مكافحة الفساد ضرورة واجبة
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
الفساد، مرض عضال، عرفته كل المجتمعات منذ فجر تاريخ الإنسان على الأرض بمستويات وأنواع ومظاهر وأسباب تختلف باختلاف نوع الثغرات التي تصيب قلوب أفراد هذه المجتمعات، وتنتقل إلى سائر مؤسساتها من خلال صناعة المفسدين في الأرض من المترفين.
فالفساد، هو اختلال كلي أو جزئي يصيب عقائد وأخلاق وقيم أفراد ومؤسسات أي مجتمع، ويتوقف حجمه على حسب نوع الفساد وقوة المفسدين وتمكنهم من ناحية، وقدرة ومناعة مؤسسات المجتمع وشبكة علاقاته العقيدية والاجتماعية على مقاومته من ناحية أخرى.
وسواء كان الفساد كلياً أو جزئياً فإنه يبدأ من نقطة ضعف محددة داخل إحدى مؤسسات المجتمع لينتشر من خلالها في باقي جوانب المجتمع كما انتشار الخلية السرطانية في الجسد حتى يقضي عليه تماماً أو يصيبه في بعض مقاتله حسب قوة أو ضعف جهاز مناعته العقيدي والأخلاقي والاجتماعي.
والفساد، هو داء العصر الحديث الذي فاق كل داء، وتخطى كل حدود الدين والعقل واجتاز كل حدود الدول، فلم تسلم منه دولة ولا نجى منه مجتمع من مجتمعاتنا المعاصرة، لا فرق في ذلك بين: مجتمع غني وآخر فقير، متقدم أو متأخر، في الشمال أو في الجنوب، فلقد استشرى داؤه حتى عم البشرية كلها.
ومصطلح الفساد، في عالمنا المعاصر، يغطي مجموعة واسعة من الممارسات السياسية والاقتصادية والادارية المشبوهة والمريبة، ويشمل مساحة واسعة من الأعمال والتصرفات غير الشرعية التي تتشعب أسبابها وتتنوع آثارها وتشمل أنواعا مختلفة من أنماط السلوك الشاذة.
وقد اجتهدت كل النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، في عصرنا الراهن، في بيان المرتكزات والأسس والوسائل المتعددة لمكافحة الفساد لسد منافذه وغلق كل الثغرات التي ينفذ منها، لكنه ما زال ينمو وينتشر ويتقن صناعته يوماً بعد الآخر، وعاماً بعد الآخر، وتنتشر عدواه من مجتمع لآخر، حتى صار سرطاناً خطيراً تعاني منه كل المجتمعات.
وعلى الرغم من أن الإرهاب يهدد بإزهاق الأرواح البريئة وينشر الرعب بين الأمم، فإن الفساد؛ بكل مظاهره الفاجرة، قد تخطى الإرهاب في خطورته بتهديده الحياة ذاتها على الأرض، من جراء ما ينتجه من تدمير للبيئة، بعد تدميره للقيم والأخلاق والثروات ونظم الاجتماع والاقتصاد.
ولهذا أجمعت كافة الدول والمنظمات العالمية؛ حكومية وغير حكومية، على أن الفساد من أخطر التحديات التي تواجه تحقيق الرخاء البشري، وتهدد جهود كل المجتمعات في سعيها من أجل حياة طيبة لأبناء آدم، خاصة أن سعة انتشاره، وتنوع أنواعه ومظاهره، وحجم الخسائر الهائلة التي يسببها صارت تهديداً حقيقياً لحياة الناس على الأرض؛ أشد من خطر الإرهاب الأعمى الذي يهدد النفوس بالموت.
لكن، الملاحظ فعلياً، أن حصيلة معظم معالجات هذه الدول والنظم السياسية والاقتصادية، والوكالات الدولية والمنظمات غير الحكومية لقضية الفساد، ضعيفة وغير حاسمة في اجتثاث بذوره من مجتمعاتنا المعاصرة. ويعود، هذا الضعف في مكافحة الفساد، ضمن ما يعود، إلى النقص الذي يعتري منطلقات هذه المداخل، وتركيزها على الوسائل الإجرائية والقانونية تحديداً، دون الأسس والمرتكزات العقيدية والقيمية، وكذلك لتضييقها نطاق الفساد المقصود مكافحته، وحصره في الجوانب المادية المتعلقة بمجموعة محددة من الممارسات السياسية والاقتصادية والإدارية والتشريعية القانونية، دون غيرها من الجوانب المعنوية المتمثلة في العقائد والقيم والأخلاق التي تشكل رؤية الإنسان للحياة: معناها، ومبناها، وغاياتها، وأسسها.
وقد حذرت الأديان السماوية كلها، منذ هبط أبينا آدم إلى الأرض ومعه هدى الله، مروراً بسلسلة الأنبياء والرسل حتى عيسى عليه السلام، من مغبة الوقوع في الفساد، أو الوقوع في خطيئة رد أسبابه إلى الجوانب المادية فقط. وكان اللاحق منهم-عليهم السلام-، يعيد التذكير بما أكد عليه السابق، من ضرورة فهم أسباب الفساد حتى يمكن مكافحته، وضرورة الاعتبار بما حدث للأقوام السابقة من التدمير والعذاب، والوقوع في العنت والضيق الدنيوي بسبب مخالفة أوامر الله، والسقوط في هاوية الفساد وقبضة المفسدين. وعلى الرغم من ذلك، ظل الفساد يزداد انتشاراً، حتى ظهر في البر والبحر عند بداية نزول الوحي القرآني على الرسول الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.
وعبر، 23 عاماً من الوحي، تتابع القصص القرآني يبين أحوال الأمم السابقة، وأنواع الفساد التي وقعت فيها وأسبابها ومظاهرها ونتائجها. وليس هذا وحسب، بل بيّن منهج السنة النبوية المشرفة، عبر سنوات البعثة، كل أنواع الفساد التي عانى منها مجتمع العرب في مكة والمدينة وما حولهما، والفساد الذي عم الكون كله، حتى غمر بظلامه الأرض والنفوس البشرية ، من جراء “ما كسبت أيدي الناس”.
والإسلام-بصفته الدين الأخير والرسالة الخاتمة-، هو كلمة الفصل السماوية الأخيرة، في بيان معنى الفساد، وأسبابه، وأنواعه، ومظاهره: القديم منها والمعاصر لوقت الرسالة، وكيفية مكافحته، وسد الثغرات التي ينفذ منها لنفوس البشر وقلوبهم وعقولهم، ومن ثم مؤسساتهم المختلفة، في أي زمان ومكان.
والقرآن المجيد، كونه مصدقاً، ومهيمناً وحاكماً على ما سبقه من رسالات وكتب، وعلى ما لَحِقَهُ من مذاهب ونظم، قد تتبع أنواع ومظاهر وآثار الفساد والمفسدين، ووجهنا من خلال: مرتكزاته وأسسه، والعبر المستفادة من تاريخ المفسدين، إلى كيفية مكافحته.
وقد نجح منهج السنة النبوية المشرفة، المستمد من هدي القرآن المجيد المنزل على قلب محمد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، في مكافحة الفساد، نجاحاً شهد له التاريخ، ولم يستطع مجتمع غيره أن يقاربه في درجة نجاحه حتى اليوم.
فالسنة النبوية المشرفة، كانت هي المنهج الذي مَثّلَ التطبيق الأمين لمنهج القرآن في مكافحة الفساد، عبر ثلاثية: النص الهادي، والتاريخ العبرة، والواقع المنظور، حتى أخرجت خير أمة للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
وها نحن، اليوم، نواجه فساداً مستعلناً ظاهراً في البر والبحر، تطورت صناعته، وتمرس مَلأهُ المفسد المترف، في صنعه وتزيينه وبهرجته، حتى فتن جميع الناس، في كل المجتمعات، ومن مختلف الأعمار والفئات، فزادت مظاهره، وتعددت أنواعه، وتنوعت أساليبه، حتى خفيِت على اللبيب الأريب, وحارت في مكافحته وسد منافذه المؤسسات المختلفة ذات القدرات والوسائل المبتكرة، وفجعتنا آثاره المدمرة على النفوس والأبدان والأرض التي نعيش عليها.
ومن هنا، تكمن أهمية البحث في وعن منهج مكافحة الفساد في السنة النبوية، فقد تفشي الفساد في مجتمعاتنا المسلمة بشدة: أنواعاً ومظاهراً وآثاراً، فتراجعت إلى مؤخرة ركب الإنسانية في نوعية الحياة الطيبة المطمئنة، بسبب فشل كل الإجراءات والوسائل التي اتخذتها المذاهب والنظم الأرضية التي جربناها في مكافحته.
وفي ضوء هذا الوضع الخطير، يجب على كل باحث مخلص، وعالم مؤتمن، وسياسي مسئول، أن يرجع إلى إسلامنا: قرآناً وسنة، يعيد قراءتهما من جديد، موقناً أنهما ما زالا صالحين اليوم والغد وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في مكافحة الفساد، كما كانا صالحين يوم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. خاصة، إذا علمنا أن “ثلث الفساد المالي فقط، مركزه في الوطن العربي، ونصفه في العالم الإسلامي”[1]، فكيف يكون الأمر، لو وجدت المقاييس والمؤشرات التي تقيس باقي أنواع الفساد المعنوي والخلقي في مجتمعاتنا؟
لذلك فمن أهم مهام وأولويات المراكز البحثية الجادة في النهوض بالأمة المسلمة، اليوم، هو تقصي أحوال الفساد في عالمنا المعاصر وفي مجتمعاتنا العربية والمسلمة، والمقارنة بين مناهج مكافحتها التي تتبناها المذاهب الأرضية المعاصرة في الشمال والجنوب وداخل مجتمعاتنا العربية والمسلمة، وبين منهج السنة النبوية المشرفة المستمد من القرآن المجيد في مكافحته. وبيان أوجه الاختلاف بين المنهجين في: المرتكزات والأسس والوسائل المتعلقة بمكافحة الفساد في الواقع، على الوجه الذي يمهد الطريق لإتخاذ منهج السنة المشرفة مرتكزاً وأساساً متيناً ومضموناً لنجاح كل خطط مواجهة الفساد في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، ونبراساً تهتدي به البشرية في سعيها لمكافحة الفساد، ويصلح أن يكون بياناً إسلامياً عالمياً حقيقياً لمكافحته، وتجفيف منابع بذوره الهدامة، واجتثاث جذور شجرته الخبيثة من العالم، وتحصين كل الثغور التي ينفذ منها إلى المجتمعات فيفسدها ويجعل عاقبة أمرها خسراً، وبيان كيف يمكننا أن نطبق هذا المنهج اليوم، عبر مؤسسة تحمل معالم هذا المنهج، وتنشره بين الأطفال والناشئة في مجتمعاتنا المسلمة حتى تسلم أجيالنا القادمة من الفساد الذي طال أجيال كثيرة سبقت، وفي القلب منها جيلنا الحالي في كل أرض مسلمة، لتكون بذرة وبداية موفقة لبيان هذا المنهج الفذ في التاريخ، وإعادة إحياءه من جديد في القرن الحادي والعشرين، عبر هذه المؤسسة المقترحة. فهل من مجيب؟؟؟؟
__________________________________________________________________
[1] تقرير الفساد العالمي 2005 نقلا عن:عصام البشير، الفساد المالي وأثره على الفرد والمجتمع على الرابط التالي
http://esamalbashir.net/site/index.php?option=com_content&view=article&id=60:2012-04-30-16-56-46&catid=31:2012-04-30-00-48-30&Itemid=46