موضع أخذ ورد، ومساحة الأخذ منها والترك كبيرة جدا. وما يقال عن فهم الصحابة وتطبيقهم للإسلام، يقال عن بقية الأمة، مهما كان كان شأن من ينقل عنه الرأي الفكري والفقهي، مع وضع كل صاحب قول في مكانته اللائقة به.

وإذا كان على الباحث في المجال الفقهي، أن يستدل أولا بنصوص من القرآن الكريم، ثم من السنة النبوية، وعليه عند الاستشهاد بالسنة، أن يدقق في الحديث من حيث السند، وهل هو صحيح أم ضعيف؟ وهل إذا صح سنده، يسلم متنه من النقد أم لا؟ وإذا صح السند والمتن، هل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل ورد بصفة التشريع، أم بصفة السياسة أو القضاء أو بالصفة البشرية المحضة؟ وهو كلام طويل فصل فيه العلماء القدامى، وأسهب فيه من المعاصرين عدد كبير من علمائنا الأجلاء.

وإذا كان هذا التدقيق يتم فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالعجيب أن البعض يستشهد بمن ليس مصدرا للتشريع، وهو ما ينقل عن الصحابة، وعن الخلفاء الراشدين، ويستدل بأفعالهم وأقوالهم، على أنها قول فصل لا تناقش، رغم أن سيرة الراشدين والصحابة والتاريخ الإسلامي بوجه عام لم تنل من الأهمية والعناية ما نالته كتب السنة المطهرة، فقد كان مؤرخونا يتعاملون مع التاريخ على أنه أحداث لا ينبني عليها عمل، وليست سندا للتأصيل الفقهي، وهذا ما يغفل عن كثير من الباحثين، فهو يهمل ما أصلته النصوص الشرعية، وما أرسته المدارس الفقهية من أحكام وأفهام لنصوص الشرع، ليذهب ينهل من كتب التاريخ على عِلاّتها، وبخاصة أنها لم تنل أي درجة من التدقيق والاهتمام.

بل قد نجد في كتب التاريخ القول ونقيضه، والفعل وعكسه تماما، عن نفس الشخص، وربما رأينا أحداثا ومواقف نستبشعها عن أناس عظماء، وذلك لأن المؤرخين لم يهتموا بالتدقيق في بادئ الأمر، وبينوا ذلك في كتبهم، أن هدفهم هو الجمع للأحداث والروايات، وعلى من يقرأ أن يدقق خلفهم، وهذا ما قاله مؤرخ كبير كالإمام الطبري في مقدمة كتابه في التاريخ: (فما يكن من كتابي هذا من خبر ذكرناه، عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبلنا، وإنما أتى من قِبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا).[1]

وهو ما جعل العلامة الشيخ الغزالي رحمه الله ينبه على ذلك ويقول: وكأني أشعر أن علماءنا الذين دونوا كتب التاريخ، كانوا أشبه بوكيل النيابة الذي لا يعنيه صدق الشاهد من كذبه، ولا معقولية ما يقول من عدمه، بل يعنيه أن يدون كل ما يقوله، وكل ما ينطق به أي شاهد، ويترك بعد ذلك لساحة المحكمة والقاضي التحقييق والتمحيص، والمقارنة، والمواجهة، فالمؤرخ أشبه بوكيل النيابة، والمحقق أشبه بالقاضي الذي يحكم بالضعف أو القوة على ما يذكر.

هل يعتبر الحدث التاريخي دليلا على حكم شرعي؟

هذا من حيث ثبوت سند أحداث التاريخ، أما من حيث ما تفيده في الأحكام الشرعية: فهناك فرق كبير بين النص الشرعي، والحدث التاريخي الذي يمثل التطبيق العملي للمسلمين لفهمهم للإسلام، وهو عرضة للصواب والخطأ كما بينا، وفي النهاية الأحداث التاريخية تقيم بنصوص الشرع، لا العكس، أن نقيم النصوص ونفهمها في ضوء حوادث التاريخ، فعلينا دوما أن نجعل الأحداث التاريخية موضع تفكير، لا مصدر تفكير، وشتان بين المنهجين.[2]

وما ورد من نصوص حول سنن الراشدين، فهي نصوص لها توجيه وتأويل، ولها سياقات ومناسبات مهمة، وقد رأينا صحابة أجلاء خالفوا أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وقد كانوا خلفاء راشدين يقدرونهم، لكنهم مع ذلك لم يروا أي حجة شرعية في أقوالهم أو أفعالهم. وهو ما يحتاج إلى تفصيل وتوضيح في هذه النقطة، حول: مدى حجية أقوال وأفعال الخلفاء الراشدين، وهل إجماع الخلفاء الراشدين في حد ذاته حجة شرعية أم لا، وبخاصة عند مخالفة أحد من الصحابة له؟


[1] انظر: تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري (1/5).

[2] لمزيد من التفصيل حول الحذر من كتب التاريخ في التأصيل الفقهي والاستدلال: تاريخنا المفترى عليه للدكتور يوسف القرضاوي. ومقال: رفض الاستسلام لمصادرنا التاريخية للدكتور عماد الدين خليل المنشور في مجلة (المسلم المعاصر) العدد الثلاثون: إبريل ـ يونية سنة 1982م. وانظر: المداخل المنهاجية للبحث في العلاقات الدولية في الإسلام، مبحث: ضوابط التعامل مع التاريخ الإسلامي لدراسة العلاقات الخارجية في عصر النبوة والخلافة الراشدة للدكتور مصطفى منجود ص 105-154. طبعة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى